سبب العدوان الإسرائيلي على غزة وما يصحبه من مجازر إحراجاً كبيراً للحكومات العربية لاسيما المنخرطة في التطبيع، وباتت على كثير من هذه الحكومات أن تتعامل مع موجات غضب شعبي كبيرة ومشاعر تعاطف عارمة، وفي الوقت ذاته كثير منها لا يريد وقف قطار التطبيع مع إسرائيل المدعوم من الولايات المتحدة.
واعتبرت مجلة Economist البريطانية في تقرير لها أن الشرق الأوسط يبدو أنه مقبل على ثورة دينية محتملة لأن الحرب في غزة روعت العالم الإسلامي، وعاد الاهتمام لينصب على محنة الفلسطينيين، التي توحد بين أطياف العالمين العربي والإسلامي.
وأمريكا، التي مولت إسرائيل وسلّحتها ودافعت عنها، أصبحت مرة أخرى موضع غضب في المنطقة وكذلك حلفاؤها الغربيون. ويُلام عليهما معاً في تسهيل قصف غزة وتهجير سكانها، وكثير من الشباب الليبرالي العربي وكذلك الإسلامي المعتدل الذين كانوا يؤمنون بليبرالية الغرب أو يتوسمون فيها بعض الخير، قد اكتشفوا أنهم خُدعوا بعدما رأوا قادة الغرب يبررون قتل المدنيين في غزة.
وفي الوقت ذاته فإن التطبيع مع إسرائيل بات أمراً يدعو للخجل بالنسبة لدعاته حتى إن واحداً من أشهر الشخصيات المُطبعة في مصر، وهو الدكتور أسامة غزالي حرب، قد اعتذر للمصريين والشعب الفلسطيني وأهل غزة عن تبنيه للتطبيع.
في العاصمة البحرينية المنامة مع انكسار شمس الظهيرة، تقدم رجلٌ يحمل مكبر الصوت أمام حشد من نحو 200 شخص ، ثم بدأ في الهتاف بأعلى صوت لديه في احتجاج ضد الحرب الإسرائيلية على غزة.
بينما ردد المتظاهرون هتافاته بكل حماسة وهم يُلوِّحون بالأعلام الفلسطينية مناشدين حكومتهم الاستبدادية الموالية لأمريكا بأن تطرد السفير الإسرائيلي، الذي تم تعيينه قبل عامين فقط بعد تطبيع البحرين لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وعلى بُعد أقل من سبعة كيلومترات، اجتمع رجال أمريكيون وأوروبيون بالزي العسكري الكامل لحضور حوار المنامة؛ إذ تجوّلوا في قاعة الاحتفالات المُذهبة داخل فندق ريتز-كارلتون شديد الحراسة قبل ساعات من المظاهرة -التي لم يكونوا على علمٍ بحدوثها بنسبةٍ كبيرة.
وأثار ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد آل خليفة سرور الكثير من الحضور الغربيين بإدانته لحماس عندما ارتقى المنصة، على حد تعبير الصحيفة.
البحرين ومصر والأردن والمغرب تشهد سيلاً من الاحتجاجات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة
وتقول الصحيفة: "لم تكتف الحرب التي اندلعت في غزة بالكشف عن حجم الفجوة بين العديد من قادة العرب وشعوبهم، بل أسفرت عن توسيع رقعتها أيضاً"؛ حيث شهدت البحرين "سيلاً من الدعم الشعبي للفلسطينيين وزيادةً في العداء الموجه لإسرائيل منذ بدء الحرب".
وربما تسود منذ وقتٍ طويل حالة انفصال بين العديد من الدول العربية ومواطنيها بسبب نهج التعامل مع القضية الفلسطينية، لكن الحرب الجارية سلّطت الضوء بقوةٍ على تلك الفجوة أكثر من السنوات السابقة. وتجاوزت العديد من الاحتجاجات في المنطقة مرحلة إدانة إسرائيل، ووصل الأمر إلى الهتاف دعماً لحماس وانتقاد الحكومات المحلية.
