في خطوة جديدة تُنذر بتصعيد حدة التوتر بين فرنسا والجزائر، تقدّم عشرات النواب البرلمانيين في الجمعية الوطنية الفرنسية، معظمهم من اليمين واليمين المتطرف، بمقترح قانون يهدف إلى مكافحة ما وصفوه بـ"الكراهية ضد الحركى الجزائريين.. وأحفادهم".
"الحركى الجزائريون" هم الأشخاص الذين خدموا خلال احتلال الجزائر ضمن تشكيل شبه عسكري فرنسي، إضافة إلى القوات المساعدة التي شاركت إلى جانب الجيش الفرنسي لقمع حرب التحرير الجزائرية، لكن دون أن يتمتعوا بوضع عسكري بسبب دينهم وأصولهم.
وبعد اتفاقيات "إيفيان" في 19 مارس/آذار 1962، تُرك "الحركى الجزائريون" يواجهون مصيرهم بعد أن تخلَّت عنهم فرنسا، بموجب اتفاقيات وقعتها مع الجانب الجزائري، واعتبرتهم جبهة التحرير الوطني الجزائرية "خونة" بسبب انضمامهم إلى الجنرال ديغول.
لماذا طُرح هذا القانون الآن؟
من بين 500 ألف من"الحركى الجزائريين" المسجلين، تمكَّن فقط 24 ألف و500 منهم من العثور على ملاذ في فرنسا، حيث مُنحوا وضع "لاجئين" وحقوقًا أقل من أولئك الذين أُعيدوا رفقة الجيش الفرنسي. وفي 20 سبتمبر/أيلول 2021، طلب إيمانويل ماكرون "المغفرة" من الحركى.
ويقول المشرعون الفرنسيون إن مصطلح "حركى" غالبا ما كان مرادفًا لكلمة "خائن" ويُستخدم "كذريعة لتبرير العنف، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، ضد أحفاد الحركى أو الأشخاص الذين يدعمون فرنسا في أي نزاع يتعلق بالجزائر".
في هذا الصدد، يُسوق النواب مثالاً بهذا العنف بالإشارة إلى تدنيس نصب الحركى في معسكر "بيا" في سبتمبر/أيلول 2024، ويُضيفون خلال تقديم مقترح القانون أن "الأخذ في الاعتبار الدعم البطولي الذي قدمه الحركى لفرنسا، فإن أي اعتداء ضدهم أو ضد أحفادهم، بسبب هذه الصفة، يصبحُ أقل قبولًا".
وأضاف المشرعون الفرنسيون: "لذلك، من الضروري أن نعتبر ذلك ظرفًا مشددًا للجرائم والجنح، على غرار الانتماء، الحقيقي أو المفترض، إلى عرق أو إثنية أو أمة أو دين معين. ولأن صفة (حركى) ليست عرقًا أو إثنية أو أمة أو دينًا، يجب سد الثغرة القانونية الحالية".
تفاصيل مشروع القانون
تدعو المادة الأولى من المقترح إلى "اعتبار العنف اللفظي أو الجسدي ضد الحركى وأفراد التشكيلات الأخرى المساندة أو أحفادهم ظرفا مشددا للعقوبة، حتى في حالات العنف البسيط الذي لا يتسبب في عجز عن العمل أو يتسبب في عجز طفيف مدته ثمانية أيام أو أقل.
أما المادة الثانية من مقترح القانون، الذي نشر على الموقع الرسمي للجمعية الوطنية الفرنسية، فتنص على اعتبار صفة "الحركي" مشابهة للصفات الأخرى الموجبة لتشديد العقوبات مثل الجرائم المرتكبة على أساس العرق، أو الجنس.
وتشير المادة الثالثة، إلى إلزام الحكومة الفرنسية "تقديم تقرير سنوي إلى البرلمان يحدد تطور الجرائم المرتكبة ضد الحركى وذويهم وأفراد التشكيلات المساندة الأخرى على أساس هذه الصفة، وذلك بعد عام واحد من بدء تطبيق القانون".
من بين أبرز النواب الذين يقفون وراء مقترح القانون، سباستيان شينو (Sébastien Chenu) عضو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف (Rassemblement National)، والذي اشتهر بمواقفه القومية ودعمه للقضايا المتعلقة بالمهاجرين وحقوق الفرنسيين، بما في ذلك الحركى.
ثم إيريك سيوتي (Éric Ciotti) الزعيم السابق لحزب الجمهوريين المعروف بتأييده القوي لقضايا الأمن والهجرة إذ شارك في النقاشات حول كيفية التعامل مع التاريخ الاستعماري الفرنسي وعواقبه. وكلاهما ساهم في التحركات السياسية التي تهدف إلى تحسين أوضاع "الحركى".
