يمثل الفوز الذي حققه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في انتخابات الرئاسة المصرية، التي أُجريت مؤخراً، الجزء الأسهل بالنسبة له في المشهد السياسي الحالي؛ إذ سيكون على البلاد التعامل مع أزمة اقتصادية حادة مرشحة للتصاعد.
وحقق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الفوز في الانتخابات الرئاسية المصرية التي عُقدت هذا الشهر، ليحسم ولاية رئاسية ثالثة في تصويت حُددت نتائجه مسبقاً، حسب وصف تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ومع ذلك أشاد به المؤيدون بوصفه تفويضاً واضحاً لست سنوات أخرى من حكم البلاد، حتى في الوقت الذي تواجه فيه البلاد اقتصاداً منهاراً وحرباً مستعرةً عند حدودها، حسب وصف الصحيفة.
وتقول الصحيفة: "لقد حصل السيسي، الزعيم والجنرال السابق الذي وصل إلى سدة الحكم بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي في 2013، على حوالي 90% من الأصوات، وذلك حسبما أعلن مسؤولو الانتخابات في مؤتمر صحفي عُقد أمس الإثنين 18 ديسمبر/كانون الثاني. وحصل بضعة المرشحين المغمورين الذين خاضوا الانتخابات ضده -فلا يشكل أي منهم تحدياً حقيقياً- على حوالي 10% من الأصوات مقسمةً فيما بينهم".
وبنسبة اقتربت من 67%، وفقاً للهيئة الوطنية للانتخابات، كانت المشاركة هذا العام أعلى من انتخابات 2014 و2018. وصف المستشار أحمد بنداري، مدير الجهاز التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات، الاستحقاق الانتخابي بأنه "غير مسبوق" في التاريخ المصري.
وشغل السيسي بالفعل المنصب لولايتين رئاسيتين سابقتين، لكن تعديلاً دستورياً في 2019 مهد أمامه الطريق للبقاء في السلطة حتى عام 2030. غير أن السيسي يرأس بلداً مُثقلاً بالديون ومتعثراً اقتصادياً، وبجواره صراع دموي بلا نهاية يسيرة في الأفق.
وعجز الخصم الحقيقي للسيسي في الانتخابات، وهو النائب البرلماني المصري السابق أحمد طنطاوي، عن الترشح في الانتخابات الرئاسية بعد عرقلة مؤيديه عن منحه التوكيلات المطلوبة لإعلان ترشحه، حسب الصحيفة الأمريكية، واعتُقل أقارب طنطاوي وأعضاء من حملته الانتخابية، أو تعرضوا لمضايقات، واتُّهم في الشهر الماضي باتهمات وصفتها جماعات حقوقية بأنها ذات دوافع سياسية.
المنافسة في الانتخابات الرئاسية المصرية محسومة سلفاً
وسلطت وسائل الإعلام المصرية، التابعة للدولة كلياً تقريباً، الضوء على إنجازات السيسي، في حين أنها لم تمنح المرشحين الثلاثة الآخرين سوى القليل من الوقت. غالبية المصوتين الذين أجرت معهم صحيفة The Washington Post مقابلات في العاصمة المصرية خلال أيام التصويت الثلاثة في الأسبوع الماضي، لم يسمعوا قط عن أسماء المرشحين الآخرين.
وتقول الصحيفة الأمريكية: "بالنسبة للسيسي وداعميه، كان كل هذا من أجل المشهد العام".
كانت اللوحات الإعلانية الضخمة التي تحمل وجه السيسي مع شعارات "كلنا معك" و"حبيب المصريين"، تلوح في آفاق متاهة الطرق السريعة المنتشرة حول القاهرة قبيل التصويت. واصطفت لافتات حملته الانتخابية على جانبي الشوارع الرئيسية.
في مركز اقتراع بمنطقة السيدة زينب، أحد أحياء الطبقة العاملة في وسط القاهرة، ارتدى المتطوعون قمصاناً مزينة بوجه الرئيس، بينما كانوا يحشدون المصوتين في صف واحد. وبالقرب من ميدان التحرير، الذي كان بؤرة انطلاق ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، سار الشباب والشابات في شارع واسع خلف لوحات "السيسي رئيساً للجمهورية".
التصويت واجب مدني، والمؤيدون يؤكدون أن الانتخابات نزيهة
وصف كثير من المصوتين خارج مراكز الاقتراع في الأسبوع الماضي، عملية التصويت بأنها واجب مدني.
