زيارة ترامب إلى الخليج: شراكات منفصلة لا تؤسس بالضرورة لمركز جيوسياسي دولي

عربي بوست
تم النشر: 2025/05/31 الساعة 08:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/05/31 الساعة 08:22 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلتقي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة السعودية الرياض/رويترز

لا تؤسس جولة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الأخيرة إلى الخليج، والتي شملت السعودية وقطر والإمارات، لحقبة "إعادة الاندماج الأمريكي في الشرق الأوسط"، بل على العكس، أكدت أن أمريكا لا تخطط للعودة إلى المنطقة بوصفها ضامناً، بل كمزاول أعمال يبحث عن صفقات سريعة، ويقيس قيمة الشراكة بعدد الوظائف لا بدرجة الولاء، دون الحديث عن ضمانات أو أحلاف جديدة.

ووفق تقرير نشره موقع "أسباب" للدراسات الجيوسياسية، فقد أشارت الزيارة إلى رؤية واشنطن للخليج باعتباره "محطة مركزية" في النظام العالمي الجديد القائم على التكنولوجيا والمال.

وأتاحت الصفقات الكبيرة التي عقدها ترامب مع الدول الثلاث ربط الاقتصاد الخليجي بالمنظومة الأمريكية، ما يقيّد من انفتاح دول الخليج على بكين وموسكو. في المقابل، فإن دول الخليج أكدت أنها تستثمر استراتيجياً في تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة، وتراهن على تطويرها كخيار دولي أساسي، لكن كشراكات منفصلة، وليس باعتبار الخليج مركزاً جيوسياسياً متكاملاً أو موحداً.

وفاة رجل أضرم النار بنفسه قرب محكمة يُحاكم فيها ترامب
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب/رويترز

وأضاف تقرير "أسباب" أن ترامب تجاهل زيارة تل أبيب خلال جولته الخليجية، وأرسل رسالة واضحة أن مصالح بلاده تقتضي منطقة أكثر استقراراً، وهو ما يتعارض مع رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مواصلة حرب غزة وشن هجوم عسكري على إيران وتقويض الحكم الجديد في سوريا.

ومع هذا، لا ينبغي المبالغة في تقدير التباينات بين ترامب ونتنياهو، إذ تظل الولايات المتحدة حليف إسرائيل الموثوق، ويظل دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل لا يقبل الشك.

الصفقات العسكرية والاقتصادية

في 13 مايو/أيار 2025، عاد ترامب إلى الشرق الأوسط رئيساً للولايات المتحدة في ولاية ثانية، وسط تحولات عالمية متسارعة، وصعود للتعددية القطبية، وتراجع نسبي في الثقة بالسياسات الأمريكية. وجاءت الزيارة تحت شعار التعاون الاقتصادي، وحملت في طياتها أبعاداً أعمق: إعادة صياغة موازين النفوذ الإقليمية، وتكريس نهج المعاملة التجارية، وتأكيد أولويات واشنطن الإقليمية.

وهيمنت الصفقات الاقتصادية والعسكرية على الزيارة، بما يشمل استثمارات وتعاقدات سعودية بقيمة 600 مليار دولار، وفي الدوحة، بلغت قيمة الاستثمارات والتعاقدات 1.2 تريليون دولار، بينما التزمت الإمارات باستثمار 1.4 تريليون دولار على مدى العقد القادم، تركز على الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، والطاقة، والتصنيع.

وعلى المستوى السياسي، شهدت الزيارة قرارات أبرزها رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ولقاءً تاريخياً مع رئيسها أحمد الشرع. كما برزت دعوة ترامب لإيران للقبول بعرض أمريكي جديد بشأن برنامجها النووي، مع تحذيره من عواقب الرفض.

الأرقام الرئيسية للصفقات مبالغ فيها، في ظل رغبة الجانبين في إظهار مدى تعاونهما، كما أن كثيراً من الاتفاقيات عبارة عن مذكرات تفاهم ما زالت غير ملزمة. ومع هذا، فإن هذه الخطط في مجملها تعكس توجهاً استراتيجياً أمريكياً واضحاً لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية مع دول الخليج في مواجهة التنافس مع الصين وروسيا.

إقامة دولة فلسطينية
ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي في الرياض/ رويترز

ترامب رجل الصفقات

منذ أن دخل ترامب المشهد السياسي، وهو يقدم نفسه كرجل صفقات لا كرجل مبادئ أو قيم ومعتقدات. وفي السياسة الخارجية، هذا يترجم إلى نهج براغماتي قائم على مبدأ المقابل المادي المباشر، وليس التحالفات طويلة الأمد. ولذا تختلف رؤية ترامب للعلاقات الدولية عن تقاليد السياسة الأمريكية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تنظر إلى العالم من خلال عدسة "الدور القيادي الأمريكي"، والشراكات المؤسسية المتعددة الأطراف، ونشر "القيم الأمريكية". فترامب يرى أن العالم سوق مفتوح، وأن الدول الأخرى زبائن محتملون.