حمل السلاح وتقديم معلومات استخباراتية
تخلّي فرنسا عن "الحركى الجزائريين"
يطلق اسم الحركى (Les Harkis) على الجزائريين الذين خدموا كقوات مساعدة أو شبه عسكرية إلى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر (1954-1962).
وتم تجنيد آلاف الرجال والنساء لأداء أدوار متعددة، مثل المشاركة في عمليات الاستطلاع، وتقديم الدعم للجيش الفرنسي، ومواجهة جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت تناضل من أجل استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي.
عند نهاية الحرب ونيل الجزائر استقلالها في 1962، واجه الحركى الجزائريون أوضاعًا صعبة؛ فقد اعتُبروا خونة من قبل جزء كبير من المجتمع الجزائري، مما عرّض العديد منهم وأسرهم لأعمال انتقامية عنيفة.
فرنسا بدورها لم تمنح جميع الحركى الحماية اللازمة بعد الحرب، حيث تُرك الآلاف منهم في الجزائر وتعرضوا لأعمال انتقامية. ومع ذلك، تم استقبال بعضهم في فرنسا، لكنهم عانوا من ظروف صعبة وتعرضوا للتمييز الاجتماعي، كما عاشوا في مخيمات لسنوات عديدة.
خلال السنوات الأخيرة، ازداد الاعتراف بمعاناة الحركى وأسرهم، وبدأت فرنسا بتقديم اعتذارات رسمية ومساعدات مالية لهم، كنوع من التكفير عن التقصير الذي تعرضوا له بعد الحرب.
ملف "الحركى" يُحرِج باريس
طالما شكل موضوع "الحركى الجزائريين" ملفًا محرجًا لباريس، إذ يتهمها البعض بتهميشهم وهضم حقوقهم وعدم منحهم نفس امتيازات الجنود الفرنسيين بسبب أصولهم أو معتقدهم.
في هذا السياق، جاء مقترح القانون لمكافحة الكراهية ضد الحركى وأفراد التشكيلات العسكرية الأخرى، وأيضًا أحفادهم، في محاولة للتدارك ورد الاعتبار، حيث رمى التشريع إلى الاعتراف بما وصفه تضحيات هؤلاء المحاربين السابقين وتصحيح الظلم الذي لحق بهم بعد نقلهم إلى فرنسا.
هذا النص الذي أحيل إلى لجنة القوانين الدستورية والتشريعات والإدارة العامة للجمهورية، جاء استكمالًا للقانون رقم 2022-229 الصادر في 23 فبراير/شباط 2022، الذي أقر مسؤولية فرنسا تجاه الظروف القاسية التي تعرض لها الحركى عند وصولهم إلى فرنسا.
من المواد البارزة في قانون 2022، المادة الأولى التي تنص على اعتراف الدولة بتضحيات الحركى الجزائريين وتحمّلها لمسؤولية المعاناة التي واجهوها. فيما تشير المادة الثانية إلى تخصيص يوم وطني لتكريمهم، في 25 سبتمبر/أيلول من كل عام.
وتوضح المادة الثالثة أن الحركى وأزواجهم وأبنائهم الذين عاشوا في ظروف استقبال سيئة بين 1962 و1975 لهم الحق في الحصول على تعويضات مالية عن الأضرار التي تعرضوا لها.
كما تضع المادة الرابعة لجنة مستقلة مهمتها دراسة طلبات الاعتراف والتعويض، ودعم الحالات التي تحتاج إلى مساعدة اجتماعية خاصة، والحفاظ على ذاكرة مساهماتهم في خدمة فرنسا.
كيف سيزيد من تأزم العلاقات الفرنسية الجزائرية؟
رئيس جمعية "les oranges" المعنية بقضايا الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، محمد كاكي، اعتبر أن المقترح الذي يخص "الحركى الجزائريين" خطوة غير مسؤولة ومناورة سياسية غير مقبولة تهدف إلى التقسيم ويقف وراءها نواب من اليمين واليمين المتطرف، وشدد أن: "الجزائر ليس لها دروس لتتلقاها من باريس".
وتساءل المتحدث عن غياب اهتمام "هؤلاء النواب وأحزابهم بـ"الحركى الجزائريين وعائلاتهم منذ سنوات خلت"، وأضاف أن الأولوية هي الدفاع عن جميع الفئات التي تتعرض للإقصاء والعنصرية والتهميش في فرنسا بشكل يومي دون تقسيم أو تفصيل.
