بوادر أزمة حادة تلوح في الأفق بين المغرب وليبيا، بدأت ملامحها منذ انتهاء الاجتماع التشاوري الليبي الذي احتضنته مدينة بوزنيقة المغربية، الخميس 19 ديسمبر/كانون الأول 2024، بمشاركة أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا.
ورغم أن هذا الاجتماع ليس الأول الذي يحتضنه المغرب، إذ إن المملكة دأبت منذ نحو 10 سنوات على استضافة لقاءات تشاورية بين مختلف الفرقاء السياسيين الليبيين، إلا أن اجتماع بوزنيقة الأخير أغضب حكومة طرابلس التي يقودها عبد الحميد الدبيبة.
فلماذا غضبت طرابلس من التحرك الأخير للرباط؟ وهل غضب حكومة الدبيبة سببه اجتماع بوزنيقة أم هناك أسباب أخرى؟ وكيف استغلت الجزائر الوضع لتوجيه رسائل بخصوص الصحراء الغربية من قلب طرابلس؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصل الأزمة بين ليبيا والمغرب؟
لماذا غضبت طرابلس من مشاورات بوزنيقة؟
خلال أول زيارة له إلى المغرب بعد تسلمه السلطة في مارس/آذار 2021، وصف رئيس الحكومة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، العلاقات المغربية الليبية بالقوية والمتميزة، وأشاد بـ"جهود المملكة لتوحيد مؤسسات ليبيا واستقرارها سياسياً وأمنياً".
بعد أكثر من 3 سنوات على تصريحات الدبيبة في الرباط، كان للحكومة الليبية في طرابلس موقف مغاير من "التدخل المغربي في الشأن الداخلي الليبي"، وهو ما ترجمه بيان لوزارة الخارجية الليبية انتقد استضافة المغرب للجلسة التشاورية الأخيرة.
حيث أعربت الخارجية الليبية في مراسلة لها، نشرتها وسائل إعلام ليبية السبت 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، عن استغرابها الشديد من استضافة المغرب لجلسة حوار دون تنسيق مسبق أو اتباع الإجراءات الدبلوماسية المعمول بها في مثل هذه اللقاءات.
وفي مراسلة وجهها المكلف بتسيير أعمال وزارة الخارجية الليبية إلى وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، انتقد الطاهر الباعور استضافة المغرب لجلسة الحوار بين أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة في بوزنيقة المغربية، دون التنسيق المسبق معها أو اتباع الإجراءات الدبلوماسية.
وأكد المشاركون بالاجتماع التشاوري الليبي بمدينة بوزنيقة المغربية، الخميس 19 ديسمبر/كانون الأول 2024، في البيان الختامي، على ضرورة استمرار التواصل بين المجلسين للوصول إلى الحل السلمي للأزمة وتوحيد المؤسسات السيادية المنقسمة.
غير أن مصدراً دبلوماسياً مغربياً أوضح لـ"عربي بوست" أن حكومة الدبيبة "لم تقلقها الخطوة المغربية باحتضان المشاورات الجديدة، وإنما بسبب المشاكل الداخلية الليبية بين الدبيبة من جهة ورئيسي مجلس النواب ومجلس الدولة"، وشدد على أن المغرب "يسعى جاهداً لعدم الوقوع في المحظور، لأن ما يهمه هو استقرار ووحدة ليبيا".
بينما أكد الطاهر الباعور، في رسالته الموجهة إلى بوريطة، أن محمد تكالة وأعضاء مكتب رئاسة مجلس الدولة "أفادوا بعدم تلقيهم أي إخطار أو تواصل رسمي بشأن عقد هذا اللقاء، ما يثير التساؤلات حول منهجية التنسيق لمثل هذه الحوارات".
وقال الباعور: "نلفت انتباه الخارجية المغربية إلى ضرورة التنسيق المسبق معنا لعقد أي اجتماعات بين الأطراف الليبية على أراضي المغرب، ضماناً لعدم انخراط بعض الأطراف في مسارات موازية تشوش على الجهود الليبية للاستقرار".