وقالت رشا عاشور، اختصاصية التغذية البالغة من العمر 40 عاماً التي تعيش في حي البساتين، أحد أحياء الطبقة العاملة: "يجب أن أبدي رأيي. نريد أن تكون البلاد أفضل، ولذلك نحاول دعمها كي تكون أفضل".
وأوضحت أن ذلك يعني التصويت للسيسي.
أما وليد، رجل الأعمال البالغ من العمر 58 عاماً، الذي كان يرتدي ملابس أنيقة وأدلى بصوته في وسط القاهرة، فقد أصر على أنها كانت "انتخابات حرة ونزيهة".
وأوضح وليد، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه الثاني لأسباب تتعلق بالخصوصية: "لم يغش أي شخص. صوتنا لاختيارنا، لرئيسنا. لقد قام بعمل عظيم. لقد حمى بلادنا".
لكن كثيراً من المصريين مكثوا في منازلهم، مستائين من مستويات المعيشة المنحدرة، شاعرين بالعجز عن تغيير الأوضاع.
في حي بولاق الدكرور، أحد أحياء الطبقات ذات الدخول المنخفضة، المعروف بأزقته غير الممهدة التي تنتشر فيها عربات الكارو، وقف عاطل يبلغ من العمر 26 عاماً متكئاً على جدران إحدى ورش الحدادة في الأسبوع الماضي، وقال إنه لم يخطط لا هو ولا أصدقاؤه للتصويت.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عنه قوله إن السيسي "دمر البلاد تماماً، وجعل المعيشة صعبة للغاية"، حسب تعبيره، وقد تحدث هذا الشاب بشرط عدم الكشف عن هويته خوفاً على سلامته.
وأضاف: "لا أحد يدلي بصوته. هؤلاء الذين يذهبون للتصويت، يذهبون من أجل المال. لا أعلم ماذا يعطونهم، لكن لا بد أنهم يعطونهم المال"، على حد قوله.
وشاهد مراسلو صحيفة The Washington Post مجموعة من النساء التي تتزاحم حول رجل داخل إحدى مناطق الاقتراع في وسط القاهرة، ويطالبونه باسترداد مقابل كوبوناتهم.
ضغوط على الموظفين للذهاب للتصويت
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن معلمة تبلغ من العمر 40 عاماً وتعيش في حلوان جنوب القاهرة، قولها إنها لم ترغب في الإدلاء بصوتها. لكن رؤساءها أجبروا المعلمين في المدرسة الحكومية التي تعمل فيها على ركوب حافلات والذهاب إلى مراكز الاقتراع. بعد أن أدلت بصوتها، أعطاها المسؤولون المحليون هي والآخرين الذين أثبتوا أنهم صوتوا مبلغاً من المال قدره 200 جنيه، حوالي 6 دولارات.
وقالت إن زملاءها الذين لم يذهبوا إلى مراكز الاقتراع، قيل لهم إنهم سوف يُبلغ عنهم للإدارة التعليمية، وإنهم سوف يُحرمون من الإجازات مدفوعة الأجر، وإنهم سوف يُخصم لهم ثلاثة أيام من رواتبهم.
وقالت المعلمة التي تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها خوفاً على سلامتها الشخصية: "إنها انتخابات بالإجبار"، على حد تعبيرها.
في المقابل، قال ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، إنه لم يكن هناك أي دليل على دفع مال أو سلع مقابل الأصوات، وإن هذه الممارسات تمثل جرائم بموجب القانون المصري.
وقال المستشار حازم بدوي، رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، إنه لم تكن هناك "انتهاكات في العملية الانتخابية"، وذلك في مؤتمر صحفي عُقد أمس الإثنين 18 ديسمبر/كانون الثاني.
غالبية المصريين الذين أجريت معهم مقابلات عن طريق صحيفة The Washington Post، لم يظهر أن استعدادهم للإدلاء بصوتهم نابع من حب الرئيس بقدر ما كان نابعاً من الخوف الذي تملكهم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أطلقت حماس عملية طوفان الأقصى، مما أثار حرباً في قطاع غزة المتاخم للحدود المصرية.
فبينما تقصف إسرائيل غزة، مما أدى إلى استشهاد آلاف المدنيين، يتصاعد الغضب الشعبي من إسرائيل وداعميها الغربيين. إذ إن تصريحات بعض الساسة الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين -مقترنةً بالهجوم العسكري الذي دفع حوالي مليوني من سكان غزة نحو الحدود المصرية- أثارت المخاوف في مصر من أن إسرائيل تحاول دفع الفلسطينيين نحو شمال سيناء.