وأكد كاكي أن لا شيء يضع الحركى أولى من غيرهم في الولوج إلى حقوقهم المشروعة وحمايتهم من الاعتداء بشتى أنواعه. وقال إن مقترح القانون الذي يعكس "ديماغوجيا ترمي إلى التقسيم" لن يزيد العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلا تعقيدًا وتوترًا".
كاكي يرى أن من بين دوافع الخطوة التشريعية عقدة الذنب، التي تضطر هؤلاء المشرعين لتعويض "الحركى" بعد أن تخلوا عنهم، من خلال استغلال السياق السياسي الحالي، مذكّرًا بأن الأجدر بالمشرعين الاهتمام بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور للفرنسيين.
في الجزائر، يعد ملف "الحركى الجزائريين" ذا حساسية كبيرة، إذ طالما تم التعامل معه سياسيًا بحذر شديد، لكن، خلال السنوات الأخيرة، شهدت البلاد نقاشات حول كيفية تضمين التاريخ المعاصر بما في ذلك فترة الاستعمار والحركى في المناهج الدراسية.
على المستوى الشعبي وحتى وسط النخبة، هناك انقسام في الرأي حول هذه الفئة التي لا يمكن فصلها عن تاريخ الجزائر؛ ففيما يشعر البعض بالاستياء من أي محاولة لإعادة إدماجهم، يرى آخرون ضرورة معالجة قضاياهم بشكل إنساني.
المؤرخ والأكاديمي الجزائري، محمد الأمين بلغيث، يرى من جانبه أن مقترح القانون يهدف إلى توفير حماية أكبر للحركى الذين يقدرهم واضعو المقترح بنصف مليون، تركهم منهم فرنسا حسب التقديرات الأولية أكثر من 160 ألف حركي.
لهذا يقول المتحدث، يحرص ما بين 17 إلى 24 في المائة من الفرنسيين الدفاع عن ذاكرة [ الجزائر الفرنسية] من خلال ما قدمه "خدم البيوت من الجزائريين في زمن فرنسا الكولونيالية"، هذه النسبة هي التي حددها آخر إحصاء فرنسي حول الفرنسيين الذين تربطهم علاقات وطيدة مع تاريخ فرنسا الاستعماري في الجزائر.
وأضاف المؤرخ والأكاديمي الجزائري: "لهذا، أنا حريص على متابعة الشأن الفرنسي جيدًا، وتحديدًا ما يعنيني مباشرة باعتباري مؤرخًا ومراقبًا للعلاقات الفرنسية الجزائرية منذ 1962 وليس منذ تولي الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الحُكم.
من جهة أخرى، يقول المؤرخ إنه يتوقع من ماكرون والذين يهيمنون على الجمعية الوطنية الفرنسية بادرة خير للنزع فتيل الشد والجذب، خاصة بعد تموقع ماكرون في صف المغرب في قضية الصحراء الغربية، "لهذا أرى أن الأمر أشد مما سبق من تجاذب وحتى تلاسن بين البلدين".
احتمالات تمرير القانون
بخصوص احتمالات تمرير مقترح القانون وحظوظ المصادقة عليه رجح المؤرخ والأكاديمي الجزائري أن يتم ذلك، خاصة في ظل "هيمنة اليمين المتطرف الواضحة ووقوف معظم الفرنسيين في هذه القضية صفًّا واحدًا".
هذا الأمر إن حدث يقول بلغيث، من شأنه أن يوسع الشرخ في العلاقات الجزائرية الفرنسية ويعمق الخلاف حول الحلول الممكنة لفتح كل ملفات الدولتين على قدم المساواة. ويضيف أن "على فرنسا الدولة والمجتمع والنخبة السياسية أن تنسى أن الجزائر قد تكون حديقة خلفية للمصالح الفرنسية".
عطفًا على ما أورده المؤرخ بلغيث، وبالنظر إلى تركيبة الجمعية الوطنية الحالية، لا يُستبعد أن يتم تمرير مقترح القانون، خاصة وأن الأحزاب اليمينية، تدعم المقترح، حيث ترى فيه خطوة نحو الاعتراف بتضحيات هؤلاء الأشخاص الذين دعموا فرنسا خلال حرب الجزائر.
بشكل عام، يمكن أن يساهم هذا الدعم من الأحزاب اليمينية في زيادة فرص تمرير المقترح. لكن يبقى الموضوع حسّاسًا، وقد يواجه معارضة من بعض الأطراف السياسية أو الجماهيرية التي تتبنى وجهات نظر مختلفة حول التاريخ الاستعماري.
لذلك، يمكن القول إن فرصة تمرير المقترح الذي يخص "الحركى الجزائريين" قد تكون أفضل مما كان متوقعًا، ولكن ما زالت هناك عوامل قد تؤثر على النتيجة النهائية.