الأمر بدأ مع المهاجرين.. كيف سيدفع الليبراليون ويهود أوروبا ثمن تبنيهم للعنصرية وشيطنة الفلسطينيين؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/12/14 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/14 الساعة 11:43 بتوقيت غرينتش
متظاهرون مناهضون يسخرون من الشرطة عند وصولهم إلى لندن بأعداد كبيرة لتفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في نوفمبر/تشرين الثاني-رويترز

كان موقف الاتحاد الأوروبي الداعم للعدوان الإسرائيلي ضد غزة خاصة في بدايته بمثابة انقلاب على السياسة التقليدية لبروكسل، والذي رغم انحيازاته التقليدية لتل أبيب كان عادة أكثر توازناً من الولايات المتحدة، الأمر الذي يعد نتيجة طبيعية لتبني "خطاب اليمين المتطرف ضد المهاجرين، خاصة ذوي الأصول العربية المسلمة".

فأوروبا لم تشهد هذه المرة فقط انحيازاً لإسرائيل، بل محاولة غير مسبوقة لتكميم أفواه المحتجين ضد إبادة الفلسطينيين بطريقة تفوق ما حدث في الولايات المتحدة نفسها، وهو أمر يعزز لتيار متصاعد من العداء للعرب والمسلمين سبق حرب غزة بسنوات.

ووصلت عنصرية  سياسات  الحكومات الأوروبية، حسب منظمة "هيومان رايتس واتش" الأمريكية الحقوقية "HW" إلى حد أنه منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتم في أغلب دول أوروبا رصد معاداة السامية، دون رصد إحصائي لجرائم الإسلاموفوبيا، إضافة لمنع العديد من الدول الأوروبية الاحتجاجات على التظاهرات الرافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة، قبل أن يرفع بسبب أحكام قضائية، ولكن مع فرض قيود على الشعارات المرفوعة، بل وصل الأمر إلى منع ولايات ألمانية المساجد من صلاة الغائب على شهداء غزة، حسب ما قال مصدر عربي مهاجر في ألمانيا لـ"عربي بوست".

انحياز فج من الاتحاد الأوروبي أثار انقساماً عميقاً

منذ التسعينيات، حافظ الاتحاد الأوروبي دائماً على الوحدة السطحية بشأن حل الدولتين، والعودة إلى حدود عام 1967، وإدانة المستوطنات الإسرائيلية. 

لكن في السنوات الأخيرة، طورت بعض الدول علاقات أوثق مع إسرائيل، بدافع من التاريخ، والعلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية المتنامية، وفي بعض الحالات التقارب السياسي بين القادة السياسيين اليمينيين المتطرفين. ويبدو أن الحرب تظهر أن الإجماع بين الحكومات قد تحول، ما يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف واضح بشأن الصراع، حسب تقرير لمركز Carnegie الأمريكي.

لقد أكدت حرب غزة أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو القضية الأكثر إثارة للانقسام في السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي. 

ألمانيا، بسبب ماضيها، تدعم إسرائيل دون قيد أو شرط. وتريد أيرلندا، الدولة الأكثر تأييداً للفلسطينيين في الاتحاد الأوروبي، وقف إطلاق النار، ومعها إسبانيا وبلجيكا. 

اليمين المتطرف
مظاهرة تدعو إلى السلام والوقف الفوري لإطلاق النار في غزة في باريس في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023- رويترز

وأدى الصراع في غزة إلى تمزيق أوروبا بأكثر من طريقة، مع تصاعد المشاعر بسبب الشعور بالذنب التاريخي تجاه اليهود، مع تعاطف في بعض الطبقات والدول مع الفلسطينيين، الأمر الذي خلق هويات متعددة للأوروبيين أنفسهم.

وحدثت انقسامات حادة بسبب الرد الأولي على الحرب من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وظهرت ردود فعل عنيفة ضد الزيارات التي قام بها رؤساء المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي إلى إسرائيل، والتي اعتبرت خروجاً عن الدبلوماسية التقليدية للاتحاد الأوروبي. والتي اعتمدت دائماً بيانات متوازنة بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية.

شمال وجنوب.. انقسامات لها جذور تاريخية وثقافية

ولكن هذه الانقسامات الاستقطابية مرتبطة بشكل كبير على ما يبدو بالثقافة والعرق، والتاريخ، تبدو دول شمال أوروبا وشرقها الأكثر دعماً، لإسرائيل، وهي الدول التي شهدت وجوداً كثيفاً تاريخياً لليهود، كما أن دول شمال أوروبا هي الدول الاستعمارية الغربية التي تشبه المشروع الاستيطاني الغربي، وهي الدول التي كان خطابها العنصري يطول أحياناً مواطني جنوب وشرق أوروبا.

