بدأت إيران وضع الخطوط العريضة لسياستها خارجياً وداخلياً للعام المقبل بعد "النكسات" التي تعرضت لها خلال 2024، خاصةً بعد سقوط حليفها بشار الأسد في سوريا والخسائر الكبيرة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، وفي ظل وضع اقتصادي واجتماعي مشحون على المستوى الداخلي في البلاد.
بعد سنوات طويلة من دعم نظام الأسد في سوريا، والاستثمار الإيراني الهائل من الأموال والدماء لتثبيت أقدام "الحليف العربي" الموثوق به في "محور المقاومة"، وقفت طهران تشاهد انهيار نظام الأسد ونهاية نفوذها في سوريا، واتهم المرشد الأعلى الإيراني إسرائيل والولايات المتحدة بتدبير مؤامرة للإطاحة بالأسد.
لكن مع مرور الوقت بدأت إيران تتجاوز ولو ببطء صدمة سقوط الأسد، وتحاول المؤسسة السياسية في طهران البحث عن استراتيجية جديدة لسياساتها الخارجية والداخلية، في محاولة لتعديل حظها العاثر في عام 2024. فكيف يخطط قادة إيران للدخول في العام الجديد؟ وما التحديات التي ستواجه خططهم؟
خارجياً: مخاوف من تصعيد إسرائيلي
بعد دراسة أسباب النكسة الاستراتيجية التي مُنيت بها إيران إقليمياً وانهيار "محور المقاومة" الذي كان جزءاً أساسياً من استراتيجيتها الدفاعية، تزداد المخاوف من أن هذه النكسات قد تقدم فرصة لإسرائيل لاستهداف الأراضي الإيرانية مرةً أخرى، بحسب مصادر إيرانية مطلعة تحدثت لـ"عربي بوست".
وفي هذا الصدد، يقول سياسي إيراني مقرب من دوائر صنع القرار في طهران لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه، "هناك مخاوف كبيرة داخل المؤسسة الإيرانية من أن ما حدث في سوريا قد يشجع نتنياهو بالتعاون مع صديقه ترامب على ضرب البرنامج النووي الإيراني للقضاء على إيران تماماً كما يتوهمون".
وأضاف المصدر ذاته قائلاً: "المخاوف وصلت إلى أكبر قيادة في البلاد: علي خامنئي، الذي أمر القادة السياسيين والعسكريين بالاستعداد لأي احتمالات في المستقبل القريب، مع بذل المزيد من الجهود لمنع حدوث مثل هذا الأمر من خلال محاولة حكومة پزشكيان التواصل مع إدارة ترامب المقبلة".
وفي نفس السياق، قال مصدر من مكتب المرشد الأعلى الإيراني لـ"عربي بوست"، إن خامنئي طلب من مستشاريه والقادة السياسيين إمداده بتقارير لتقدير موقف طهران خارجياً.
وقال المصدر ذاته لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته: "التقارير كانت سيئة للغاية، الخسارات هائلة، وفي اجتماع لخامنئي مع القادة السياسيين ومستشاريه، قيل له إن إيران فقدت الكثير من مكانتها الإقليمية، بالإضافة إلى أن وضع البلاد اقتصادياً في أسوأ حالاته".
وبحسب المصادر الإيرانية المطلعة التي تحدثت لـ"عربي بوست"، فإن التقارير التي تم تقديمها للمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، تقول إنه من الصعب التواصل مع القيادة الجديدة لسوريا في الوقت الحالي على الأقل، وربما في المستقبل القريب قد تتحسن الأمور قليلاً.
وبالإضافة إلى ذلك، ذكرت التقارير غير المعلنة والتي اطلع عليها المرشد الأعلى ومسؤولو مكتبه، أن طهران حالياً من خلال فيلق القدس تحاول التواصل مع قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد السوريون بهدف تلمس الطريق لإيجاد أرضية مشتركة للتعاون في المستقبل القريب.
وقال المصدر من مكتب المرشد الأعلى لـ"عربي بوست": "التقارير التي أعدها الخبراء الإيرانيون تقول إن طهران لا تستطيع الدخول في صراع جديد مع إسرائيل أو أمريكا في الوقت الحالي، خاصةً مع حالة حزب الله السيئة، وفقدان الأسد، لذلك يمكن لإيران التركيز على شراء المزيد من الأسلحة المتطورة من الصين وروسيا، خاصةً أنظمة الدفاع الجوي".
وبالرغم من ذلك، أشار مصدر "عربي بوست" إلى أن طهران قد قامت بشراء العديد من أجهزة الدفاع الجوي من روسيا خلال الأشهر القليلة الماضية، لكنها ما زالت بحاجة إلى تحديث أسلحتها التقليدية.