أصر السيسي على أن مصر لن تتواطأ في تهجير الفلسطينيين أو تعريض أمنها وسيادتها للخطر. لقي موقفه استحساناً حتى من بعضٍ من أشد نقاده، وجدد الاحترام الذي يحظى به من جانب بعض المصريين، الذين كانوا غاضبين منه بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية.
في حي السيدة زينب، عززت الحرب قناعات السكان بأن القائد العسكري هو أفضل خيار لمصر، وذلك حسبما قال عادل توفيق، صاحب محل البقالة البالغ من العمر 75 عاماً.
وقال توفيق: "تأثرت شعبيته بسبب ارتفاع الأسعار، ولكن بعد غزة عادوا لدعمه مرة أخرى. (انظروا إلى) السودان وليبيا وسوريا وفلسطين — مقارنة بالآخرين، نحن في وضع أفضل. وإننا تماماً في وسط النيران".
شكل الأمن والاستقرار حجر الأساس الذي تنطلق منه أفكار السيسي منذ وصوله إلى السلطة في 2013، بعد انقلاب عسكري أطاح محمد مرسي، الذي كان أول رئيس مصري منتخب في انتخابات ديمقراطية والذي كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. وتقول الصحيفة إن السيسي راهن على أن المصريين والداعمين الأجانب سوف يتسامحون مع ما تصفه الصحيفة بالقمع الداخلي، واعتقال المدافعين عن حقوق الإنسان أو نفيهم، وتقلص المجال المدني، بل وسوء إدارة الاقتصاد، ما دام سيضمن أن مصر سوف تبقى هادئة في منطقة تمزقها الاضطرابات، حسبما ورد في تقرير واشنطن بوست.
وتقول الصحيفة: "أعادت الحرب في غزة هذا الجدال إلى الواجهة مرة أخرى، ومنحت السيسي دفعة كان في حاجة ماسة إليها".
وقد بدا أن نسبة المشاركة العامة الأعلى في هذه الانتخابات تعكس "قلق المصريين وغضب الشباب من المجتمع الدولي"، وذلك حسبما قالت نهى بكر، أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
مصر تواجه عدداً كبيراً من التحديات
ولكن إذا كان الفوز في الانتخابات هو الجزء الأسهل، فإن السيسي يواجه مجموعة من التحديات المنتظرة.
وقال المحللون إن ثمة أولوية آنية تتمثل في إبعاد مصر عن الحرب في غزة والمحافظة على اتفاقية السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في عام 1979، وفي الوقت ذاته محاولة تهدئة الغضب الشعبي بسبب معاناة الفلسطينيين.
وفقاً لصحيفة، The Wall Street Journal الأمريكية، فإن الأزمة الاقتصادية العميقة داخلياً تعني أن استضافة الفلسطينيين ربما تستنزف الموارد المالية الحكومية، برغم أن السلطات ربما تتوقع الحصول على مساعدات إنسانية مهمة لدعم اللاجئين، وذلك حسبما يقول المحللون.
ويقول المحللون السياسيون إن السيسي سوف يحتاج إلى إدارة الموقف عند الحدود مع غزة بحرص شديد خلال الأشهر القادمة؛ نظراً إلى أن فتح الحدود أمام اللاجئين الفلسطينيين يحمل أيضاً مخاطر أمنية على السيسي، الذي قضى العقد الماضي يقاتل الجماعات المسلحة في شبه جزيرة سيناء.
المصريون يخشون من أن يؤدي استقبال الفلسطينيين لتصفية القضية وتهديد أمنهم
يرى بعض المصريين أن السماح باستقبال الفلسطينيين يشكل خطراً أمنياً، بالإضافة إلى كونها خطوة ستضعف القضية الفلسطينية. وقالت هند الهلالي، الموظفة الإدارية في جامعة القاهرة التي تبلغ من العمر 47 عاماً: "نريد السلام. لكننا لا نريده أن يكون على حساب أمننا، أو على حساب القضية الفلسطينية".
فيما قالت شيرين منير، الصيدلانية التي تعيش في القاهرة: "الشعب المصري عاطفي للغاية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ورؤية قائدهم يدعمها ويدعم الفلسطينيين أدى إلى رفع شعبيته كثيراً".
