كانت روسيا حليفاً استراتيجياً لأرمينيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، لكن يريفان تدور بعيداً عن فلك موسكو، فما مؤشرات هذا التباعد؟ وماذا سيعنيه بالنسبة لسخونة التنافس في منطقة القوقاز؟
منصة "أسباب" المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي رصدت العلاقات المتوترة للغاية بين أرمينيا وروسيا وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للعلاقات المتشابكة بين دول منطقة القوقاز.
أرمينيا تبتعد عن فلك روسيا
كان أرمين غريغوريان، أمين عام مجلس الأمن القومي الأرميني، قد أعلن يوم السادس من مارس/آذار 2024 أن بلاده قد طلبت من موسكو سحب قوات حرس الحدود الروسية المتمركزة في مطار زفارتنوتس الدولي في العاصمة يريفان، على أن تقوم القوات الأرمينية بمفردها بتأمين المطار.
جاء ذلك بعد أن كان رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، قد أعلن في 23 فبراير/شباط، عن تجميد عضوية بلاده في منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" التي تقودها روسيا، والتهديد بالانسحاب منها، بحجة أنها لم تف بالتزامها بالدفاع عن أرمينيا، فضلاً عن مناقشته إمكانية زيادة التعاون العسكري مع حلف الناتو، خلال استقباله ممثل من الحلف في 19 يناير/كانون الثاني.
غضب أرمينيا من روسيا
تعكس خطوات أرمينيا انزعاجها من روسيا، وتقديرها أن موسكو إما لم تعد قادرة عن حمايتها، أو أنها قد تخلت عنها؛ ففي حرب عام 2020 مع أذربيجان لم تفعل روسيا بنود معاهدة منظمة "معاهدة الأمن الجماعي"، والتي تنص على أن أي عدوان على دولة عضو بالمنظمة يمثل عدواناً على بقية الدول.
فقد تذرعت موسكو وقتها بأن الحرب في إقليم ناغورنو قرة باغ تجري خارج الأراضي الأرمينية، وبالتالي لا تنطبق عليها المعاهدة. ثم وصل انزعاج أرمينيا ذروته إثر سيطرة أذربيجان على كامل إقليم ناغورنو قرة باغ في سبتمبر/أيلول 2023 دون تدخل من قوات حفظ السلام الروسية المنتشرة في الإقليم، والبالغ عددها 1960 جندياً.
وتخشى أرمينيا من اندلاع مواجهات عسكرية مجدداً مع أذربيجان على خلفية سعي باكو وأنقرة لتأمين ممر زنغزور البري عبر الأراضي الأرمينية، والذي يربط أذربيجان بجيب ناختشيفان الأذري، ثم بالأراضي التركية.
وترى أرمينيا أن قوة أذربيجان العسكرية المتنامية تشجعها على اتخاذ مواقف أكثر حزماً في المفاوضات، بينما روسيا منشغلة بحربها في أوكرانيا، وتريد الحفاظ على شراكتها الجيدة مع تركيا حليفة أذربيجان.
علاقات متنامية مع الغرب
حدث التصعيد في المواقف الأرمينية ضد روسيا بعد أن شرعت يريفان في تعميق علاقاتها مع الغرب؛ حيث تتلاقى مع رغبة فرنسا الدائمة لكبح النفوذ التركي، ومساعي الولايات المتحدة في إضعاف نفوذ روسيا جنوب القوقاز.
فقد بدأت شركة الاستشارات الأمريكية Culmen منذ عام 2023 في تعديل هيكل أرمينيا الدفاعي، خاصة فيما يتعلق بالتخطيط الاستراتيجي وإجراءات المشتريات العسكرية، لتحويلها من نموذج الحقبة السوفييتية إلى نموذج يلبي معايير حلف الناتو، كما خصصت وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2024 مساعدات بقيمة 40 مليون دولار لأرمينيا لمساعدتها على تعزيز مؤسساتها، وخاصة هياكلها الأمنية.
كذلك زار وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو أرمينيا في أواخر فبراير/شباط 2024، فيما تتزايد قائمة المبيعات العسكرية الفرنسية لأرمينيا والتي شملت عربات Arquus المدرعة ورادارات "تاليس GM200" وصواريخ "ميسترال" المضادة للطائرات، ويدور حديث عن أنها قد تشمل في المستقبل القريب صواريخ "كروتال" وأنظمة SAMP-T المضادة للطائرات.