بينما دول جنوب أوروبا المتوسطية الأقرب للعالم العربي (باستثناء إيطاليا التي تقودها رئيسة الوزراء المتطرفة جورجيا ميلوني)، أقل انحيازاً لإسرائيل، وكذلك دولة مثل أيرلندا عانت لقرون من الاستعمار البريطاني. 

فرنسا تخفف وتيرة دعمها لإسرائيل، وألمانيا متمسكة بنهجها شديد الانحياز

كان حجم الرد الإسرائيلي على طوفان الأقصى، وعدد الضحايا من المدنيين نتيجة للاجتياح الإسرائيلي لغزة؛ سبباً في احتجاجات ضخمة في مختلف أنحاء أوروبا، الأمر الذي كشف عن انقسام آخر بين الرأي العام والحكومات. 

وكان لزاماً على الدبلوماسية الفرنسية، نظراً لأن بها أكبر جاليتين يهودية ومسلمة في أوروبا، أن تعمل على إيجاد التوازن بين الأصوات المختلفة، وخفف حدتها موقفها المؤيد لإسرائيل بعد أن أطلق الرئيس ماكرون تصريحه الراديكالي الداعي لتشكيل تحالف دولي مناهض لحماس على غرار التحالف الذي أسِّس لمحاربة داعش. 

أما ألمانيا فلم تخفف كثيراً وطأة دعمها لإسرائيل وقمعها للأصوات المنتقدة لحربها على غزة، عكس ما فعلت العديد من الدول الأوروبية مع توسع وحشية الغارات الإسرائيلية على غزة.

الحكومات واليمين مع إسرائيل والأقليات والشباب مع فلسطين

والمشهد الحالي في أوروبا، هو أن الحكومات أقرب إلى وجهة نظر إسرائيل، بينما مع الرأي العام، وخاصة الأجيال الشابة والتي تشكل الأقلية المسلمة جزءاً كبيراً منه، تتحول لصالح القضية الفلسطينية.

على الجانب السياسي يبدو اليمين المتطرف واليمين المحافظ والقوى الليبرالية داعمة لإسرائيل، بينما أقصى اليسار مؤيد للفلسطينيين، أما اليسار المعتدل فالمفارقة أقرب أيضاً لإسرائيل في كثير من الدول.

ولكن الأخطر هو أن الأزمة قد تساهم في إثارة الاستياء، ليس فقط ضد حماس، بل وأيضاً، وبشكل غير عقلاني، ضد الفلسطينيين، أو العرب، أو المسلمين بشكل عام، وقد تنتهي في نهاية المطاف إلى خلق ردود أفعال تخلط بين الإرهابيين، والمهاجرين غير الشرعيين، وطالبي اللجوء، في مزاج عام من كراهية الأجانب.

المتطرفون يحاولون استغلال الأزمة، واليمين المحافظ والليبراليون مسؤولون عن خطاب الكراهية

ويبدو أن الساسة الشعبويين من اليمين المتطرف في أوروبا يحاولون استغلال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإضعاف الموقف الأوروبي التقليدي بتبني حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية، من أجل تحقيق مكاسب انتخابية استناداً إلى مخاوف لا علاقة لها بالصراع ذاته.

وعندما احتلت إسرائيل الأراضي العربية عام 1967، حظرت دول أوروبية في مقدمتها فرنسا وبريطانيا عدة تصدير السلاح للدولة العربية، ولسنوات، أدانت الهجمات الإسرائيلية ضد فلسطين ولبنان، ولعبت فرنسا تحديداً دوراً محورياً لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.

ولكن اليوم تصدر أوروبا لإسرائيل أسلحة وذخائر تقتل بها المدنيين، وبريطانيا ترسل طائرات مسيرة لغزة، فيما حاولت وزيرة داخليتها السابقة سويلا بريفرمان حظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين.

اليمين المتطرف
متظاهرون يتضامنون مع الفلسطينيين في غزة، في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023- رويترز

وهنا نجد أن الوزيرة نفسها ذات الأصول الهندية كانت تقول قبل الحرب إن اللحظة التي تتمنى أن تراها هي لحظة تسفير طالبي اللجوء لبريطانيا إلى رواندا، وهي الخطة التي أثارت انتقادات حقوقية حادة في أوروبا.

وتمت إقالة هذه الوزيرة عندما اتهمت في مقال بصحيفة التايمز الشرطة البريطانية بازدواجية المعايير لدى التعامل مع التظاهرات المؤيدة لفلسطين مقارنةً مع تعاملها مع تظاهرات أقصى اليمين، رغم أن اليمينيين هم الذين اشتبكوا مع الشرطة وحاولوا استهداف مظاهرة فلسطين.

