معاناة جديدة للفقراء في مصر.. الحكومة تقلص قائمة المستفيدين من حليب الأطفال المدعم عبر شروط جديدة

عربي بوست
تم النشر: 2024/12/26 الساعة 11:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/12/26 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
ارتفاع أسعار لبن الأطفال الصناعية بمصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

زادت الحكومة المصرية من متاعب الفقراء بعد قرار وزارة الصحة المصرية الأخير حصر المستفيدين من لبن الأطفال المدعم في مصر في حالات محددة، وضيقت بذلك الخناق على شرائح واسعة من المصريين، خاصة أن القرار سيشمل حتى الأمهات اللاتي يعانين من ضعف إدرار اللبن الطبيعي.

وتجد أسر مصرية كثيرة صعوبة في توفير ميزانيات شراء اللبن الصناعي من الصيدليات مع ارتفاع أسعاره بصورة كبيرة مؤخراً، متأثراً بتراجع قيمة الجنيه، وفي ظل أزمات نقصانه بين الحين والآخر، مما خلق أزمة جديدة في الوحدات الصحية التي كانت تصرف لبن الأطفال المدعم في مصر بعد صدور تقرير طبي للتأكد من عدم قدرة الأم على الرضاعة الطبيعية.

حسب القرار الجديد، فإن صرف الألبان الصناعية سيقتصر على حالات وفاة الأم أو حجزها بالرعاية المركزة لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام، أو إصابتها بمرض خطير، أو مرض يستدعي استخدام العلاج الكيماوي أو العلاج الإشعاعي، بالإضافة إلى ولادة طفلين توأم فأكثر، أو الإصابة بالدرن (أول أسبوعين من العلاج فقط) والأطفال كريمي النسب.

ولم يعد من حق الأمهات اللاتي يعانين من ضعف إدرار اللبن أو من مشكلات صحية لا تندرج ضمن الشروط الحكومية الجديدة، الحصول على لبن مدعم لأطفالهن، وهو ما لا يراعي الأوضاع الاقتصادية للأسر المصرية والظروف الصحية لكثير من الأمهات التي تقول الإحصاءات الرسمية إن ثلثهن يعانين من الأنيميا.

لبن الأطفال المدعم في مصر ليس للجميع

قالت عبير محمد، طبيبة مصرية بإحدى الوحدات الصحية في منطقة بولاق أبو العلا، إحدى المناطق الشعبية بوسط القاهرة، إن وحدتها تشهد منذ بدء تطبيق القرار مع بداية هذا الأسبوع تجمعات عشرات السيدات اللاتي فوجئن بعدم أحقيتهن في صرف لبن الأطفال المدعم في مصر، وإن كثيراً من الأمهات جلسن يضربن كفوفهن دون أن تكون لديهن القدرة على توفير ميزانيات شراء اللبن الصناعي من الصيدليات.

وأضافت عبير في حديثها لـ"عربي بوست" أن بعض الأمهات "ندمن على اليوم الذي اتخذن فيه قرار الإنجاب، كونهن لا يستطعن توفير الغذاء لأطفالهن، وبعضهن يعتقد أن الحكومة تقوم بمعاقبتهن وتكشر عن أنيابها لمن يفكر في الإنجاب، بالتضييق على من أنجب أي 'اضرب من ينجبن ليكونوا عبرة لمن يريد الإنجاب'".

تشرح الطبيبة أن الألبان الصناعية المدعمة كانت تمر بإجراءات يمكن ضبطها لأن الأم تذهب إلى الوحدة الصحية التابعة لها ويتم توقيع الكشف الطبي عليها، وفي حال ثبت إصابتها بضعف إدرار اللبن يتم صرف اللبن المدعم لها حسب نسبة الضعف، ومن الممكن إحكام الرقابة والكشف الدوري على الأمهات للتأكد من ضعف الإدرار من جانب وزارة الصحة.

