فوز السيسي بالولاية الثالثة “أمر محسوم”.. لكن ما تأثير ذلك على انحدار مصر داخلياً وخارجياً؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/12/10 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/10 الساعة 13:56 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/رويترز

طلبت السلطات المصرية من المصريين الذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد 10 ديسمبر/كانون الأول 2023، في أحدث نسخة من العرض الانتخابي الذي تجريه البلاد كل بضع سنوات. ومع ذلك، فإن معظم الناس في البلاد مشغولون بالمخاوف من تخفيض جديد لقيمة العملة بعد "الانتصار الحتمي" في الانتخابات الرئاسية للرئيس الذي لا ينافسه أحد تقريباً، أكثر من انشغالهم بمجريات التصويت المفترضة.

ستكون هذه ثالث دورة رئاسية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع أن دستور 2014، الذي صدر عقب انقلاب السيسي على الرئيس الراحل محمد مرسي، قد حدَّد مدد الرئاسة بمدتين رئاسيتين فقط (مدة كل منهما أربع سنوات)، وحظر إجراء أي تعديل يسمح بتمديد فترة الولاية.

ومع ذلك، لم تمثل الجوانب الفنية القانونية عائقاً يحول دون تمديد السيسي ولايته حينما أراد ذلك، كما تقول صحيفة The Times البريطانية. ففي عام 2019، وبعد "إعادة انتخاب" السيسي بنسبة 97% من الأصوات في العام السابق، عُدِّل الدستور لتمديد فترة ولايته الرئاسية الحالية من أربع سنوات إلى ست سنوات، وتقرر في هذا السياق أنه يحق له الترشح لولاية ثالثة بعد انتهاء ولايته الحالية في عام 2024.

10 سنوات من حكم السيسي.. ما الذي تغير؟

اشتدت وطأة القمع الداخلي في مصر خلال 10 سنوات من حكم السيسي، وتدهور اقتصاد البلاد، وانحدر تأثير مصر في محيطها الجغرافي السياسي، ومن ثم يصعب على المراقب أن يقف على أسباب وجيهة تدعو السيسي إلى الاعتقاد بأنه جدير بالاستمرار في السلطة، فضلاً عن أن كثيراً من المصريين يرون أنه لا ينبغي له البقاء فيها. ولهذا السبب فإن السيطرة الصارمة على العملية الانتخابية أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى السيسي.

في آخر دورتين انتخابيتين، لم يكن لدى المصريين (البالغ عددهم نحو 113 مليون نسمة) سوى مرشحَين للاختيار من بينهما، وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء المرشح الثاني في المركز الثالث في كلتا الدورتين، إذ تجاوزت الأصوات الباطلة عدد الأصوات التي ذهبت للمرشح المنافس للسيسي الشكلي. وقد تعرض مرشحو المعارضة والقادة السياسيون في هذه الدورة الانتخابية، وسابقتها في عام 2018، للتضييق عليهم والاعتقال والإجبار على الانسحاب من السباق.

لا يزال هناك ثلاثة مرشحين مع السيسي اليوم، هما عبد السند يمامة وحازم عمر، اللذان أعلنا تأييدهما للسيسي في الواقع. أما زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فريد زهران، فيشدد على استقلاله، إلا أن حزبه خاض الانتخابات ضمن القائمة الوطنية التي تألفت بالتنسيق مع النظام الحاكم لدخول البرلمان في عام 2019، ويرى كثيرون أنه يخوض الانتخابات باتفاق وتنازلات مع النظام.

مصر أصبحت بعد 10 سنوات من حكم السيسي دولة أفقر وأشد انحداراً

بالنظر إلى أن بقاء السيسي في منصبه أمر محتوم، يذهب بعض الناس إلى أن نسبة المشاركة ستكون الاختبارَ الأكثر صدقاً في التعبير عن مدى تأييده. فحتى في عام 2014، أي في ذروة شعبيته، شقَّ على السيسي جذب الناس للمشاركة في الانتخابات بالقدر الذي أراده، وعمد مسؤولو الانتخابات إلى تمديد التصويت يوماً إضافياً، واستنفروا الجهود لتعبئة الناخبين. وفي الانتخابات الأخيرة، تلقى الناس رشى نقدية، وعبوات المواد الغذائية، للإقبال على لجان الانتخاب والإيحاء بارتفاع نسبة المشاركة العامة.

