ألغت الحكومة المصرية اشتراطات البناء والتخطيط العمراني التي أقرتها بشكل مفاجئ قبل نحو ثلاث سنوات، وقررت العودة للعمل بالقانون القديم الذي يحمل رقم 119 لسنة 2008 والذي جرى تجميده فعليًا مع صدور تلك الاشتراطات التي تسببت في أزمة بين مقاولي البناء والأهالي.
إذ كانت الاشتراطات الجديدة قد أحدثت أزمات لدى مقاولي البناء الذين يتولون بشكل كبير عملية العمران في الأحوزة العمرانية القديمة، وتسببت في غضب الأهالي الذين اعتادوا البناء على الأراضي التي يمتلكونها، وسببت وجود بطالة مقنعة لدى العديد من العاملين في المجالات المرتبطة بالبناء والتشييد.
وقالت وزارة التنمية المحلية المصرية إن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وافق على إلغاء تطبيق الاشتراطات البنائية والتخطيطية الجديدة في المحافظات، وأوضحت أن التراجع يهدف إلى تحسين الإجراءات المتعلقة بترخيص البناء وتنظيمها بشكل أكثر فعالية، وتبسيط الاشتراطات ، خاصة التي تعيق إصدار التراخيص.
ضغوط وتهديدات "حيتان العقارات"
كشف مصدر حكومي مطلع عن الأسباب الحقيقية التي قادت لتغيير موقف الحكومة المصرية من اشتراطات البناء، وذلك في ظل ضغوط قوية مارسها ما يمكن وصفهم بـ"حيتان العقارات" الذين يسيطرون على شركات عقارية تعتمد البناء في المحافظات والمدن الجديدة.
وأوضح المصدر لـ "عربي بوست" أنهم عقدوا خلال السنوات الماضية لقاءات مع جهات سيادية بما فيها مؤسسة الرئاسة، وهدد البعض منهم بالتوقف عن البناء في المدن الجديدة التي لا تشهد إقبالاً كبيرًا من المواطنين على الشراء.
وتضرر مقاولوا البناء بشكل كبير وعزف البعض منهم عن البناء بعد أن كانت الحكومة تهدف لنقل استثماراتهم بشكل كامل إلى المدن الجديدة.
وأوضح المصدر ذاته، أن الحكومة واجهت أيضًا اعتراضات مستمرة من جانب نواب البرلمان الذين أضحوا متهمين من قبل مواطني دوائرهم لعدم قدرتهم على الضغط على الحكومة لفتح المجال للبناء في المراكز والمناطق التي يمتلكون فيها أراضي بالفعل.
ويجدون صعوبات جمة في استخراج تصاريح البناء أو بناء عدد أدوار إضافية بعد أن وجد هؤلاء أنفسهم غير قادرين على بناء أكثر من ثلاث أو أربع طوابق بحسب مساحات الشوارع الضيقة التي يتواجدون فيها، والبعض منهم كان يعتمد على تحقيق عوائد مادية من تلك الأملاك.
وأشار المصدر إلى أن الضغوط التي جاءت من فئات تسعى الحكومة للحفاظ على علاقة جيدة معهم كانت حاسمة في اتخاذ هذا القرار ، خاصة وأن الحكومة أدخلت تعديلات عديدة على قانون التصالح في مخالفات المباني لتشجيع المواطنين على التصالح ودفع قيمة الغرامات التي حددتها.
غير أن ذلك لم يحدث بصورة كبيرة، وكان ذلك بمثابة عقابًا من المواطنين الرافضين للأوضاع الراهنة، كما أن قرب إجراء الانتخابات البرلمانية خلال العام المقبل جعل هناك حاجة لإحداث انفراجة مادية واقتصادية لفئات دائمًا ما تقدم كافة أشكال الدعم لنواب حزب مستقبل وطن أو القريبين من الحكومة بوجه عام.
