لجأت الحكومة المصرية مؤخراً إلى إدراج الملابس الجاهزة ضمن المنتجات التي خصصتها للعرض في بعض الأسواق بأسعار مخفضة، بهدف مواجهة عزوف المواطنين عن شراء كسوة الشتاء في ظل تراجع القدرة الشرائية للمصريين وارتفاع الأسعار، ونسقت الحكومة مع بعض مصانع الألبسة المحلية لبيع منتجاتها داخل مناطق كبيرة مجهزة لبيع السلع الغذائية.
هذا التوجه الجديد للحكومة المصرية طرح تساؤلات حول الأسباب الخفية التي جعلتها تنسق مع المصانع المحلية لبيع منتجاتها، حيث كشفت مصادر لـ"عربي بوست" عن وجود "علاقات خفية" بين بعض المسؤولين وأصحاب تلك الشركات التي استفادت من عرض منتجاتها من الملابس إلى جانب المنتجات الغذائية منخفضة التكلفة.
إذ أطلقت الحكومة المصرية قبل أسبوعين مبادرة "كلنا واحد" وقالت إنها تستهدف من خلالها توفير كافة مستلزمات وملابس الشتاء بأسعار مخفضة عبر المنافذ والأسواق التجارية الكبرى، واعتبرت الخطوة ضمن الإجراءات اللازمة لدعم منظومة الحماية الاجتماعية للمواطنين، وتشمل المبادرة توزيع السلع عبر 2451 منفذاً و4 معارض رئيسية في مختلف المحافظات.
وقالت الحكومة إنها نسقت مع كبرى المصانع والكيانات التجارية لتوفير المستلزمات والملابس الشتوية للانضمام إلى المبادرة، إلى جانب التوسع في أعداد الشركات والسلاسل التجارية المشاركة بإضافة أسواق تجارية كبرى وموردين للحوم والخضار والفاكهة وتجار "جملة وتجزئة"، لتوفير كافة السلع الغذائية وغير الغذائية.
محاولات حكومية لإنقاذ المصانع المحلية
"أسواق اليوم الواحد" التي افتتحتها وزارة التموين المصرية في محافظات مختلفة، عبارة عن أسواق كبيرة تفتح أبوابها يومي الجمعة والسبت فقط من كل أسبوع، وأصبحت تعرض أيضاً ملابس جاهزة للبيع. وقالت الوزارة إنها تهدف إلى تقليل الحلقات الوسيطة بين المنتج والمستهلك، بما يساهم في خفض الأسعار وزيادة المعروض من السلع.
لكن مصادر مطلعة بوزارة التموين كشفت لـ"عربي بوست" أن طرح الملابس الجاهزة ضمن المنتجات التي تقدمها معارض الوزارة يرجع لشكاوى الكثير من أصحاب مصانع الملابس المحلية بأنها تواجه شبح الإغلاق بسبب حالة الركود الشديد التي تعاني منها.
وأشار المصدر إلى أن ما يقرب من 60% من المصانع المحلية لا تجد تجاراً أو أصحاب محال يشترون ما أنتجته من ملابس خلال موسم الشتاء الجاري، وكان تفكير الحكومة تنشيط عمل هذه المصانع من خلال منحها الفرصة للتواجد في المعارض للبيع مباشرةً على أن يكون ذلك بسعر الجملة بما يضمن جذب الجمهور.
وأضاف المصدر ذاته أن وزارة التموين والتجارة الداخلية تعاقدت مع 50 شركة ملابس لبيع منتجاتها داخل المعارض المنتشرة في المحافظات المختلفة، وأن تلك المصانع عليها دفع قيمة إيجارية ضئيلة مقابل أرضية وجودها في المعارض المختلفة، وهي لا تقارن بأسعار إيجارات المحلات كما أن ذلك يضمن لها التواجد فترات طويلة.
ومن المقرر أن تستمر مبادرة "كلنا واحد" إلى غاية شهر رمضان المقبل، ونفس الأمر بالنسبة لأسواق "اليوم الواحد" التي يتم تدشين المزيد منها في المحافظات ومن المتوقع أن تستمر عاماً أو أكثر.
وشدد مصدر "عربي بوست" على أن أصحاب المصانع يستفيدون من إقبال المواطنين على شراء المنتجات الغذائية والسلع الرئيسية وبالتالي تبقى هناك فرصة لأن يشاهدوا العروض التي تقدمها.
وأشار إلى أن التركيز يبقى على ملابس الفرز الثاني والثالث التي تتماشى مع إمكانيات الفئات التي تقبل على شراء المنتجات الغذائية من معارض دشنتها جهات حكومية مختلفة. ولفت إلى أن عزوف المواطنين عن شراء كسوة الشتاء مع ركود أسواق "البالة" أو الملابس المستعملة دفع إلى التفكير في تقديم محفزات للشراء.