والواقع أن إمكانية شراء أصوات المصريين الانتخابية بأثمان بخسة أول دليل على أن مصر قد أصبحت بعد 10 سنوات من سيطرة السيسي على السلطة، دولةً أفقر بكثير من الدولة التي ورثها. 

وقد صارت مصر أضعف كذلك، فهي إذا كانت قد انحدرت من قوة إقليمية إلى قوة محلية (محيط الدولة المباشر) على مر العقود الماضية، فإن مكانتها تدهورت في عهد السيسي إلى حد أن قوتها المحلية هذه صارت موضع شك أيضاً. فعلى الحدود الغربية، بات تأثير تركيا والإمارات في ليبيا أكبر من نفوذ مصر. وفي الجنوب، اضطرت مصر إلى اللجوء للإمارات من أجل التفاوض على تحرير القوات المصرية التي احتُجزت في السودان عندما اندلع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

أدى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى إعادة مصر إلى دائرة الضوء العالمية، فهي تسيطر على المخرج الدولي الوحيد من القطاع، وهو معبر رفح. ولما أجبرت إسرائيل الملايين من سكان القطاع على النزوح إلى حدوده الجنوبية مع مصر، صرَّح السيسي بمخاوفه من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، لا سيما أنه من المستبعد أن تسمح إسرائيل لهم بالعودة إلى ديارهم بعد توقف القتال. ويتخوف السيسي كذلك من حركة حماس، لأن لها صلات تاريخية بجماعة الإخوان المسلمين، التي انقلب على الرئيس المنتخب الذي كان ينتمي إليها.

وعلى الرغم من أن مصر لا يزال لها مقعد على طاولة المفاوضات المتعلقة بقطاع غزة، ولا  يزال لها دور جوهري في التعامل مع القضية الفلسطينية، فإن نفوذ قطر وغيرها آخذ في التزايد.

ربما تنامى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بعض الشيء، إلا أن ملايين المصريين وقعوا في براثن الفقر خلال السنوات العشر التي تلت استيلاء السيسي على السلطة. وقد انخفض معدل المشاركة في القوى العاملة -وهو مقياس القوى العاملة النشطة في الاقتصاد- وانكمش القطاع الخاص، وتضخمت ديون البلاد، وتفاقمت أزمة نقص الأمن الغذائي، إذ ارتفع معدل التضخم في المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 71.3% في أكتوبر/تشرين الأول، عما كان عليه في الشهر ذاته من العام الماضي.

إقبال البلاد المتهور على الاقتراض

أدى نهج السيسي في توطيد السلطة وتعزيز قوة نظامه إلى إضعاف الدولة المصرية وإفقار الشعب المصري، وقد ارتكزت سياساته الاقتصادية على استغلال موارد الدولة في منح العقود السخية للشركات المملوكة للنظام من أجل تنفيذ مشروعات ضخمة بلا دراسة كافية، ولا ضرورة لازمة في كثير من الأحيان.

ومن أبرز هذه المشروعات العاصمة الإدارية الجديدة، التي تساوي مساحتها مساحة سنغافورة، وقد تزيّنت بأطول برج في أفريقيا، وأطول قطار كهربائي في العالم، وأُقيم فيها نهر اصطناعي، وحديقة مركزية تزيد مساحتها على مساحة حديقة سنترال بارك في نيويورك. وقد أنشئت هذه المشروعات المستهلكة للمياه وسط الصحراء، في بلد يعاني ندرة حادة في المياه، وشيَّد السيسي كذلك مجموعة من القصور الرئاسية الجديدة الفارهة.