موقف سويلا بريفرمان القيادي بحزب المحافظين، مؤشر خطير لانجراف اليمين التقليدي المحافظ في أوروبا صوب أجندة اليمين المتطرف، وهو الانجراف الذي سبق حرب غزة بسنوات.

حتى الليبراليون ساهموا في صعود خطاب اليمين المتطرف وشرعنته

هذا الموقف المتطرف من الصراع العربي الإسرائيلي الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي، والقيود الهائلة على حريات مؤيدي فلسطين، يجد جذوره في السياسات المعادية للمهاجرين التي دعا لها اليمين المتطرف، وتبناها اليمين المحافظ والليبراليون، وحتى بعض اليساريين، والتي تحولت لمحور السياسة الأوروبية، التي يجرد المهاجرين وخاصة العرب والمسلمين، ومنهم الفلسطينيون، من إنسانيتهم.

تمثل هولندا نموذجاً واضحاً لذلك؛ فقد جاء فوز حزب الحرية، بقيادة الشعبوي الهولندي غيرت فيلدرز، في الانتخابات العامة الأخيرة. وحزبه المناهض للإسلام المعروف بوعوده بحظر الجنسية المزدوجة والحجاب والقرآن، ورفض جميع طلبات اللجوء الجديدة، ليظهر أن اليمين المتطرف يتحرك لقلب الحكم في أوروبا بعد أن فرض أجندته السياسية قبل ذلك وجعلها شرعية ومقبولة.

وفاز حزب الحرية بـ37 مقعداً في البرلمان المؤلف من 150 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، فيما اعتبر انتصاراً ساحقاً في إحدى أعرق ديمقراطيات أوروبا وأقدمها.

ويعد صعود السياسي اليميني العنصري غيرت فيلدرز في الانتخابات الأخيرة هو المآل الطبيعي لشرعنة العنصرية وتحويل خطاب اليمين المتطرف إلى خطاب رئيسي، على يد القوى الليبرالية الغربية.

فتجريد الضحايا المدنيين في غزة من إنسانيتهم ​​يتشابك بشكل معقد مع معاملة المسلمين واللاجئين والأشخاص الملونين في جميع أنحاء أوروبا، حسبما يقول سنان كناكي في مقال بموقع Middle East Eye البريطاني.

فنجاح غيرت فيلدرز يأتي نتيجة لتبني أوروبا لسياسات الموت في البحر الأبيض المتوسط ​​وفلسطين، على سبيل المثال لا الحصر، وهو أمر يهدد مستقبل أوروبا السياسي.

والحقيقة أن غيرت فيلدرز ينضم لشخصيات سياسية أخرى تبوأت الحكم في أنحاء أوروبا بأشكال مختلفة في أماكن أخرى، مثل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في إيطاليا. 

اليمين المتطرف
ضباط شرطة يعتقلون شخصًا خلال مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في فرانكفورت بلمانيا في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023-رويترز

وما قام به غيرت فيلدرز هو توسيع قبول الخطاب المتطرف سياسياً، ويحول أوروبا نحو المزيد من خطاب الكراهية والاقتراحات المناهضة للديمقراطية. 

ولكن سنان كناكي يرى أنه من المبالغة التركيز على مثل هذه الشخصيات، فقد انزلقت السياسة في هولندا منذ فترة طويلة إلى الهاوية، فلعقود من الزمن، عمل يمين الوسط والليبراليون على تقويض سيادة القانون، ما أدى إلى تآكل المؤسسات التي يزعمون أنهم يدعمونها.

وفي مختلف أنحاء أوروبا، تبنى الليبراليون غير الليبراليين -على حد وصفه- خطاباً مناهضاً للهجرة، ظاهرياً كان ذلك بهدف احتواء اليمين المتطرف، ولكن في الواقع، أدى ذلك إلى تطبيع الكراهية وتقويض حقوق الإنسان. 

عنصرية عميقة الجذور والعمال تحولوا من اليسار لدعم اليمين المتطرف

والعديد من الليبراليين متواطئون، بما في ذلك الصحفيون البرلمانيون الهولنديون الذين يضحكون على تصرفات فيلدرز الغريبة، ويطلقون عليه بمودة لقب "غيرت ميلدر".

وبالمثل، في الأسابيع الأخيرة، قام الصحفيون وكتاب الأعمدة بتصوير المتظاهرين الذين يطالبون بتطبيق حقوق الإنسان ووقف فوري لإطلاق النار في غزة على أنهم أشخاص يدعمون حماس، المصنفة كمنظمة إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى، (بينما رفضت الجمعية العامة تصنيفها كمنظمة إرهابية).

