“التحول الاستراتيجي الذي أنهى خطط إسرائيل”.. لماذا لم تكن لدى حماس خيارات أخرى إلا السابع من أكتوبر؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/11/28 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/28 الساعة 10:17 بتوقيت غرينتش
فلسطينيون يعتلون دبابة إسرائيلية في غلاف غزة يوم السابع من أكتوبر/ جيتي

كان الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة بداية لسلسلة من الأحداث غير المتوقعة، ومن السابق لأوانه تحديد الكيفية التي قد يشكل بها الهجوم المسار المستقبلي للنضال من أجل تحرير فلسطين. 

إن الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة والخسائر المروعة في أرواح المدنيين يشكلان ضربة مؤلمة للفلسطينيين، تذكرنا بنكبة عام 1948. ولكن في الوقت نفسه تحطم الوهم المتمثل في إمكانية تنحية القضية الفلسطينية جانباً مع استمرار الفصل العنصري الإسرائيلي. وعادت قضية فلسطين إلى قمة الأجندة العالمية مع إدراك متزايد لضرورة معالجتها، حتى ولو كان ما وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد أدى إلى استقطاب المناقشة حولها.

هذا ما كتبه طارق بقعوني، رئيس مجلس إدارة شبكة السياسات الفلسطينية والخبير في مجموعة الأزمات الدولية، في تحليل مطول نشرته مجلة foreign policy الأمريكية، تحدث فيه عن التحول الاستراتيجي الذي صنعته حركة حماس في السابع من أكتوبر، وكيف أنهى الخطط الإسرائيلية للقضاء على القضية الفلسطينية وتجاوزها إقليمياً. 

حماس تغيّر التوازنات في غزة

يقول البقعوني بعد عام 2007 اقتصر وجود حركة حماس في الأراضي المحتلة على قطاع غزة، حيث تم احتواء الحركة فعلياً من خلال استخدام الحصار المحكم الذي أدى إلى سجن جماعي لفلسطينيي غزة، الذين يبلغ عددهم 2.3 مليون نسمة. وفي عملية الاحتواء هذه ظلت حماس عالقةً فيما سمَّيتُه "التوازن العنيف"، حيث ظهرت القوة العسكرية كوسيلة للتفاوض على التنازلات بين حماس وإسرائيل. 

فالأولى تستخدم الصواريخ وغيرها من التكتيكات لإجبار إسرائيل على تخفيف القيود المفروضة على الحصار، في حين تردُّ الأخيرة بقوة ساحقةٍ لبناء الردع وتأمين "الهدوء" في المناطق المحيطة بقطاع غزة. ومن خلال هذا العنف عمل كلا الكيانين ضمن إطار يمكن من خلاله لحماس الحفاظ على دورها كسلطة حاكمة في غزة، حتى في ظل الحصار الذي يشرّع العنف الهيكلي اليومي الذي صنعته سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين.

ابتداءً من عام 2018 بدأت حماس بتجربة وسائل مختلفة لتغيير هذا التوازن، أحدها كان من خلال قرارها بالسماح بتنظيم احتجاجات شعبية ضد الهيمنة الإسرائيلية. كانت مسيرة العودة الكبرى في عام 2018 واحدةً من أكثر الأمثلة شمولاً على التعبئة الشعبية الفلسطينية. 

زعيم حماس، إسماعيل هنية، يحيي المتظاهرين عند السياج الحدودي مع إسرائيل في مدينة غزة/ جيتي
زعيم حماس، إسماعيل هنية، يحيي المتظاهرين عند السياج الحدودي مع إسرائيل في مدينة غزة/ جيتي

لقد برز الاحتجاج كجهد يقوده المجتمع المدني، وقد حصل على الدعم والإدارة في نهاية المطاف من قِبل لجنة تضم مختلف الفصائل السياسية في غزة، بما في ذلك حماس. وباعتبارها سلطة حاكمة فقد وفَّرت حماس الكثير من البنية التحتية اللازمة للتعبئة، مثل الحافلات لنقل الشبان، وكان هذا خروجاً صارخاً عن الوسائل التي استخدمتها حماس تقليدياً في تحدي الحصار.