وخلص تقرير حديث لوكالة Bloomberg  إلى أن مصر ثاني أكثر دول العالم عرضة للتخلف عن سداد ديونها، وقد تناوبت وكالات التصنيف الائتماني على خفض تصنيف مصر إلى مزيد من المستويات السلبية، وترجع معظم أسباب ذلك إلى إقبال البلاد المتهور على الاقتراض. فقد تضاعف الدين الخارجي للبلاد 4 مرات تقريباً، فزاد من 43.2 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013، إلى 164.7 مليار دولار في يونيو/حزيران الماضي. وتشمل الأسباب كذلك تردي الحوكمة، والرغبة الجامحة في السيطرة، وقمع نشاط السوق والاستثمارات، والحرص المتزايد على إنماء الإمبراطورية الاقتصادية للنظام.

تحتل مصر حالياً المركز 136 من بين 142 دولة في مؤشر سيادة القانون التابع لـ"مشروع العدالة العالمية". وقد عمد السيسي إلى تعديل القوانين والدستور لتوسيع سيطرته على السلطة القضائية في البلاد، وتتجلى دلائل ذلك في حالة المعتقل السياسي البريطاني المصري علاء عبد الفتاح، فقد أمضى عبد الفتاح معظم ولاية السيسي وهو سجين سياسي، ولا يزال رهن الاعتقال حتى الآن على الرغم من المناشدات المتوالية بالإفراج عنه.

وقد كان لهذا القمع السياسي عواقب جلية على الاقتصاد أيضاً، فنقصُ الثقة بالمحاكم وضعف القدرة على إنفاذ العقود من أبرز العوامل التي تحول دون إقبال  المستثمرين على البلاد. 

وقد أسهم الضعف الاقتصادي في تفاقم الضعف الجيوسياسي، فقد تزايد اعتماد مصر على دول الخليج في الدعم المالي. وارتكز أحدث اتفاق أجرته البلاد مع صندوق النقد الدولي- والثالث منذ تولي السيسي السلطة- على بيع الدولة مجموعة من أبرز أصولها العامة إلى مشترين خليجيين. وجدير بالذكر أن نحو 30.4 مليار دولار من احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي (البالغ 34.8 مليار دولار) هي ودائع من حكومات أجنبية.

مصر نحو مزيد من الانحدار والإفقار

تضاءل الثقلُ الجيوسياسي لمصر، إلا أن الكارثة الإنسانية التي زاد القصف الإسرائيلي على غزة من وطأتها قدَّمت للنظام المصري فرصةً لتذكير الداعمين الخارجيين بأهمية مصر، وفتح الطريق أمام السعي إلى مساعدات مالية جديدة. وقد أعلنت المفوضية الأوروبية عن التخطيط لاستثمارات بقيمة 9 مليارات من اليورو، لتخفيف تأثير تداعيات الأزمة في غزة، ويُقال إن صندوق النقد الدولي يفكر في زيادة قرضه الأخير لمصر إلى الضعف تقريباً.

والظاهر أن شركاء مصر الدوليين يميلون إلى التغاضي عن القمع والممارسات الاقتصادية الجشعة التي يمارسها النظام. ومع ذلك، فإن هذه الأموال إن لم تتقيد بشروط صارمة للإصلاح الاقتصادي تربطها بإنجازات مادية يمكن التحقق منها، وإن لم يصحبها كبح لجماحِ الإمبراطورية الاقتصادية للنظام، فإنها لن تؤدي إلا إلى توطيد الانحدار المتواصل للبلاد إلى مزيد من الاضطرابات والتدهور الاقتصادي، وتعميق الأزمة القائمة بالفعل.

على مدى العقد الماضي، كان اعتماد السيسي على القمع والسياسات الاقتصادية الرامية إلى إثراء النظام وتمكينه على حساب المصلحة العامة، سبيلاً إلى إفقار المصريين، وإضعاف البنيان الاقتصادي لدولتهم، وتقويض المحاكم، وترسيخ قمع الشرطة، وإعطاب القدرات الجيوسياسية للبلاد. وأسوأ من هذا كله أن السيسي يرفض الإقرار بأنه ارتكب أي خطأ في حكمه للبلاد.

تحميل المزيد