ويقول سنان: "لقد ظل المثقفون الهولنديون صامتين إزاء التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل، حيث قُتل أكثر من 18 ألف فلسطيني حتى الآن، بينما غضبوا من شعار "من النهر إلى البحر" الذي رفعه قلة من المتظاهرين.

ومن الممكن أن نفهم نجاح فيلدرز باعتباره تصويتاً احتجاجياً؛ فالمواطنون الهولنديون يشعرون بأنهم غير مسموعين، ويتصارعون مع عدم الاستقرار، وتطاردهم الاضطرابات الاقتصادية. وهذه مخاوف سياسية مشروعة. لكن القليل من التحليلات في هولندا اعترفت بالعنصرية العميقة الجذور التي تم حشدها لسنوات.

وفي كتابه "العودة إلى ريمس"، كان عالم الاجتماع الفرنسي ديدييه إريبون أكثر صراحة. إذ قال: "على مر السنين، قام والداه، وهما جزء من الطبقة العاملة الفرنسية، بتحويل دعمهما من الحزب الشيوعي إلى الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة. فكيف يمكن تفسير هذا التحول الأكبر، والذي يمكن رؤيته في أماكن أخرى من أوروبا؟".

يكتب إريبون أن التقسيمات العرقية لم تكتسب أهمية سياسية عندما صوت والداه لصالح اليسار. كانت الانقسامات بين "نحن وهم" على طول الخطوط الطبقية، بين العمال وأرباب العمل، والمستغلين والخاضعين للاستغلال. لكن هذا التضامن الطبقي -إن وجد- تآكل، وحلّ محله "نحن" (المواطنين البيض)، في مقابل "هم" (المهاجرين والمسلمين والأجانب وطالبي اللجوء).

وفي هولندا، يتم تجاهل هذا التفسير السياسي إلى حد كبير. إننا نشهد، مرة أخرى، إنكار العنصرية، حتى مع فوز حزب يميني متطرف متأصل في العنصرية بالانتخابات الأخيرة. 

الأوروبيون يرون التاريخ من منظور مختلف وسيدفعون الثمن

المشكلة الأعمق هي أن هناك قدراً كبيراً من الاهتمام بالأصوات السياسية اليمينية المتطرفة. وهذا ما جعل أفكارهم البغيضة تنتشر في المقام الأول، حسب سنان كناكي.

ويعمل فيلدرز على تعبئة "الشعب" على أسس عرقية وعنصرية، دون التدخل في الديناميكيات الطبقية. 

ويقول إن تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ​​يتشابك بشكل معقد مع معاملة المسلمين واللاجئين والملونين في جميع أنحاء أوروبا، ويظل العديد من الأوروبيين غير مبالين بمعاناة الفلسطينيين، تماماً كما يغضون الطرف عن تجريدهم من إنسانيتهم. 

ما السبب في هذا الموقف؟ هل يمكن أن يكون لدى شريحة كبيرة من السكان الأوروبيين ذاكرة جماعية مختلفة؟ هل نشأوا على قصص مختلفة، وينظرون إلى التاريخ من منظور مختلف؟

فالنظرة للفلسطينيين في غزة والمهاجرين في أوروبا تخضع لنفس المعايير المزدوجة، والعنصرية، والتجريد من الإنسانية، والقياسات المعيبة، والتبريرات السخيفة التي تتغاضى عن الظلم. 

على الرغم من محاولات ذوي الأصول المهاجرة للانتماء، لا يزال يُنظر إليهم على أنهم غير متساوين مع بقية الأوروبيين.

ولكن صعود هذا الخطاب في أوروبا وما يحدث في غزة ستدفع ثمنه بقية أوروبا، بل يهود أوروبا أيضاً. 

فتطبيع الخطاب القائم على الكراهية، وإكسابه شرعية، مثلما يفعل ماكرون مع اليمينية المتطرفة ماريان لوبان بتحويلها لمنافسة سياسية طبيعية؛ يعني إعطاء مزيد من الفرص لهذا اليمين للوصول للحكم، كما يحدث بالفعل الآن.

فبعد أن بات خطاب اليمين المتطرف شرعياً، والعداء للعرب، ولا سيما الفلسطينيون، متصدراً للأجندة السياسية، ومع استمرار غضب المواطنين من الأحزاب الأوروبية الأساسية، فإنه من الطبيعي أن يتحول الناخبون لأحزاب اليمين الأصحاب الأصليين للخطاب المتطرف بديناميكيتهم الشعبوية المؤثرة على الرأي العام. 