ويشدد المصدر الحكومي ذاته على أن الإدارات المحلية التابعة لوزارة التنمية المحلية كان لديها نصيب وافر أيضًا من الاعتراضات ولم يكن في صالح الحكومة معاداة هؤلاء لأن إصدار التراخيص وفقًا للاشتراطات الملغاة كان من خلال كليات الهندسة بالجامعات المختلفة.
وجرى تحييد هؤلاء بعد اتهامات عديدة طالتهم بسبب الفساد، وهؤلاء ساهموا في عرقلة إصدار إجراءات البناء الجديدة كنتيجة مباشرة لـ إبعادهم عن بعض مراحل استخراج رخصة البناء ، وشكلوا عامل ضغط قوي منذ أن تولت الوزيرة الجديدة منصبها.
ويلفت المصدر إلى أن العامل الأهم في القرار الأخير يتمثل في عدم قدرة مجلس النواب على الخروج بإجراءات تسهل عملية البناء دون الحاجة للتراجع عن الاشتراطات التي جرى وضعها من قبل.
ولم يعد من المقبول استمرار تراجع حركة البناء في وقت تشهد فيه أسعار العقارات في المدن القديمة ارتفاعات كبيرة وصلت إلى 100% خلال العامين الماضيين، وترتب على ذلك أزمة سكن جراء عدم قدرة المواطنين على الشراء أو حتى الإيجار في ظل توافد الهاربين من الصراعات في السودان واليمن.
البعد السياسي حاضر في قرارات الحكومة
وفق تصريحات تليفزيونية للمتحدث باسم وزارة التنمية المحلية، فإن الحكومة عملت على تبسيط إجراءات البناء من 15 إجراء إلى 8 إجراءات فقط، ويتم العمل على إصدار هذه التراخيص من خلال مراكز مميكنة لسهولة الإجراءات على أن تصدر رخصة البناء خلال 60 يومًا من استكمال الأوراق.
ووضعت الاشتراطات التي ألغتها الحكومة مؤخراً، قيودًا على ارتفاعات المباني في المناطق المأهولة بالسكان وترتب على ذلك توقف البناء في المدن القديمة التي يعتمد المواطنون فيها على البناء الذاتي أو عبر الشراكات بين المقاولين الصغار.
كما تضاعفت الرسوم المحددة على كل متر في المدن واشترطت الحكومة من خلال قراراتها الحصول على توكيل رسمي ووسعت أدوار المكاتب الهندسية الاستشارية بدلاً من الأحياء المحلية، وكذلك صدور تقرير من كليات الهندسة بالجامعات في المحافظات حول صلاحية مواقع البناء من الناحية التخطيطية والبنائية.
وانخفض عدد المباني الجديدة بنسبة 22.1% خلال أقل من عام على بدء تنفيذ الاشتراطات البنائية في يوليو 2021، وانخفض الرقم من 315.9 ألف وحدة في 2020 – 2021 إلى 246.1 ألف وحدة في العام التالي.
وشهدت أسعار الوحدات ارتفاعًا في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالعام الماضي لتصل إلى نحو 83% بمدينة السادس من أكتوبر، و95% بالقاهرة الجديدة خلال عام، مع ارتفاع أسعار الإيجارات بنسب تتخطى 40% بالمنطقتين، وفق تقرير صدر في مايو/ آيار الماضي لمؤسسة "جي إل إل" العالمية المتخصصة في دراسات سوق العقارات.
وقال نائب بلجنة الإسكان في البرلمان المصري، تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته، إن البعد السياسي يظل حاضرًا في قرارات الحكومة الأخيرة لأن الذين تضرروا من إجراءات البناء يشكلون ظهيراَ تعتمد عليه في أوقات الانتخابات وتعول عليهم لتحمل الإجراءات الاقتصادية الصعبة.