فلقد خرج الآلاف في المغرب والأردن في مسيرات لمطالبة دولهم بإنهاء التطبيع مع إسرائيل وقطع العلاقات معها. وفي القاهرة، اجتمع المحتجون الموالون لفلسطين في ميدان التحرير الذي اندلعت منه ثورة مصر في الربيع العربي، وأحيوا صرختهم الثورية بهتافات "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
وفي البحرين، قالت فاطمة جمعة (22 عاماً)، التي حضرت الاحتجاج في المنامة: "أتطلع لأن نصبح شعباً حراً؛ حيث يرتبط وجودنا وحريتنا بوجود وحرية فلسطين"، حسبما نقلت عنها الصحيفة الأمريكية.
وقد رفضت غالبية الحكومات العربية لعقودٍ إقامة علاقات مع إسرائيل قبل إنشاء دولة فلسطينية. لكن الحسابات اختلفت في السنوات التي سبقت الحرب؛ حيث وازن بعض القادة العرب بين الرأي العام السلبي تجاه إسرائيل وبين المكاسب الاقتصادية والأمنية لإقامة العلاقات، والتنازلات التي قد يحصلون عليها من الولايات المتحدة في المقابل.
وقالت إلهام فخرو، الزميلة المشاركة في مركز أبحاث Chatham House: "تريد حكومة البحرين أن يُنظر إليها باعتبارها صوتاً معتدلاً داخل الولايات المتحدة، وهي تستغل علاقتها الجديدة مع إسرائيل لتشكيل تلك الصورة في واشنطن بدرجةٍ متزايدة. لكن الأمر له تأثير مختلف على أرض الوطن"، على حد قولها.
الاستطلاعات تكشف أن أغلب المواطنين العرب ينظرون بشكل سلبي لإقامة علاقة مع إسرائيل
في عام 2020، دشّنت البحرين والإمارات والمغرب علاقاتها مع إسرائيل عبر اتفاقيات أبراهام، التي توسطت فيها إدارة ترامب الأمريكية. وانضمت تلك الدول بذلك إلى الأردن ومصر اللتين أبرمتا اتفاقيات سلام مع إسرائيل منذ عقود.
لكن استطلاعات الرأي أظهرت أن غالبية المواطنين العرب العاديين ينظرون نظرةً سلبية إلى إقامة العلاقات مع إسرائيل.
ففي البحرين، أعلن المسؤولون أن الاتفاقيات تُشجع على التعاون والتعايش المشترك. لكن تلك الآراء "لم تلق أصداءً لدى العديد من المواطنين".
وتقول الصحيفة الأمريكية إنه "يُمكن القول إن القضية الفلسطينية ومعارضة إسرائيل توحد الشعب البحريني بمختلف توجهاته الطائفية والسياسية، بما في ذلك السنة والشيعة، واليسار العلماني والإسلام المحافظ، والكبار والصغار". وبسؤال البحرينيين عن تأثير اتفاقيات أبراهام على المنطقة قبل الحرب، رأى 76% منهم أن "تأثيرها سيكون سلبياً".
وأوضح عبد النبي العكري (60 عاماً)، الناشط الحقوقي البحريني، أن اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل "فُرِضَت على الشعب بما يتعارض مع إرادته"، حسب قوله.
وقالت إلهام: "لقد وسّعت هذه الأزمة ذلك الصدع".
إسرائيل مشروع استعماري
وقال المحتجون البحرينيون إنهم يرون في إسرائيل قوةً محتلة استعمارية، ومشروعاً مدعوماً من الغرب بهدف الهيمنة على المنطقة. فيما قال بعضهم إنه لا يحق لإسرائيل أن تكون موجودةً من الأساس.
وأوضحت فاطمة أن الفلسطينيين وبقية شعوب المنطقة يعيشون تحت سيطرة القوى الغربية. وأردفت: "من الواضح حتى الآن أننا لا نستطيع التحرك دون الحصول على موافقة أمريكية".
وبالعودة إلى فندق ريتز-كارلتون في الصباح التالي ليوم الاحتجاج، عاد كبار المسؤولين الأمريكيين والعرب إلى قاعة الاحتفالات البراقة لمناقشة مستقبل غزة.
وبسؤال بريت ماكغورك، أحد كبار مسؤولي البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، عن الرأي العام السلبي تجاه اتفاقيات أبراهام؛ أجاب قائلاً إنه يركز على الأزمة الراهنة في الوقت الحالي. لكنه أردف أن صناع السياسة الأمريكيين لا يزالون ملتزمين بـ"دمج" إسرائيل مع جيرانها.