حدث تحول آخر في التوازن بعد بضع سنوات، في عام 2021، عندما استخدمت حماس ترسانتها العسكرية للرد على العدوان الإسرائيلي في القدس. وفي الفترة التي سبقت إطلاق حماس للصواريخ كانت إسرائيل تعمل بنشاط على طرد العائلات في حي الشيخ جراح من منازلهم لإفساح المجال للمستوطنين اليهود لأخذ منازلهم. أدى ذلك إلى تعبئة واسعة النطاق للفلسطينيين في جميع أنحاء أرض فلسطين التاريخية. وردّت دولة إسرائيل باستخدام القوة والاعتقالات الجماعية ضد الاحتجاجات التي كانت سلمية، وشملت الصلاة حول المسجد الأقصى. دفعت جهود إسرائيل لعرقلة الاحتجاجات والمضي قدماً في استعمارها للقدس الشرقية حماس إلى الرد بإطلاق الصواريخ.

مطالب حماس تتجاوز رفع الحصار إلى قوة تُدافع عن الفلسطينيين

تُظهر هذه الأمثلة الجهودَ التي تبذلها حماس للاستمرار في الهجوم وتوسيع مقاومتها، لتشمل مطالب تتجاوز رفع الحصار. ومثل هذا التموضع يعني ضمناً هدفاً يتمثل في العمل كقوة عسكرية للدفاع عن الفلسطينيين ضد العنف الاستعماري الإسرائيلي خارج قطاع غزة، وكان أساس هذه التكتيكات هو التحول الاستراتيجي الواضح من جانب الحركة، للانتقال من الإذعان لاحتوائها إلى تحدٍّ أكثر وضوحاً للهيمنة الإسرائيلية، وبالتالي قلب التوازن الذي أصبح راسخاً على مدى 16 عاماً.

ويتماشى هذا التحول مع التطور التاريخي لحماس كحركة اعتمدت على المقاومة المسلحة وغير المسلحة، في فترات مد وجزر، لتحدي الاحتلال الإسرائيلي والضغط من أجل المطالب الأساسية للنضال الفلسطيني، بما في ذلك حق العودة، الذي كان المركزية في احتجاجات 2018. (تاريخ حماس مليء بالأمثلة التي قرأت فيها السياق السياسي المحيط بها، وعلى مستوى قيادة الحركة غيرت الاتجاه الاستراتيجي للمنظمة، مع تعليمات واضحة للجناح العسكري إما بالتصعيد أو التهدئة).

يقول البقعوني إن التحول الأخير إلى العنف الشامل يتماشى أيضاً مع فهم الحركة لدور المقاومة المسلحة كتكتيك تفاوضي، وهو التكتيك الذي اعتمدت عليه الحركة تاريخياً لإجبار إسرائيل على تقديم تنازلات.

هجوم السابع من أكتوبر هو الخطوة المنطقية التالية لحماس

يمكن النظر إلى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول باعتباره الخطوة المنطقية التالية لحركة تسعى إلى احتواء هذا الهجوم. وقد وصف بعض المحللين خطوة حماس بأنها "انتحارية"، نظراً لرد فعل إسرائيل، أو غير مسؤولة، نظراً لعدد القتلى الذي أدت إليه بين الفلسطينيين. وسواء كانت أي من هذه التوصيفات دقيقة أم لا فإن ذلك يعتمد على تحليل الخيارات المتاحة أمام حماس، وعلى كيفية انقشاع الغبار. ومع ذلك ليس هناك شك في أن الهجوم نفسه كان بمثابة قطيعة حاسمة، ومن الواضح أنها، في وقت لاحق، تتويج لجميع التغييرات التي كانت الحركة تجربها.

واستلزم التحول الاستراتيجي الانتقال من الاستخدام المحدود لإطلاق الصواريخ للتفاوض مع إسرائيل إلى هجوم عسكري شامل، يهدف إلى تعطيل احتوائها على وجه التحديد، والافتراض الإسرائيلي بأنها قادرة على الحفاظ على نظام الفصل العنصري مع الإفلات من العقاب.