وأوضح قائلاً: "إن شركات المقاولات لديها شراكات مهمة مع الحكومة في مشروعات مختلفة وهؤلاء يساهمون في الحشد اللازم وقت الانتخابات ويشاركون في تمويل الحملات الانتخابية وبعضهم يختار الترشح على مقاعد البرلمان".
وأضاف أن أهالي الأقاليم الذين اعتادوا البناء في مناطق قريبة منهم أو شراء شقق أو منازل لأبنائهم وجدوا أنفسهم مرغمين على الذهاب إلى المدن الجديدة بعد أن استمرت حركة البناء فيها.
لكن غالبية هؤلاء لم يتخذوا هذه القرارات، في ظل حالة من الغضب المكتوم بينهم نتيجة ارتفاع تكاليف الحياة المعيشية وكذلك عدم قدرتهم على تجهيز أبنائهم للزواج، وكان لابد من مغازلتهم بشكل يضمن تخفيف الضغوط الاقتصادية عليهم.
الخوف من الاحتجاجات أو أعمال عنف
وأكد مصدر"عربي بوست" أن المناطق المتكدسة بالسكان تشهد حالة من الاحتقان بعد أن سمحت الحكومة بدخول ملايين الوافدين من السودان أخيراً وتأثرت أسعار العقارات بشكل كبير بل أن العديد ممن كانوا يسكنون في شقق بالإيجار جرى طردهم منها لصالح الوافدين الذين يدفعون أموالاً مضاعفة مقارنة بالمصريين.
وانعكس ذلك على أسعار العقارات بوجه عام، وأضحى هناك ضغط كبير على المناطق العشوائية التي يمكن القول إنها تحولت إلى قنبلة موقوتة بحاجة للتعامل معها بإجراءات تضمن عدم خروج أي أفعال اعتراضية على سياسات الحكومة الاقتصادية.
يوضح المصدر أن وجود مئات الآلاف ممن كانوا يعملون في مهن الحدادة ونقل الطوب وتشطيبات المباني دون عمل أو اتجاه أغلبهم لتغيير مهنتهم الأساسية جعل الحكومة تخشى من مصير هؤلاء لأنهم يشكلون وقوداً لأي احتجاجات أو أعمال عنف قد تنشب جراء الضغوط الاقتصادية الصعبة.
وقال إن الحكومة ترفض أن تتسلل الرغبة في الانتقام لديهم وتفتح الباب أمامهم للعمل من جديد خاصة وأن رؤيتها السابقة بأن هذه العمالة سوف تتجه للمدن الجديدة لم يحدث أيضًا على أرض الواقع ومن اضطروا الذهاب لهذه المدن عانوا حالة من عدم الاستقرار.
وحسب بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد العاملين في قطاع التشييد والبناء بلغ 3.463 مليون شخص بنسبة 13.3% من إجمالي العاملين، وتسببت قرارات الحكومة السابقة في بحث غالبية هؤلاء عن مهن أخرى إذ يعتمدون على ما يحصلون عليه من أجرة عمل يومي لمواجهة أعباء الحياة في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة.
وأكدت وزيرة التنمية المحلية ، منال عوض، أن القرار الأخير سوف يساهم في تخفيف العبء على المواطنين ويسهل الإجراءات الخاصة باستخراج تراخيص البناء، ويساهم في تشجيع منظومة العمران التي ترتبط بالعديد من المهن الخاصة بصناعة البناء بالإضافة إلى توفير المزيد من فرص العمل للعاملين في هذا المجال وإتاحة المزيد من فرص العمل التجارية وتنمية الاقتصاد المحلي.
وأشار خبير اقتصادي بغرفة الصناعات المعدنية باتحاد الصناعات، إلى أن العودة للقانون القديم تنهي العديد من المشكلات التي واجهتها عملية البناء خلال السنوات الماضية شريطة ألا تفاجئنا الحكومة بلائحة تنفيذية جديدة قد تضع مزيدًا من العراقيل، موضحاً أن البرلمان يناقش سراً هذه اللائحة، موضحًا أن بدء تطبيق القرار الأسبوع المقبل سيكون شاهدًا على مدى جدية الحكومة نحو إحداث انفراجة حقيقية من عدمه.