كيف ترى روسيا تلك التحولات؟
من جانبها، تخشى موسكو أن تكون مواقف أرمينيا الأخيرة ليست سوى جزء صغير من تحول أكثر أهمية في توجهها نحو الغرب، ويساورها القلق من أن تحركات أرمينيا التالية ستشمل المطالبة بإغلاق القاعدة الروسية في غيومري في أرمينيا، والتي يتمركز بها نحو 4000 جندي روسي.
لذلك كله أكد وزير الخارجية الروسي لافروف خلال مشاركته في منتدى أنطاليا بتركيا في مارس/آذار 2024 على أن موسكو قد "تعيد النظر في سياستها تجاه أرمينيا، وأنها قد تتخذ خطوات عملية رداً على صداقة يريفان مع أعداء روسيا".
وتحمل تلك التصريحات الروسية تهديدات توحي بأن موسكو قد تلجأ إلى زعزعة الاستقرار داخل أرمينيا أو استخدام وكلاء للإطاحة بحكومة باشينيان لإثبات أن حرب أوكرانيا لن تمنعها من الدفاع عن نفوذها التاريخي، وهو ما قد يزيد من التوتر في منطقة جنوب القوقاز، والتي باتت ساحة تنافس إقليمي ودولي، بعد أن كانت منطقة نفوذ روسية خالصة في العقود الماضية.
جنوب القوقاز.. صراع النفوذ والمصالح
تتلاقى مصالح أرمينيا مع إيران؛ إذ ترى طهران أن فتح ممر زنغزور سيؤثر سلباً على مشروع ممر النقل الشمال الجنوب الذي تعول عليه في تعزيز حركة النقل بين روسيا والهند والموانئ الإيرانية على الخليج، خاصة في ظل تنامي السباق بين مشروعات النقل بين آسيا وأوروبا.
بالإضافة لذلك؛ فإن إتاحة الوصول البري المباشر من تركيا إلى أذربيجان تعزز حضور تركيا جنوب القوقاز، كما تعني من وجهة نظر إيران وصول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى بحر قزوين، ما يؤدي إلى تطويق إيران وروسيا، ومن ثم يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
لذلك كرر وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، التأكيد على أن طهران لن تتسامح مع أي تغييرات في الحدود الجيوسياسية وفي الممرات التاريخية لجنوب القوقاز، وشدد على أن هذه المسألة خط أحمر، وأن أمن أرمينيا من أمن إيران.
وضمن هذا السياق، أعلن مهدي سبحاني، السفير الإيراني في أرمينيا، في 3 يناير/كانون الثاني 2024، أن السفن الأرمينية يمكنها استخدام موانئ تشابهار وبندر عباس الإيرانية. وهو ما سيتيح لأرمينيا بجوار استيراد أسلحة متطورة، زيادة الوصول إلى الأسواق في الخليج والهند عبر توسيع خياراتها التجارية خارج الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تهيمن عليه موسكو.
علاقات أرمينيا وأذربيجان
تتزايد قناعة مخططي السياسة في أرمينيا بأن أي مواجهات عسكرية حالياً مع أذربيجان في ظل اختلال موازين القوى لن تكون في صالحهم، ولذا يعملون على تطوير قدرات أرمينيا العسكرية.
ووجدت يريفان في الهند شريكاً لتكوين تحالف أرميني هندي إيراني في مواجهة الحلف الأذري التركي الباكستاني.
ولذا؛ تدرس يريفان توقيع اتفاقيات مع طهران لاستخدام الموانئ الإيرانية في نقل الأسلحة مع الهند، وذلك بعد أن وقعت أرمينيا عقوداً مع الهند عام 2022 لشراء قاذفات صواريخ من طراز بيناكا، وصواريخ مضادة للدبابات، كما تتفاوض حالياً مع نيودلهي على شراء طائرات بدون طيار، وأنظمة مضادة للطائرات بدون طيار، وصواريخ أرض- أرض متوسطة المدى.