وقبل الحرب، دخل البيت الأبيض في محادثات مع السعودية بهدف إبرام صفقة معقدة حتى تعترف المملكة بدولة إسرائيل. وعلّق ماكغورك على ذلك قائلاً: "لا يمكننا السماح لما فعلته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أن يُعرقل ذلك المسار بشكلٍ دائم".
بينما شعر الفلسطينيون بالخوف من أن يؤدي الاتفاق السعودي-الإسرائيلي إلى زيادة تقويض كفاحهم من أجل إقامة دولتهم.
ومن ناحيته، قال مسؤول بحريني كبير إن حكومته تؤمن بأن إسرائيل ستظل موجودة، وأنه يجب على شعوب المنطقة أن تتعايش معاً. وتخشى البحرين من أن تؤجج الحرب الغضب والتشدد، بحسب المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم كشف هويته لحساسية الموضوع. وأضاف أنه يجب حماية اتفاقيات أبراهام باعتبارها أداةً لتحقيق السلام.
لكن المسؤول لم يرد بشكلٍ مباشر عند سؤاله عن الفجوة بين قادة العرب وبين الرأي العام؛ حيث اكتفى بالقول إن البحرين مؤمنة بأن الوضع في غزة كارثي، وهي تبذل كل ما في وسعها لدفع السلام.
تأكيد سعودي أن السلام بدون حل القضية الفلسطينية هو مجرد وهم
وجاءت أقوى إدانة لإسرائيل في المؤتمر على لسان وزير خارجية الأردن والأمير تركي الفيصل، أحد كبار الأمراء السعوديين، الذي دعا لفرض عقوبات على إسرائيل.
ورفض الأمير تركي فكرة أن بناء العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل سيؤدي لإحلال السلام، واصفاً الأمر بأنه "وهم إسرائيلي أمريكي أوروبي".
فخلال حديث في حوار المنامة بالبحرين في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، قال الأمير السعودي تركي الفيصل إن الأزمة في غزة أظهرت أن جهود السلام الإقليمي التي لا تعالج احتلال أراضي فلسطين هي مجرد "وهم".
وأردف الأمير: "تمثل هذه الحرب نقطة تحول في عملية البحث الجاد عن حلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية". ثم أضاف أن أي جهود مستقبلية يجب أن تتطرق "لمطلب الفلسطينيين الشرعي من أجل الحصول على حق تقرير المصير".
وأثناء حديث الأمير، كانت هناك مظاهرة أخرى على بُعد تسعة كيلومترات وبطول عدة مربعات سكنية في شوارع منطقة المحرق البحرينية الضيقة.
ولا تزال حرية التجمع وتكوين الجمعيات مُقيّدة في البحرين. لكن العديد من الاحتجاجات الأخيرة حصلت على تصاريح من الحكومة، بهدف توفير مساحة شبه حرة للتنفيس عن الغضب.
ولكن قطار التطبيع مع إسرائيل لم يتوقف
وهتف آلاف المتظاهرين باللغتين العربية والإنجليزية حتى بُحّت أصواتهم قائلين: "تسقط تسقط إسرائيل"، و"أمريكا رأس الأفعى!". ووصل الأمر ببعضهم إلى الهتاف لحماس ومطالبتها بقصف تل أبيب.
يُذكر أن ولي العهد البحريني أعرب عن أسفه حيال "القصف المتواصل" على غزة خلال خطابه في اليوم السابق، ووصف ذلك القصف بأنه وضع لا يُحتمل.
لكن ولي العهد لم يُهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وقال إن الولايات المتحدة "لا غنى عنها" في أي عملية سلام.
وعندما انتهى الخطاب، تناول ضيوف ولي العهد عشاء الخوخ المسلوق بالزعفران مع صدور الدجاج المحشوة بخلطة الراتاتوي. وخلال المحادثات الجانبية على هامش المؤتمر، أكّد مسؤولو البحرين للمشاركين أنهم عازمون على حماية اتفاقيتهم مع إسرائيل، حسبما ورد في تقرير الصحيفة الأمريكية.