تحديات مالية تُعيق التسلّح
لكن في نفس الوقت، الوضع الاقتصادي لإيران يزيد من العقبات أمامها لتقوية سلاحها داخلياً، فيقول المصدر ذاته لـ"عربي بوست": "حتى إذا وافقت روسيا والصين على بيع الأسلحة المتقدمة إلى إيران، فإن الأموال اللازمة لشراء هذه الأسلحة ستظل عقبة كبيرة أمام البلاد، خاصةً مع ضرورة إمداد حزب الله بالأموال لاستعادة عافيته".
وعلى ذكر حزب الله في لبنان، الذي دخل في هدنة هشة مع إسرائيل، يقول السياسي الإيراني المقرب من المؤسسة السياسية: "حزب الله وحده يحتاج إلى ما يقرب من 10 مليارات دولار لإعادة إعمار جنوب لبنان واستعادة قوته، ولابد أن تساهم إيران بالكثير من الأموال في هذه العملية، وإلا فإن أمور حزب الله ستزداد سوءاً، ناهيك عن إمداد الحوثيين بأسلحة متقدمة وطرق شحن هذه الأسلحة التي تحتاج الكثير من الأموال".
وبحسب المصادر الإيرانية، فإن طهران تعتمد الآن بشكل كبير على الحوثيين في اليمن لتعزيز قوة ردعها ضد إسرائيل. ولكن رأى قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ضرورة ملحة في إمداد الحوثيين بأسلحة متقدمة لتعزيز موقفهم في مواجهة إسرائيل، التي بدأت مؤخراً في شن هجماتها على جماعة أنصار الله المدعومة من طهران في اليمن.
لكن هذه العملية تكلف إيران الكثير من التكاليف اللوجستية والأمنية لضمان وصول الأسلحة إلى اليمن بشكل آمن.
ووفقاً للمصادر الإيرانية المطلعة التي تحدثت لـ"عربي بوست"، فإن المسألة الأكثر إيجابية إلى حد ما فيما يخص محور المقاومة هي صمود الحوثيين وعملهم مع القادة العسكريين الإيرانيين لتعزيز قوتهم. ما عدا ذلك، فكل النقاط الأخرى التي جاءت في تقارير الخبراء "كارثية"، على حد تعبير المصدر السياسي من مكتب خامنئي.
وفي اجتماعه الأخير مع المسؤولين والمستشارين، ناقش خامنئي وضع الفصائل المسلحة الشيعية المقربة من إيران في العراق.
ووفقاً للمصادر الإيرانية المطلعة على هذا الاجتماع، أخبر الحاضرون خامنئي بأن الحرس الثوري قلق للغاية بشأن ما يتردد عن مطالب أمريكية للحكومة العراقية بحل الحشد الشعبي. وبحسب المصادر، فإن خامنئي طلب من المسؤولين التحرك فوراً لتعزيز النفوذ الإيراني في العراق في محاولة لاحتواء انهيار محور المقاومة، ولكن دون الاصطدام بالحكومة العراقية.
وأشارت المصادر الإيرانية إلى أن خامنئي اقترح البدء في العمل على فتح الاتصالات مع السياسي العراقي ورجل الدين الشيعي مقتدى الصدر من أجل التحضير للانتخابات البرلمانية القادمة في العراق، وحث الفصائل المسلحة العراقية على عدم الانجرار إلى صراعات، وإيقاف هجماتهم ضد إسرائيل.
خارجياً: سياسة أكثر تصالحية
بعد مناقشة التقارير مع المرشد الأعلى، قدم الخبراء الإيرانيون لخامنئي توصيات باتباع إيران في المرحلة المقبلة سياسة أكثر تصالحية مع الولايات المتحدة والغرب من ناحية، والدول الخليجية والعربية من ناحية أخرى.
وبحسب المصادر الإيرانية المطلعة على الأمر، اقترح الخبراء على خامنئي أن تدخل إيران في مفاوضات مباشرة مع فريق ترامب بعد توليه منصبه، من أجل التوصل إلى صفقة لتخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران وضمان عدم اندلاع صراع عسكري بين طهران وواشنطن أو إسرائيل، مع طمأنة واشنطن على عدم سعي طهران إلى امتلاك سلاح نووي وتقديم بعض التنازلات.
وفيما يخص السياسة الإقليمية الإيرانية، اقترح الحاضرون في اجتماع خامنئي أن تقوم طهران باستغلال النجاح الملموس في علاقاتها مع السعودية والبناء عليه، بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها مع مصر والأردن من أجل مواجهة النفوذ التركي، خاصةً وأن هناك العديد من الدول العربية والخليجية قلقة من وصول هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا إلى الحكم في سوريا.