ضبط أسعار الشقق والأراضي
وذكر الخبير الاقتصادي أن الانفراجة تحقق مردودًا اقتصاديًا إيجابيًا تحتاج إليه الحكومة ليس فقط الآن ولكن خلال السنوات الماضية وذلك بعد أن تعرضت حركة العمران في القرى والمدن لما يشبه حالة الشلل بسبب القيود التي فرضتها القرارات الوزارية الصادرة في عام 2021.
وتوقع أن يتم بناء آلاف الوحدات الجديدة للمواطنين بمواقع مختلفة، بخاصة التي توقف فيها حركة البناء في العاصمة الكبرى وبعض المحافظات التي تشهد نموًا عمرانيًا كثيفًا، وأن ذلك سيؤدي إلى ضبط أسعار الشقق والأراضي وليس انخفاض أسعارها كما يروج بعضهم، إذ إن حركة البناء ترتبط بأسعار مستلزمات البناء وقيمة الأراضي وسعر صرف الجنيه مقابل الدولار.
وذكر أن الأسباب التي قادت لعرقلة البناء في المحافظات وفقًا للقرارات الصادرة قبل ثلاث سنوات تتمثل في كليات الهندسة بالجامعات المصرية والتي كانت تستغرق وقتًا طويلاً في المراجعة الفنية قبل إصدار التراخيص، وفي بعض الأحيان كانت الإدارات المحلية التي جرى سحب هذا الاختصاص منها تشارك في تأخير إصدار التراخيص ، وكذلك المحافظون الذين كانوا يتخوفون من توبيخهم من جانب السلطة.
وأكد المتحدث أن قرارات الحكومة التي واجهت اعتراضات عديدة وقت إصدارها تسببت في حالة ركود كبيرة في حركة بيع وشراء مواد البناء الخام المستخدمة في عملية البناء.
كما أن بعض المصانع التي تعمل بصناعات مرتبطة بعملية البناء لجأت إلى تخفيض معدلات الإنتاج لديها وسرحت آلاف العمالة، وهو أمر أثر سلبًا على حركة الاقتصاد والتي يلعب فيها قطاع مواد البناء دورًا كبيرًا في توفير فرص عمل جديدة بالسوق المحلي.
وتشير غرفة الصناعات المعدنية باتحاد الصناعات المصرية، إلى أن 40% من مبيعات الصناعات المعدنية ، وبالأخص حديد التسليح والألومنيوم، تُوجه للأهالي في ظروف السوق الطبيعية، لكن التعديلات التي طرأت على قانون البناء عام 2021 عطلت حركة البناء لشريحة كبيرة من المواطنين، وانعكس ذلك على الطاقات الإنتاجية لمصانع القطاع خلال العامين الماضيين، وتأثرت أيضًا المبيعات.
ويعمل في قطاع المقاولات حوالي 20 ألف شركة ما بين الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بالإضافة إلى تجار مواد البناء، بحسب تصريحات صحفية لرئيس الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء محمد سامي.
وكانت وزارة التنمية المحلية قد أصدرت بشكل مفاجئ قرارًا في 24 مايو/أيار من العام 2020 بإيقاف إصدار تراخيص أعمال بناء المساكن الخاصة أو توسعتها أو تعليتها أو تعديلها أو تدعيمها، مع إيقاف أعمال البناء الجاري تنفيذها بمحافظة القاهرة الكبرى والإسكندرية وعواصم المحافظات والمدن الكبرى، وذلك لمدة ستة أشهر.
وبعدها في العام التالي أصدرت الحكومة عدة اشتراطات للبناء تضمنت تحديد ارتفاعات العقارات ونسب البناء من إجمالي المساحة، فضلاً عن تحديد عدد الأدوار.