"صلات خفية" مع أصحاب المصانع
مبادرة "كلنا واحد" قدمت دعماً لأصحاب المصانع بمساعدتهم على عرض إنتاجهم من الملابس الجاهزة، يقول مصدر "عربي بوست"، واستطرد، لكن ذلك لا يحقق المرجو منه على مستوى المصانع والمواطنين أيضاً، لأن أماكن عرض الملابس تبقى غير مجهزة بشكل جيد ويواجه المواطنون صعوبات في التعامل معها وسط أكشاك بيع اللحوم والخضروات والزيوت والأرز والسكر وغيرها.
وكان وزير التموين المصري، شريف فاروق، قد سوّق لمعرض "اليوم الواحد" باعتباره فرصة أمام "شركات القطاع العام التي أعادت إحياء علامات تجارية عريقة من منتجات الشركة القابضة للصناعات الغذائية، والتي حظيت بترحيب وسعادة كبيرين من المواطنين لجودتها العالية وأسعارها المناسبة".
غير أن مصدراً مطلعاً آخر بوزارة التموين قال لـ"عربي بوست" إن الهدف الرئيسي وراء الاستعانة بمصانع الملابس في معارض السلع الغذائية "يعود إلى وجود صلات خفية بين بعض النافذين بوزارة التموين وأصحاب تلك المصانع".
وأضاف أن معايير الاختيار "تبدو غير معروفة لأن هناك مصانع لديها رغبة في المشاركة لكنها لم تحصل على موافقات بعد، وفي المقابل فإن أسعار الملابس ليست زهيدة مثلما هو الحال بالنسبة لأسواق الملابس المستعملة والمعروفة باسم "ملابس البالة".
وأشار إلى أن وزارة التموين وجدت صعوبات في الاستعانة بشركات كبيرة يمكن أن تملأ المساحات الشاسعة للمعارض التي تدعمها، وأن تجارب الشركات الغذائية السابقة التي لم تحقق مكاسب مرجوة دفعتها للانسحاب من تلك المعارض، في حين أن البديل كان عبر مصانع الملابس مع استغلال حالة الركود.
وتوقع المتحدث أن تنسحب مصانع الملابس أيضاً بعد فترة وجيزة لأن ثقافة المصريين تجاه شراء الملابس تقوم على التأني وعدم الشراء السريع، في حين أن غالبية المصانع تتيح إنتاجها أمام الجمهور ليوم أو يومين فقط في الأسبوع من خلال مشاركتها في معارض "اليوم الواحد".
جهات حكومية لها نسبة من البيع
لفت مصدر "عربي بوست" إلى أن أسواق الملابس معروفة في مناطق بعينها ليس بينها معارض بيع المنتجات الغذائية التابعة لوزارة التموين أو الداخلية، كما أن فاتورة شراء المنتجات الغذائية لن تكفي من أجل شراء كسوة الشتاء التي تأتي في ذيل اهتمامات المواطنين المصريين في الوقت الحالي مع معاناتهم من الغلاء الفاحش. كما أن مصانع إنتاج الملابس بعيدة عن نشاط وزارة التموين، وبالتالي يواجه التنسيق معها مشكلات جمة.
وبحسب المصدر ذاته، فإن الهدف من مبادرات بيع السلع بأسعار مخفضة يكمن في التخفيف من آثار التضخم الحالي، وتعتبر وزارة التموين أن تخفيض أسعار الملابس يجب أن يكون ضمن أدواتها باعتبارها سلعاً رئيسية يحتاجها المواطنون.
وتحاول الجهات الحكومية أن تنافس الأسواق الموجودة في المحافظات والقرى والنجوع أسبوعياً، وغالباً ما تبقى هذه الأسواق يوم الجمعة، بما يساهم في زيادة المعروض من السلع والمنتجات لكي ينخفض سعرها تلقائياً. غير أن ذلك لا يحدث بسبب غياب الرقابة على الأسواق.
وشدد المصدر على أن وزارة التموين وغيرها من الجهات الرقابية كان بإمكانها تعزيز رقابتها على أكثر من 4000 سوق أسبوعي في القرى، إلى جانب عشرات الآلاف من الأسواق الصغيرة في النجوع البالغ عددها 31 ألف نجع. وفي تلك الحالة، لن تكون هناك حاجة لفتح أسواق موازية.
ولفت إلى أن الحديث عن عرض السلع بأسعار الجملة غير حقيقي، حيث تشترط الكثير من المصانع والشركات تحقيق مكاسب شبه طبيعية. والأكثر من ذلك، أن جهات حكومية تبقى لها نسبة من البيع لأنها تساهم في التسويق لتلك المنتجات.
ولم يعد الأمر مقتصراً فقط على وزارتي التموين والداخلية لافتتاح معارض تحتوي على ملابس جاهزة، بل دخلت المحافظات على هذا الخط أيضاً. ومؤخراً، نظمت محافظة القاهرة معرض "بازار القاهرة 2″، وقالت إن ذلك يأتي ضمن جهودها "لمحاربة الغلاء، وتخفيف العبء عن المواطنين، وتوفير احتياجاتهم بأسعار مناسبة خاصة مع حلول فصل الشتاء".