وأوضحت: "أعلن السيسي أكثر من مرة رفضه السماح بالتهجير القسري للفلسطينيين، وقد سمح للمصابين بالعبور إلى سيناء لتلقي العلاج".
ومع ذلك، لا تزال حالة عدم الرضا بين المصريين تهدد بإثارة احتجاجات شعبية ضد السيسي، وذلك حسبما قال نشطاء حقوق الإنسان. اعتقلت السلطات عشرات المحتجين، عندما وصلت تظاهرة مؤيدة لفلسطين في القاهرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى ميدان التحرير الشهير، وبدأ بعض الأشخاص يهتفون بشعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
حرب غزة ضربة جديدة للاقتصاد
بحسب صحيفة The Washington Post، وصل الاقتصاد، الذي يعتمد بشدة على السياحة والواردات، إلى أدنى مستوى منذ عقود، متأثراً بجائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا، والآن يتأثر بالقتال الدائر في غزة. لكن المحللين أيضاً يشيرون إلى مشكلات هيكلية خطيرة، مقترنةً بإنفاق حكومي متهور.
واستدانت الحكومة بشدة لتمويل مشروعات البنى التحتية والتشييد الضخمة، بما في ذلك مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء خارج القاهرة، البالغة قيمته 58 مليار دولار. يستفيد الجيش، المنخرط بشدة في الاقتصاد تحت حكم السيسي، من كثير من هذه المشروعات، حسب وصف الصحيفة.
ويقول بعض المصريين إن الطرق الجديدة قللت من الازدحامات المرورية في القاهرة الكبرى، التي تضم ربع سكان مصر البالغ عددهم 105 ملايين نسمة. لكن الدين الخارجي للبلاد وصل إلى حوالي 165 مليار دولار، أي حوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي. شكلت مدفوعات خدمة الدين حوالي 60% من الإنفاق الحكومي في الأشهر الثلاثة الأولى من العام المالي 2023.
وتواجه مصر مواعيد نهائية وشيكة لسداد ما لا يقل عن 42 مليار دولار إلى المقرضين بحلول العام القادم. وفقاً لتصنيفات وكالة Bloomberg الصادرة مؤخراً، تعد مصر ثاني البلاد حول العالم التي يُرجح أن تعلن تخلفها عن سداد مدفوعات الدين، ولا يسبقها في هذه التصنيفات إلا أوكرانيا.
وقال تيموثي كالداس، نائب مدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط: "في الأساس كانت المدة الكاملة لرئاسة السيسي، عبارة عن سلسلة متوطنة من الأزمات الاقتصادية، وإنها ليست مصاعب اقتصادية وحسب، بل إهانة. وبينما يحدث كل هذا، يشاهد المصريون النظام وهو يحقق ثراءً لنفسه"، حسب تعبيره.
ويبلغ مستوى التضخم 34.6%. بل يصل إلى الضعف تقريباً بالنسبة للمنتجات الغذائية. في خضم أزمة عملة طاحنة، يكتنز المصريون الدولارات أو يبيعونها في السوق السوداء.
وارتفعت أسعار السلع الأساسية بشدة، وترتفع معها مستويات الفقر. في حين أن برامج الرفاه تقدم الدعم الأساسي إلى الفقراء، فإن الطبقة المتوسطة تتعرض للتجريف. في شوارع القاهرة وفي البرامج الحوارية الشهيرة، هيمنت أسعار البصل و"أزمة السكر" التي استمرت لأشهر، على مجال الحديث.
المصريون يخشون من تعويم قادم
ويخشى كثير من المصريين من تعويم قادم للعملة، يطالب به المقرضون الدوليون.
وقالت ربة منزل وأم لثلاثة أطفال من بولاق الدكرور، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها خوفاً على سلامتها: "يتوقع الناس الآن أنه بعد فوزه، سوف ترتفع الأسعار إلى الضعف".
وأوضحت ربة المنزل أنها اعتادت أن تطهو اللحوم أو الدجاج لأسرتها مرتين أسبوعياً، لكنها لم تعد تفعل ذلك. وأوضحت أن بعض جيرانها ينامون جوعى.
وأضافت: "يقول إنه يعتني بالنساء"، في إشارة إلى السيسي، الذي يتردد كثير من المصريين في نطق اسمه علناً. وتابعت حديثها قائلة: "لكن النساء هنا يشعرْن بالضغوط. لا أعتقد أن الأوضاع ستتحسن".