مجلسا النواب والأعلى للدولة لهما رأي آخر
في المقابل، قالت اللجنة التنسيقية للقاءات المشتركة بين أعضاء مجلسي النواب والدولة في ليبيا إن أعضاء مجلسي النواب والدولة "لا يحتاجون لموافقة أحد من أجل الاجتماع بأي مكان يرون توفر الظروف الملائمة به للنجاح، سواء داخل البلاد أو خارجها"، وذلك رداً على رسالة الباعور.
وعبر المجلس الأعلى للدولة عن "استغرابه العميق" من البيان الصادر عن وزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية بشأن جلسات الحوار التي تم عقدها بين المجلسين الأعلى للدولة والنواب في المغرب، بناءً على طلب من أعضاء المجلسين.
وتجدر الإشارة إلى أن اللقاء المشترك بين أعضاء مجلسي النواب والدولة في ليبيا بمدينة بوزنيقة المغربية هو اللقاء الثالث، بعد اللقاء الأول الذي جمعهما بتونس في فبراير/شباط 2024، واللقاء الثاني الذي عُقد في مصر شهر يوليو/تموز 2024.
وأوضح المجلس أن مطالبة وزارة الخارجية المغربية بالتنسيق المسبق مع وزارة الخارجية لحكومة الوحدة الوطنية قبل عقد أي جلسات حوار بين المجلسين، "يعد تدخلاً سافراً في شؤون المجلسين، وينم عن قصور معرفي بحدود السلطة التنفيذية وجهل مركب بمبدأ الفصل بين السلطات يستوجب المساءلة".
كما أشار المجلس الأعلى للدولة في ليبيا في بيانه إلى أن دور وزارة الخارجية هو تهيئة الظروف وتقديم الخدمات لأعضاء السلطة التشريعية داخل البلاد وخارجها متى ما قرروا ذلك وفقاً لأوامر تصدر عنهم، وليس من حق الوزارة الاعتراض على أعمالهم.
فيما شدد مصدر مقرب من رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة أن الرباط "لم تحترم الأعراف الدبلوماسية"، وأضاف لـ"عربي بوست" أن الأولى بالمغرب أن ينسق مع حكومة طرابلس عبر وزارتي خارجية البلدين قبل احتضان اللقاء التشاوري.
مفتي ليبيا "ينتقد" المغرب
دخل مفتي ليبيا، الصادق الغرياني، على الخط، موجهاً اتهامات للمخابرات المغربية بـ"العمل على استضافة شخصيات ليبية معارضة للشرعية، بهدف الإعداد لتشكيل حكومة انتقالية جديدة". وزعم الغرياني أن الرباط بذلك "تتدخل في الشأن الداخلي الليبي بطرق تساهم في تعميق الانقسامات السياسية".
وانتقد الشيخ الصادق الغرياني، في حلقة من برنامجه "الإسلام والحياة" بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2024، ما وصفه بدور المخابرات المغربية في الشأن الليبي، عقب الاجتماع التشاوري الذي احتضنته مدينة بوزنيقة، بمشاركة نحو 120 مسؤولاً من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
ووجّه الغرياني اتهاماته لما وصفها بـ"مجموعة منشقة من مجلس الدولة الليبي"، متهماً إياها بالتعاون مع أجهزة استخبارات أجنبية لتحقيق أجندات تتعارض مع المصلحة الوطنية، معتبراً أن تصرفات هذه المجموعة "لا تكتفي بإلحاق الضرر بالوطن فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى الإضرار بالدين الإسلامي وقيمه".
الغرياني انتقد ما أسماه بـ"التدخلات الممنهجة" من المخابرات المغربية في الشأن الليبي، وأشار إلى أن هذه التدخلات، التي يرى أنها تعود إلى مرحلة اتفاق الصخيرات، تهدف إلى "زعزعة استقرار ليبيا عبر تأجيج الانقسامات الداخلية".
كما زعم مفتي ليبيا أن المخابرات المغربية تسعى إلى تحقيق أجندات معينة من خلال استضافة شخصيات ليبية معارضة للشرعية "بهدف الدفع نحو تشكيل حكومة انتقالية جديدة"، مؤكداً أن هذه الممارسات هي محاولة واضحة لتقويض الاستقرار الداخلي في ليبيا.
وليست هذه المرة الأولى التي ينتقد فيها الصادق الغرياني اللقاءات التشاورية الليبية في المغرب، إذ قال عام 2020 في برنامج "الإسلام والحياة" إن حوار المغرب "هو حوار عقيم لا فائدة منه، فهو انعقد دون شروط وفيه استسلام كامل".