وشارك في المعرض منتجات الملابس التي تصنعها "الأسر المنتجة، وشباب الخريجين، والقطاع الخاص؛ الملابس والأحذية، والمفروشات، والحرف اليدوية"، وزعمت المحافظة أن هناك تخفيضات تصل إلى 30% على الأسعار.
ركود كبير في سوق الملابس الجاهزة
بحسب أرقام غرفة صناعة الملابس في مصر، فإن ارتفاع تكاليف الإنتاج الناتج عن تراجع قيمة الجنيه خلال الأشهر الماضية تسبب في حالة ركود كبير في سوق الملابس الجاهزة، وأن أسعارها النهائية شهدت ارتفاعاً تراوح ما بين 70% إلى 80%.
كما أن أسعار الأقمشة ارتفعت بنسبة وصلت إلى 100%، وأن وجود بضائع محتجزة في الموانئ المصرية حتى منتصف العام الجاري كان له تأثير كبير على ارتفاع تكاليف الإنتاج لدى المصانع.
وقال سمير محمود، أحد أصحاب مصانع الملابس، إن الاستعانة ببعض المصانع للمشاركة في معارض السلع التموينية المخفضة لا ينفصل عن سياسة عامة انتهجتها الحكومة المصرية خلال العامين الماضيين لتنشيط حركة صناعة الملابس المحلية، وفي ذلك الحين قامت بمضاعفة رسوم استيراد ملابس "البالة".
وأصبحت رخصة الاستيراد مقابل 750 ألف جنيه مصري بعد أن كانت 300 ألف جنيه فقط، وهي رخصة تحتاج إلى التجديد سنوياً من جانب شركات الاستيراد والتصدير التي تورد إلى الموزعين وصغار البائعين، وبالتالي فإن أسعار الملابس المستعملة ارتفعت للغاية وساد الركود هذه الأسواق أيضاً.
وتشير دراسة بعنوان "أثر الاتجار بالملابس المستعملة على صناعة الملابس الجاهزة المحلية" إلى أن الملابس المستعملة وجدت سوقاً رائجة لها في معظم شوارع القاهرة والمحافظات الأخرى، وهو ما ألحق أضراراً بالغة بصناعة وتجارة الملابس الجاهزة الجديدة التي تشهد تدهوراً بسبب زيادة تكاليف الإنتاج، ما يتسبب بارتفاع في أسعار الملابس محلية الصنع.
وبحسب الدراسة التي أنجزها أستاذ مساعد قسم الملابس والنسيج، كلية الاقتصاد المنزلي بجامعة حلوان، وسام محمد إبراهيم، التي اعتمدت عينة بحثها على متخصصين أكاديميين في صناعة الملابس الجاهزة وقائمين على شراء وبيع الملابس المستعملة في الأسواق، فإن تجارة الملابس المستعملة الواردة من الخارج تمثل أزمة كبيرة تواجه صناعة الملابس الجاهزة المحلية في مصر، وتستغل المستهلكين لأنها تقدم منتجات مستعملة ذات جودة سيئة تنافس بها السوق المحلية.
ولفت المصدر ذاته إلى أن الحكومة تحاول تصويب خطئها حينما شجعت المصانع المحلية على زيادة طاقتها الإنتاجية.
وعللت ذلك برغبتها في توفير العملة الصعبة وعدم الاعتماد على الاستيراد من الخارج، لكن في الوقت ذاته فإن زيادة الطاقة الإنتاجية بمعدلات وصلت إلى 40% لم يقابلها إقبال موازٍ من الجمهور على الشراء، وتواجه المصانع الآن خسائر فادحة تسعى الحكومة لتعويضها من خلال عرض الإنتاج في معارضها.
وتسببت صعوبة استيراد الملابس الجاهزة في هبوط وارداتها إلى مصر بنسبة 27% خلال 2023، لتُسجل 260 مليون دولار، وفقاً لهيئة الرقابة على الصادرات والواردات.
وشدد المصدر ذاته على أن المواطن هو الخاسر الأكبر في تلك المعادلة، لأنه لم يعد قادراً على شراء الملابس الجديدة أو المستعملة، وفي مقابل ذلك تحاول الحكومة تشجيع المصانع المحلية عبر تسويق إنتاجها.
ولفت المتحدث إلى أن الإقبال يكون على المنتجات الرديئة التي تقدمها المصانع المصرية المشاركة في معارض وزارة التموين من خلال جمعيات التبرعات أو بعض تجار الجملة، لكن على مستوى إقبال المواطنين يبقى الوضع صعباً لأن الهدف من زيارة تلك المعارض بالأساس هو شراء السلع الغذائية الرئيسية، وليس الملابس التي تتحول في تلك الحالة إلى سلعة غير ضرورية.