عاد ترامب إلى البيت الأبيض محملاً بوعود بإنهاء الحروب، وتركيز السياسة الخارجية على الصفقات بدلاً من الالتزامات طويلة الأجل. ويأتي الشرق الأوسط ضمن هذه المقاربة الترامبية: تأثير بلا احتلال، وتحالفات وظيفية لا مؤسساتية. وتجلى هذا المنطق في زيارة ترامب للخليج. فالمعارك التي تخوضها واشنطن لم تعد ترتكز إلى مفاهيم من نوعية الالتزام بالأمن الجماعي للخليج، بل ترتكز إلى الربح المباشر.

ولذا، كانت الزيارة في الأساس صفقات استثمارية، تؤكد على نهج ترامب بأن "أمريكا قوية حين تتحالف مع من يملك المال والطموح، لا من يستهلك أمنها"، كما أنها تتيح ربط الاقتصاد الخليجي بالمنظومة الأمريكية، ما يقيّد من انفتاح دول الخليج على بكين وموسكو، ويثبت واشنطن كمصدر أول للثقل المالي والتكنولوجي.

السعودية: الاقتصاد لبّ الشراكة

بدأت جولة ترامب من الرياض، في مواصلة لاتجاه بدأه في ولايته الأولى، حين اختار الرياض كمحطة لزيارته الخارجية الأولى عام 2017. وعلى الرغم من أن السعودية هذه المرة جاءت كمحطة ضمن جولة أوسع، فإن الرياض ظلّت محوراً لزيارة ترامب للمنطقة. وقد استُقبل ترامب بحفاوة بالغة، وشهدت الزيارة الإعلان عن اتفاقيات استثمارية بقيمة 600 مليار دولار، وبالأخص صفقات تسلّح وتعاون تكنولوجي بقيمة 142 مليار دولار، واستثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة، وصفقة محتملة لبناء مفاعلات نووية مدنية بإشراف أمريكي جزئي.

وتسعى السعودية لبناء سياسة خارجية أكثر توازناً ومتعددة الأقطاب، لا تهمل موسكو أو بكين. ولذلك، فإن الرياض التي تنظر إلى العلاقة مع واشنطن باعتبارها ضمانة استراتيجية، فإنها أيضاً تسعى للاستفادة من فرصة التفاوض مع شريك لم يعد وحده في الساحة. ولذا جاء الرد السعودي فيما يخص التطبيع حذراً ومشروطاً: لا تطبيع دون مكاسب ملموسة للفلسطينيين، وضمانات أمنية حقيقية للسعودية. وعلى الرغم من تمسك الرياض بتطوير الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، إلا أنها تواصل بالتوازي تنويع علاقاتها الدولية، خاصة مع الصين وروسيا والهند.

وأرسلت الزيارة رسالة واضحة حول موقع السعودية في استراتيجية ترامب في المنطقة، وربما على الصعيد الدولي أيضاً، إذ يراهن على المملكة في قيادة المنطقة العربية، وفي التأسيس لتوازن نفوذ إقليمي مع كل من تركيا وإسرائيل، وربما أيضاً إيران إذا توصل لاتفاق معها. 

وتؤكد مشاركة الرئيس التركي افتراضياً، وعقد المباحثات الجديدة مع روسيا في إسطنبول، أن ترامب يحتفظ لأنقرة بدور إقليمي واسع أيضاً. ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تريد من حلفائها الثلاثة (تركيا والسعودية وإسرائيل) التفاهم حول سوريا وتحمل عبء مستقبلها دون صدام. وللمفارقة، فإن الرئيس السوري أيضاً يتبنى نفس النهج؛ إذ يسعى لشراكة استراتيجية مع السعودية يوازن بها شراكته الضرورية مع تركيا، وعقد تفاهمات شاملة مع تل أبيب تجنّب النظام الجديد الصدام معها.

ويتضح من ذلك أن واشنطن تراهن على الرياض ليس اقتصادياً فحسب، بل استراتيجياً أيضاً. فبالنظر إلى تقلبات المنطقة، تبرز الحاجة إلى هيكل أمني جديد يُخفف العبء الذي تحملته واشنطن لما يقرب من قرن.