وأضاف مفتي ليبيا وقتها: "الأعضاء الذين يجتمعون معهم ليس لهم عهد ولا ميثاق، ومع ذلك يضيعون الوقت ويصرّحون بأنهم توصّلوا لتفاهمات، وهذا الحديث تم التصريح به منذ 5 سنوات، والغريب أنّهم يتحاورون حول المناصب السيادية! كأنّه لم تعد هناك مشاكل في ليبيا إلا من يتولّى هذه المناصب".
"الصحراء الغربية" في قلب الأزمة
تزامناً مع الأزمة التي بدأت بين حكومة طرابلس والمغرب، كانت العاصمة الليبية على موعد مع المؤتمر الأول لقادة الاستخبارات العسكرية لدول جوار ليبيا، والذي أشرف على افتتاحه رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.
خلال كلمته في افتتاح المؤتمر الذي عرف مشاركة وفود من تونس والجزائر والسودان وتشاد والنيجر، قال الدبيبة السبت 21 ديسمبر/كانون الأول 2024: "بلادنا لن تسمح بأن تكون ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ولن تكون مأوى للعناصر العسكرية الهاربة من بلدانها".
وأضاف الدبيبة: "نؤكد بشكل حازم وواضح أن ليبيا لن تكون ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. لن نسمح بأن تتحول أراضينا إلى مأوى للعناصر الهاربة والخارجة من بلدانها أو الخارجة عن القانون، ولا أن تُستخدم ليبيا كورقة ضغط في أي مفاوضات أو صراعات دولية".
لكن خلال نفس المؤتمر الذي اختتم الأحد 22 ديسمبر/كانون الأول 2024، كانت هناك رسائل مباشرة للمغرب، ولكن هذه المرة على لسان ممثل الجزائر في المؤتمر، العميد محرز جريبي، المدير المركزي لجهاز أمن الجيش الجزائري.
حيث وصف المسؤول العسكري الجزائري الأقاليم الصحراوية بأنها "آخر مستعمرة في إفريقيا"، متهماً المملكة بـ"احتلال الصحراء وخرق اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع جبهة البوليساريو"، على حد تعبيره.
مؤتمر قادة الاستخبارات لدول جوار #ليبيا.. مدير أمن الجيش 🇩🇿 #الجنرال محرز جريبي: #الجزائر ترى أن الوضع السائد في الأراضي الصحراوية المحتلة ناجم عن أطماع توسعية تدعمها أطراف خارجية.
— الرأي نيوز – Erai News (@ElrainewsDZ) December 22, 2024
تؤكد #الجزائر أن الأمر سيزيد من التهديدات في المنطقة ويتحمل #المغرب كامل المسؤولية في ذلك. pic.twitter.com/1Otq6Nplcp
وبينما لم يصدر أي تعليق رسمي من الرباط، قالت وسائل إعلام مغربية إن ما صدر في المؤتمر بحضور الدبيبة "خطوة تثير الكثير من علامات الاستفهام"، متسائلة كيف أصبحت حكومة الدبيبة "منصة للدعاية الجزائرية التي تستهدف المس بسيادة المغرب".
في المقابل، زعمت وسائل إعلام ليبية أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، اجتمع بالمدير المركزي لأمن الجيش الجزائري (المخابرات العسكرية) على هامش هذا المؤتمر، وناقشا "مواجهة التحركات المغربية في ليبيا والمنطقة وكيفية الحد منها".
وحسب المصادر نفسها، فإن الخطوة التي أقدم عليها الدبيبة جاءت "رداً على استضافة المغرب الاجتماع التشاوري الأخير بين مجلسي النواب والدولة الليبيين في مدينة بوزنيقة"، والذي أثارت نتائجه انزعاج المسؤولين في طرابلس.
فيما نفى مصدر مقرب من الدبيبة في تصريح لـ"عربي بوست" أن تكون حكومة طرابلس "تبتز المغرب" بقضية الصحراء الغربية، وشدد على أن المسؤولين الليبيين "لا يمكن أن يفرضوا أية رقابة على تصريحات المسؤول العسكري الجزائري".