قرار منع لبن الأطفال المدعم في مصر عن بعض الفئات سيزيد معاناة الفقراء/ رويتيز
قرار منع لبن الأطفال المدعم في مصر عن بعض الفئات سيزيد معاناة الفقراء/ رويتيز

تشير الطبيبة إلى أن غالبية من يتردد على الوحدة الصحية للحصول على لبن الأطفال المدعم في مصر هم من الفقراء، وتتزايد نسبتهم كلما تراجعت قيمة الجنيه وارتفعت معدلات التضخم، وقبل عامين لم يكن هناك إقبال كبير من الأمهات على اللبن المدعم.

وتربط الطبيبة المصرية زيادة الإقبال على لبن الأطفال المدعم في مصر بارتفاع معدلات الفقر واضطرار بعض الأمهات إلى الحصول على اللبن المدعم لبيعه في السوق السوداء وتلبية احتياجات أبنائها مع صعوبة الإنفاق عليهم.

وشددت عبير محمد على أن القرار يعد مجحفاً لكثير من الأمهات اللاتي يفاجأن أثناء الرضاعة الطبيعية بتوقف الإدرار بسبب سوء التغذية، ويلجأن إلى مكاتب الصحة بعد الستة أشهر الأولى، وأخريات يعانين مشكلات صحية تتطلب التوقف عن الرضاعة الطبيعية.

وقالت إن هؤلاء أيضاً لم ينص عليهم القرار الجديد، الذي وضع صحة الأمهات والأطفال على المحك مع تصاعد معدلات المشكلات الصحية التي تعاني منها الأمهات، خاصة في المناطق الفقيرة.

مخاوف من التأثيرات السلبية على الفقراء

تعاني 38% من السيدات بين 15-49 عاماً في مصر من الأنيميا (أي واحدة من كل ثلاث سيدات)، وفقاً لنتائج المسح الصحي للأسرة المصرية لعام 2021، ويمثل هذا ارتفاعاً كبيراً عن عام 2014 حين كانت النسبة 25%.

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن الأمهات اللاتي يعانين من الأنيميا أثناء الحمل قد يواجهن انخفاضاً في مخزون الحديد لفترات طويلة بعد الولادة، ما يزيد احتمالية استمرار الأنيميا، خصوصاً في البلدان منخفضة الدخل.

وقال مصدر مطلع بوزارة الصحة إن ما يتراوح بين مليون إلى مليون و200 ألف طفل يستفيدون سنوياً من لبن الأطفال المدعم في مصر الذي تقدمه الوحدات الصحية التابعة لوزارة الصحة، وهؤلاء الأطفال وأسرهم سوف يتضررون بشكل كبير على المستوى الصحي وكذلك الاجتماعي.

وأوضح المتحدث أن الآباء سيكون عليهم توفير ميزانية لا تقل عن 2000 جنيه شهرياً (نحو 40 دولاراً) لشراء اللبن الصناعي المدعم، وهو مبلغ ضخم لفقراء إنفاقهم الشهري لا يتجاوز ضعف هذا الرقم أو أقل.

وأضاف مصدر "عربي بوست" أن اتجاه الحكومة إلى "فلترة" المستفيدين من اللبن الصناعي المدعم بدأ منذ ست سنوات، وفي ذلك الحين كانت تنوي عمل مناقصة لإسناد مهمة إنتاج لبن الأطفال المدعم لإحدى شركات الأدوية الخاصة بدلاً من الشركة المصرية لتجارة الأدوية الحكومية المسؤولة عن توزيع لبن الأطفال للوحدات الصحية.

لكن يوضح المتحدث أنه في اللحظة الأخيرة قبل إجراء المناقصة جرى التراجع عن الفكرة في ظل المخاوف من التأثيرات السلبية على الفقراء، وبفعل ضغط عدد من منظمات المجتمع المدني التي تولي اهتماماً بمجال الصحة. كما تدخلت هيئة الرقابة الإدارية في ذلك الحين وأوقفت القرار.

وأشار إلى أن الشركة المصرية منذ ذلك الحين تعمل بشكل تدريجي على تقليل الكميات الموردة إلى المراكز الصحية من علب لبن الأطفال المدعم في مصر، وحدث العديد من وقائع التلاعب في التوزيع وتهريب كميات كبيرة من عبوات الألبان التي تصنعها وبيعها في السوق السوداء.