أمير قطر يعزي هنية باستشهاد عدد من أبنائه وأحفاده
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – رويترز

قطر: شراكة متعددة الأبعاد

كانت الدوحة ثاني محطات ترامب الخليجية، فزار قاعدة العديد العسكرية، كما شهد توقيع اتفاقيات اقتصادية وعسكرية ضخمة، وتعهدات بتبادل اقتصادي بين الولايات المتحدة وقطر بقيمة تصل إلى 1.2 تريليون دولار، ومن ضمنها اتفاقية لشراء 210 طائرات من طراز بوينغ بقيمة 96 مليار دولار، تُعد الأكبر في تاريخ الشركة، وصفقات دفاعية تشمل طائرات مسيّرة وأنظمة مضادة للطائرات بدون طيار بقيمة إجمالية تتجاوز 3 مليارات دولار، واستثمار 200 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية التكنولوجية.

وحرص ترامب على الإشارة إلى الدور القطري في التوسط بين واشنطن وطهران، مما أبرز أهمية دور الدوحة كشريك دبلوماسي يلعب دوراً حيوياً في القنوات الخلفية المعقدة، فهي وسيط رئيسي في ملف غزة، ولديها علاقات مرنة مع إيران وروسيا وأفغانستان ولبنان وسوريا.

وبالنسبة للدوحة، فإن رغبة الإدارة الأمريكية في احتواء أزمات المنطقة تمثل فرصة؛ إذ ستكون الحاجة لجهود الوساطة ضرورية ومستمرة، مما يزيد من فرص قطر لتعزيز نفوذها الدبلوماسي، ومواصلة العمل عن قرب مع الولايات المتحدة.

الإمارات: البيانات بدلاً من النفط

في الإمارات، لا تدور الشراكة مع واشنطن حول الأمن مقابل النفط، بل تُبنى على تفاعل معقد بين التموضع الاقتصادي والانخراط التكنولوجي والأدوار الأمنية. فالإمارات لا تسعى إلى قيادة إقليمية بالمفهوم التقليدي، بل إلى تميز وظيفي يمنحها موقعاً لا يمكن تجاوزه في خرائط واشنطن الجديدة. وتقدم أبوظبي لترامب نموذجاً براغماتياً، تتقاطع فيه المصالح بهدوء. فالإمارات في هذا السياق لا تمثل عبئاً جيوسياسياً، بل أصلاً قابلاً للتداول: دولة صغيرة بحجمها، لكنها كبيرة بوظيفتها في المنظومة.

ومنذ سنوات، تقوم استراتيجية أبوظبي على بناء شبكات لوجستية وإعلامية ومالية تتجاوز حجم الدولة، مما يجعلها شريكاً مثالياً لإدارة ترامب، التي تقدّر الكفاءة والموارد والانضباط السياسي. 

ولذا، لم تركز زيارة ترامب على زيادة التمركز العسكري الأمريكي في الإمارات، بل على تعزيز البنية التحتية للتعاون، خاصة الذكاء الاصطناعي، أمن الموانئ، إدارة سلاسل الإمداد. وضمن هذا السياق، أعلن الرئيس الإماراتي أن بلاده ستستثمر 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر المقبلة، تشمل شراكة لبناء أكبر مركز بيانات للذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة في أبوظبي، لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي بقدرة 5 جيجاوات. وهو ما يبرهن أن القواعد العسكرية التقليدية لم تعد وحدها محور العلاقة.

كذلك برز ملف العلاقات مع إسرائيل خلال الزيارة باعتباره نموذجاً لنجاح السياسة الأمريكية في ولاية ترامب الأولى. وبدا أن إدارة ترامب تنظر إلى الإمارات كحجر زاوية في مساعيها لتوسيع اتفاقات إبراهام، لا بوصفها مجرد طرف موقّع، بل كحاضنة قادرة على تقديم تغطية ناعمة لدول عربية أخرى قد تدخل لاحقاً في حلبة التطبيع.

ورغم جاذبية العلاقة مع إدارة ترامب، فإن السياسة الأمريكية مؤخراً تفتقر إلى الاتساق المؤسسي، وقد يجرّ هذا الإمارات إلى مواقف مفاجئة لا تتسق مع سلوكها الحذر. فبحكم موقعها كمحور لوجستي، تحرص الإمارات على التعاون مع الصين في مشاريع كبرى كالموانئ والسكك الحديدية والطاقة، لكنها في الوقت نفسه ستتعرض لضغوط أمريكية مستمرة لفك الارتباط التقني مع بكين. هذا التوازن مرهق، ويجعل من الشراكة مع واشنطن عبئاً في بعض الأحيان، خاصة وأن الولايات المتحدة لم تتجاوب حتى الآن مع مساعي الإمارات للتوصل إلى اتفاق شراكة دفاعية ملزمة مع الولايات المتحدة.

تحميل المزيد