داخلياً: التهدئة مطلوبة
أما فيما يخص السياسة الداخلية في إيران، فبحسب المصادر الإيرانية المطلعة، فإن بعض مستشاري خامنئي من المعتدلين طالبوا المرشد الأعلى بضرورة تخفيف القيود الاجتماعية لعدم اندلاع أي احتجاجات اجتماعية في الوقت الحالي.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي المقرب من دوائر صنع القرار في طهران، رسول بابازاده، لـ"عربي بوست": "هناك توجه داخل المؤسسة السياسية في طهران، وخاصة من المعسكر المعتدل في مكتب خامنئي ومستشاريه، بضرورة التقليل من القيود الاجتماعية لضمان عدم انفجار الأوضاع داخلياً واستغلالها من القوى الخارجية".
وأضاف رسول بابازاده قائلاً لـ"عربي بوست": "فقد أوقف المجلس الأعلى للأمن القومي تطبيق قانون الحجاب الجديد بالرغم من ضغط المتشددين، وقام المجلس الأعلى للفضاء الإلكتروني برفع الحجب عن تطبيقات مثل واتساب وجوجل بلاي".
وكانت حكومة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي قد قدمت مشروع قانون لتشديد العقوبات المفروضة على النساء اللاتي يظهرن بدون الحجاب في الشوارع والأماكن العامة، وأصر نواب البرلمان، الذي يسيطر عليه المتشددون، على تمرير مشروع القانون، بالرغم من اعتراض حكومة الرئيس الإصلاحي الحالي مسعود پزشكيان.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير السياسي رسول بابازاده لـ"عربي بوست": "المتشددون يرون أن تطبيق قانون الحجاب الجديد ومثله من القيود الاجتماعية في هذا الوقت هو دليل على قوة النظام الإيراني، لكن المحافظين البراجماتيين والمعتدلين يرون أن الوضع غير مناسب لأي انفجار اجتماعي آخر، مثلما حدث في عامي 2022 و2023".
وتقول المصادر الإيرانية التي تحدثت لـ"عربي بوست" في هذا التقرير: "إن آخر ما تتمناه المؤسسة السياسية الإيرانية في الوقت الحالي أن تعصف بالبلاد موجة احتجاجية أخرى".
ويصف الخبير السياسي الإصلاحي رامين مجيد الاحتجاجات السابقة في عام 2022 بأنها "وجهت ضربة قوية لشرعية النظام الإيراني، والآن إيران تعد خسائرها الخارجية ولن تستطيع السيطرة على موجة جديدة من الاحتجاجات الداخلية".
وأضاف المتحدث ذاته قائلاً: "الأولوية الكبرى الآن لدى المؤسسة الإيرانية هي الحفاظ على بقاء واستمرار هذا النظام، لذلك ستتمتع ببعض المرونة في القضايا الداخلية لضمان الاستقرار الداخلي".
"ظروف حساسة" يعيشها النظام الإيراني
كما أشار رامين مجيد إلى الظروف الحساسة التي يمر بها النظام الإيراني، فيقول لـ"عربي بوست": "خامنئي يبلغ من العمر 85 عاماً، ويريد أن يضمن انتقالاً سلساً وسلمياً لقيادته وخليفة له يحافظ على إرثه. يتزامن ذلك مع الخسائر الإقليمية لإيران وغضب الإيرانيين من خسارة الأموال الإيرانية التي تم صرفها على الجهات الخارجية من أجل محور انهار في عام واحد، وهم يعانون في الداخل".
ويرى الخبير والناشط السياسي رامين مجيد أن القيادة الإيرانية تأخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار وبشكل أكثر جدية بعد خسارة سوريا.
ويقول لـ"عربي بوست": "كانت العقيدة التي تحدث عنها المرشد والقادة العسكريون للحرس الثوري مراراً، وهي أن دعم جهات خارجية وتقديم الأموال الطائلة للأسد، بهدف منع وصول الأعداء إلى الأراضي الإيرانية، والآن انهار المحور وضربت إسرائيل عمق إيران، وانهارت هذه العقيدة. وهذا كله من الممكن أن يدفع الإيرانيين، الذين يعانون من مآسي اقتصادية وانقطاع الكهرباء، إلى الخروج إلى الشوارع".
ويقول السياسي الإيراني المعتدل، المقرب من دوائر صنع القرار في طهران: "كان عام 2024 عاماً كارثياً بالنسبة لإيران، ومن الممكن أن يكون عام 2025 أصعب وأشد قسوة، فبين مواجهة الخسائر الإقليمية وأكبرها خسارة سوريا، وبين مواجهة المتشددين في الداخل الذين يعارضون التفاوض مع الغرب أو تخفيف القيود الاجتماعية، ستكون حكومة پزشكيان أمام اختبار صعب".
كما توقع المتحدث: "وسط الظروف والتحديات الحالية أمام إيران، فمن المتوقع أن تتبنى القيادة بعض المرونة في الكثير من القضايا الداخلية والخارجية، فالمؤسسة السياسية في إيران لديها القدرة على تكييف استراتيجيتها مع الديناميكيات الجديدة بشأن ضمان أمنها القومي، وحدث ذلك قبل ذلك عندما أبرمت الاتفاق النووي مع الغرب في عام 2015".