إسرائيل طوفان الأقصى
لحظة أسر كتائب القسام لجنود إسرائيليين من داخل دبابة في معارك طوفان الأقصى في غلاف غزة/ (القسام، عبر تليغرام)

ليس هناك شك في أن الهجوم الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول فاق توقعات حماس، وأن إسرائيل قد نجحت في البداية بحشد الرأي العام الإسرائيلي والعالمي على نحو ربما لم تكن حماس تتوقعه بالكامل. إن أي عملية عسكرية كبيرة تنفذها حماس بأي درجة من النجاح- استهداف قواعد عسكرية بالقرب من منطقة السياج بين غزة وإسرائيل وتأمين عدد كبير من المقاتلين الإسرائيليين كأسرى- كان من شأنها أن تحطم بالمثل نموذج الحصار، وتثير رد فعل إسرائيلياً مدمراً أيضاً.

ومع ذلك فإن حجم القتلى كان سبباً في تحفيز رد فعل إسرائيلي شرس في غزة، وهو ما أمكن بفضل التفويض المطلق الممنوح للحكومة الإسرائيلية من قِبل معظم القادة الغربيين. وقد جادل بعض الباحثين في الإبادة الجماعية بأن الحملة الإسرائيلية ترقى إلى مستوى التطهير العرقي والنية لارتكاب الإبادة الجماعية.

ومن غير الواقعي الجدال حول ما إذا كانت هذه الردود ستحدث لو لم يُقتل أو يُختطف مدنيون. وفي كلتا الحالتين فإن الهجوم العسكري الذي شنته حماس وما أعقبه من أعمال العنف الجماعي كان سبباً في تشكيل طبيعة الرد ضد الفلسطينيين في غزة على نحو لا رجعة فيه، كما يقول البقعوني.

لم تكن حماس تملك خيارات أخرى

من منظور عسكري استراتيجي بحت كان الخيار الوحيد قبل الهجوم، بخلاف استخدام القوة المتاحة لحماس، هو البقاء مقيدة في إطار الحصار، بينما يقوم المستوطنون الإسرائيليون بتوسيع أعمال العنف الهائجة في الضفة الغربية وسرقة الأراضي، ويغيّر القادة السياسيون الإسرائيليون الوضع الراهن حول المسجد الأقصى، وحصلت إسرائيل على مكافأة ببرامج الإعفاء من التأشيرة الأمريكية واتفاقيات التطبيع الإقليمية لتفعل كل ما تريده.

وفي ظل هذا المناخ كانت الخيارات المتاحة أمام حماس هي الإذعان للافتراض المستمر بأن الفلسطينيين قد هُزِموا فعلياً، وأن يظلوا محصورين ومختنقين داخل البانتوستانات المختلفة الخاصة بهم، وهي قطع من الأراضي غير المتجاورة تشبه "أوطان" جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، والتي تحمل الاسم نفسه. حيث تم نقل العديد من السود المحرومين في المناطق الحضرية وحُكموا من قبل أنظمة محلية عميلة، يُفترض أنها مستقلة، بينما استمرت حكومة تفوق البيض في ممارسة السيطرة العسكرية.

وكان الاختيار، كما رأت حماس، بين الموت البطيء- كما يقول الكثيرون في غزة- وبين تعطيل المعادلة برمتها بشكل أساسي. ومن المؤكد أن تضييق الخناق على حماس، والفلسطينيين على نطاق أوسع، في وضع لا يظهر سوى هجوم عسكري قوي من هذا الشكل كخيار مفضل للحركة. حتى قبل احتواء حماس، وتحديداً منذ الانتفاضة الثانية، كانت هناك فرص كثيرة للتعامل الدبلوماسي والسياسي معها.

فقد انساقت حماس بحكم الأمر الواقع بين عامي 2005 و2007 لبرنامج سياسي، ربما يؤدي إذا تم استغلاله بشكل صحيح إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وتفكيك الاحتلال. وهذا هو الموقف الذي طرحته الحركة كجزء من فوزها في الانتخابات عام 2006، ودخولها اللاحق إلى السلطة الفلسطينية. وفي وقت لاحق تم إضفاء الطابع الرسمي على هذا الموقف في عام 2017 في ميثاق الحركة المعدل، والذي دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967، دون تقديم اعتراف رسمي بدولة إسرائيل.

أمريكا والغرب أضاعوا جميع الفرص الدبلوماسية للتعامل مع حماس

إن الرفض الإسرائيلي والأمريكي للانخراط في أي من التنازلات السياسية التي قدمتها الحركة منذ ذلك الحين، في حين مُنحت إسرائيل باستمرار تصريحاً مجانياً لمواصلة احتلالها العنيف، واستعمارها المستمر للأراضي الفلسطينية، قوّض أي ثقة قد تكون لدى حماس فيما يتعلق باهتمام المجتمع الدولي بفلسطين، أو محاسبة إسرائيل، أو تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم على جزء من فلسطين التاريخية.