كما أشار المصدر إلى أنه قبل إصدار القرار الأخير كان هناك تفكير داخل وزارة الصحة بإلغاء الدعم المقدم للأطفال الذين تجاوز عمرهم عام واحد، وبشكل مفاجئ جرى إصدار القرار بشكله الحالي.

وشدد على أن معدلات الأمهات اللاتي يعانين من الإصابة بالفشل الكلوي أو الفشل الكبدي أو الأورام ضئيلة للغاية، والقرار لم يراعِ أن مصر من بين 60 دولة تعاني من سوء تغذية الأطفال، ولا أن النسبة الأكبر من الأمهات يعملن في وظائف تتطلب التواجد لساعات طويلة وبعضهن يعملن مساءً.

كما أشار المتحدث إلى المرأة المعيلة أو السيدات اللاتي يعملن بعقود في شركات خاصة أو يعملن في مؤسسات حكومية برواتب ضئيلة للغاية لا تكفي لشراء اللبن الصناعي من الصيدليات، لكن أيضاً جرى تجاوز ذلك عند إصدار القرار.

ضغوط دولية لتخفيض الإنفاق الحكومي

بحسب مراجعة علمية نشرتها دورية Nutrition في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، فإن فقر الدم لدى الأمهات قد يكون له علاقة وثيقة بتوقف النمو والتقزم لدى الأطفال من سن (0-60 شهراً). وتشمل عواقب فقر الدم لدى الأم زيادة خطر وفاة المواليد، خاصة في البلدان النامية.

ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، ارتفعت نسبة الأطفال أقل من خمس سنوات المصابين بالأنيميا عام 2021 لتصل إلى 43%، مقابل 27.2% في المسح السابق الصادر عام 2014.

كما ارتفع معدل وفيات الأطفال الرضع الذين تقل أعمارهم عن عام في عام 2022 ليصل إلى 18.9 طفل لكل ألف من المواليد الأحياء، مقابل 14.6 طفل في 2014. ووفقاً للأرقام الرسمية، فإن مصر تنفق 20 مليار جنيه على أمراض التقزم والأنيميا.

وقال مصدر آخر بشركة الأدوية للصناعات المصرية إن عملية توزيع لبن الأطفال تشهد تلاعباً، ولم يكن معروفاً لماذا لم تتعامل معه الجهات الرقابية بوزارة الصحة طيلة السنوات الماضية.

حيث أوضح أن كثيراً من علب اللبن الصناعي المدعم الخاص بالأطفال تذهب إلى صيدليات معروفة في مناطق وسط القاهرة والدقي والمهندسين، إلى جانب مصانع تصنيع الحلويات في منطقة درب البرابرة بوسط القاهرة أيضاً.

ورغم أن هناك نظام توزيع إلكتروني، فإن عمليات تهريب علب الألبان استمرت، ما جعل المواطنين يدفعون فاتورة غياب الرقابة والفساد المنتشر داخل وزارة الصحة.

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي (رويترز)
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي (رويترز)

وأضاف مصدر "عربي بوست" أن منظمات حقوق المرأة والمجلس القومي للأمومة والطفولة لم يتحركا أمام الموقف الحالي، في حين أن تلك المنظمات لعبت دوراً من قبل في استمرار دعم ألبان الأطفال، كذلك فإن تحرك البرلمان جاء ضعيفاً للغاية.

وأشار إلى أن مسؤولي وزارة الصحة يؤكدون أن القرار الأخير هو نتيجة لضغوط تمارسها جهات دولية تسعى لتخفيض الإنفاق الحكومي على القطاعات الخدمية بوجه عام، وفي مقدمتها الصحة.

وحسب المتحدث، فإن ذلك ينفصل عن زيادة تسعيرة دخول المستشفيات الحكومية، ومنع صرف الدواء داخل تلك المستشفيات، ورفع أسعار خدمات العلاج على نفقة الدولة، ومروراً بقانون تأجير المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص والأجانب، ونهاية برفع الدعم عن لبن الأطفال.