يهود أوروبا قد يكونون أبرز المتضررين على المدى البعيد

هذا التطبيع للعنصرية وخطاب الكراهية والتمييز قد يكون أبرز المتضررين منه في نهاية الأمر هم يهود أوروبا.

الواقع أن الخطاب اليميني الغربي في الأصل خطاب يجمع العنصرية الاستعمارية وبين العداء لليهود.

فلقد قالت المنظرة السياسية هانا أرندت، من بين آخرين، إن العنف العنصري الذي مارسه الاستعمار الأوروبي في أفريقيا شكّل ومهد الطريق لمعاداة السامية النازية البغيضة، التي قامت على التسلسل الهرمي العنصري، والتي أدت إلى أهوال المحرقة بحق اليهود. 

بعد زيارة الحي اليهودي في وارصوفيا عام 1949، كتب عملاق الحقوق المدنية الأمريكي الأفريقي، ويب دو بوا، أن هذه التجربة أعطته "مفهوماً أوسع لما يجب أن تصبح عليه المعركة ضد الفصل العنصري والتمييز الديني والقمع عن طريق الثروة".

فخطاب الكراهية الأوروبي لن يتوقف عند المسلمين

وتقول الكاتبة راشيل شابي في انتقادها للخلط المتعمد بين تأييد حقوق الفلسطينيين ومعاداة السامية: "ليس خطأ الفلسطينيين أن أوروبا المسيحية لديها مشكلة طويلة الأمد وغير معترف بها إلى حد كبير مع معاداة السامية".

وتضيف الكاتبة اليهودية في مقال بصحيفة the Guardian البريطانية: "إنه يجب الاعتراف بأن دور الحركات التقدمية هو تصحيح المعايير المزدوجة التي طال أمدها، والتي كشف عنها زعماء العالم الذين أعطوا الضوء الأخضر لقصف إسرائيل لغزة". 

خطاب أوروبا يحجب الشيء الذي دفع الكثير من اليهود الأوروبيين إلى الهجرة إلى فلسطين في المقام الأول، وهو: قرون من معاداة السامية الأوروبية التي بلغت ذروتها في المحرقة. 

ولم يكن من الممكن أن يكون هناك مشروع قومي يهودي في إسرائيل لو لم تكن هناك معاداة سامية مميتة تتسارع في جميع أنحاء أوروبا في ذلك الوقت. وقد عبّر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن هذه الازدواجية في تشكيل إسرائيل عندما وصف الفلسطينيين بأنهم "ضحايا الضحايا، أو لاجئو اللاجئين".

وتقول: "معاناة اليهود خلال المحرقة أو طوال تاريخ أوروبا، لا تبرر تجريد الفلسطينيين المستمر من ممتلكاتهم، أو تلغي حقهم في نفس الحريات التي يستحقها جميع البشر. وبدلاً من ذلك، يجب أن يقدم فهماً عالمياً لمناهضة العنصرية، لاستكمال تحليل هذا الصراع باعتباره اختلالًا لا هوادة فيه في توازن القوى بين الظالم والمضطهد". 

وتقول الكاتب اليهودية: "يعني ذلك أنه يمكننا أن ننظر إلى النكبة الفلسطينية، والمحرقة، ونزوح اليهود من الأراضي العربية؛ باعتبارها مجموعة متشابكة من المجتمعات العالقة في نطاق الاستعمار الأوروبي والتفكير العنصري المتطرف". 

فهو يفتح إمكانية وجود رؤية متماسكة أخلاقياً وسياسياً للأقليات المختلفة التي تعاني من العنصرية، حتى عندما تتخذ تجاربهم مسارات مختلفة. فهو يتيح رفض أية منافسة محصلتها المعاناة، ورفض فكرة أن سلامة شعب ما يمكن أن تأتي على حساب شعب آخر. إنه يسمح لنا، بعبارة أخرى، بتخيل مستقبل مشترك ومتساوٍ، حيث يكون الجميع أحراراً، حسب تعبيرها.

فخطاب الكراهية هذا الذي بدأ في أوروبا ضد الأقليات اليهودية، ثم تحول لاستعمار عنصري خارج أوروبا وعاد لها مجدداً في شكل خطاب إبادي نازي ضد اليهود في ألمانيا، يمكن أن يعيد الدورة ذاتها، فبعد أن يحقق اليمين المتطرف أهدافه مع العرب والمسلمين يمكن أن يوجه طاقة الكراهية التي لا تنضب لديه نحو يهود أوروبا مجدداً.

تحميل المزيد