وتوقع المصدر ذاته أن تتكرر طوابير الأمهات أمام الشركة المصرية لتجارة الأدوية، كما حدث قبل سبع سنوات حينما كانت هناك أزمة في توزيع اللبن المدعم على الوحدات الصحية.

وأشار إلى أن الشركة منذ ستينيات القرن الماضي تلعب دوراً محورياً في تقديم الدواء للمواطنين في المستشفيات الحكومية، وعدم الاعتراض الآن على القرار لا يعني عدم توقع حدوث التجمهر في فترات لاحقة مع الزيادات المستمرة في أسعار لبن الأطفال الصناعي، خاصة أن الأيام المقبلة سوف تشهد زيادة الإقبال عليه بسبب عدم توفر اللبن المدعم.

وأكد خالد عبد الغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، أن لبن الأطفال عبارة عن ثلاثة أنواع، والدولة تتحمل أكثر من 20 مليون علبة لبن أطفال سنوياً، والقيمة الإجمالية لبند لبن الأطفال فقط تبلغ 4 مليارات جنيه على وزارة الصحة.

وأضاف خلال مؤتمر صحفي للحكومة أن تكلفة العلبة تصل إلى ما يقرب من 158 جنيهاً، وفي النوع الأول يتحمل المواطن 5 جنيهات والباقي دعم من الدولة، وفي النوع الثاني يتحمل المواطن 26 جنيهاً والباقي تتحمله الدولة. كما أوضح أن الدولة تدعم الرضاعة الطبيعية لأن منظمة الصحة العالمية تؤكد ضرورة وصحة الرضاعة الطبيعية للإنسان.

وتابع عبد الغفار: "هناك بعض الحالات التي لا تستقيم معها الرضاعة الطبيعية نتيجة ظروف صحية معينة، لذلك هدفنا هو حوكمة عملية توزيع الألبان لتصل لمستحقيها".

تراجع الحكومة عن تقديم الخدمات الطبية

قال أحد نواب البرلمان، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن المناطق الشعبية والقرى ستواجه مشكلات كبيرة في أعقاب قرار وزارة الصحة، الذي لا بديل سوى التراجع عنه.

إذ إن إجمالي ما ستقوم الحكومة بتوفيره لا يتجاوز ملياري جنيه سنوياً، في حين أنها تسدد عوائد ديون بأكثر من تريليون جنيه. وأكد أن الترشيد في صرف لبن الأطفال قد يؤدي إلى إنفاق ضعف المبلغ في علاج أمراض التقزم وسوء التغذية عند الأطفال.

وشدد المصدر ذاته في حديثه لـ"عربي بوست" على أن إنفاق المصريين على الصحة تراجع بنسبة 25% العام الماضي، وهو ما يشير إلى أن الأوضاع الاقتصادية أثرت سلباً على الاهتمام بالجوانب الصحية. كما أن 60% من الإنفاق الصحي للمصريين يأتي من جيوبهم الخاصة، ما يؤكد تراجع حضور الحكومة في تقديم الخدمات الطبية.

وأشار إلى أن هناك أمهات يعانين من اضطرابات الغدة الدرقية، وتكيس المبايض، والتهاب ما بعد الولادة، وكل ذلك يؤدي إلى قلة إدرار لبن الأم. ويقع على عاتق عائل الأسرة التصرف لعلاج تلك الأمراض إلى جانب مصروفات اللبن الصناعي، التي قد تصل إلى 3000 جنيه شهرياً.

وبلغ معدل الفقر في مصر عام 2022، قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية، 32.5%، ارتفاعاً من 29.7% في العام 2019/2020، بحسب بيانات الحكومة المصرية المقدمة للبنك الدولي. أي أن هناك 33 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر وليس لديهم القدرة على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.

ويعاني نحو 14.4% من سكان مصر (15 مليون شخص) من انعدام الأمن الغذائي لعام 2023، بحسب برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة. ويعوض هؤلاء السكان عدم قدرتهم على الحصول على الحصة الكافية من العناصر الغذائية اللازمة باستهلاك كميات كبيرة من الخبز والسكر والزيت، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).

تحميل المزيد