لقد كُتب الكثير عن الفرص الضائعة في التعامل مع حماس دبلوماسياً. استندت الأحداث التي أعقبت الانتخابات الديمقراطية للحركة في عام 2006 إلى رفض التعامل مع البرنامج السياسي لحماس، حيث فضلت إسرائيل والحكومة الأمريكية متابعة تغيير النظام والتعامل مع حماس عسكرياً، واختارتا الحد من انخراطهما في الملف الفلسطيني مع إسرائيل. 

ومنذ ذلك الحين عملت إسرائيل على تصوير الحركة باعتبارها منظمة إرهابية، وهي المفارقة التي مكنت الدولة من تبرير العقاب الجماعي المتأصل في الحصار المفروض على قطاع غزة. وكانت هذه بوضوح هي الاستراتيجية التي اختارتها الحكومات المتعاقبة في عهد بنيامين نتنياهو، الذي تحدث علناً عن الفوائد التي تعود على إسرائيل من اتباع "سياسة الفصل" بين الضفة الغربية وقطاع غزة كوسيلة لتقويض احتمالات إقامة الدولة الفلسطينية.

وفي غياب أي آفاق دبلوماسية حقيقية لحماس، كانت خياراتها إما الخنق البطيء باعتبارها السلطة الحاكمة في قطاع غزة، في حين أصبحت إسرائيل متحابة مع الأنظمة العربية التي تخلت تقريباً عن القضية الفلسطينية، أو توجيه ضربة حاسمة يمكن أن تعطل بشكل أساسي الافتراض بأن الفلسطينيين مهزومون وخاضعون، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على نظام الفصل العنصري الخاص بها دون أي تكلفة.

محمود عباس وإسماعيل هنية بعد تشكيل حكومة حماس المنتخبة 2006/ رويترز

حماس تصرّفت بشكل استراتيجي

يقول الباحث البقعوني إن اختيار حماس للخيار الأخير يشير إلى أنها تتصرف بشكل استراتيجي، وتظل ملتزمة بالاعتقاد بأنها تلعب لعبة طويلة الأمد. وبهذا المنطق حتى لو تم تدمير أو طرد الجناح العسكري لحماس بالكامل، فقد حققت الحركة بالفعل انتصاراً في الكشف عن ضعف وهشاشة الجيش الإسرائيلي، وهو ما يمكن استغلاله في المستقبل من خلال حماس المعاد تشكيلها، أو من خلال تشكيل عسكري آخر في المستقبل على قدم المساواة، ملتزم بالمقاومة المسلحة كوسيلة للتحرر. بمعنى آخر، يصبح التعطيل في حد ذاته مجالاً لظهور احتمالات بديلة.

ويعني هذا الإيمان باللعبة الطويلة أنه بغض النظر عما يحدث في المستقبل على المدى القصير والمتوسط، وحتى مع الخسارة المروعة في أرواح المدنيين في غزة، فإن حماس لم تعطل بنية احتوائها فحسب، بل عطلت الفكرة القائلة بأن الفلسطينيين لا يستطيعون القتال، وأن يتم عزلهم في البانتوستانات ونسيانهم دون أن يتكبد الإسرائيليون أي تكلفة، وهذا التعطيل يشكل أهمية بالغة لإسرائيل، وبدعم من حلفائها الغربيين تعتقد أن السبيل الوحيد للنجاة من هذه الضربة يتلخص في القضاء على حماس بالكامل.

إسرائيل تفشل في القضاء على حماس

وسوف تفشل إسرائيل- وهي تفشل بالفعلـ في تحقيق هذا الهدف، وبغض النظر عن الكيفية التي تتكشف بها المعارك ضد حماس في غزة الآن يمكن للحركة أن تدعي بالفعل أنها خرجت منتصرة على المدى الطويل، لأنها حطَّمت بشكل لا رجعة فيه الشعور الزائف بالأمن الذي لبسه الإسرائيليون من عام 1948، رغم كل المحاولات لإظهار إسرائيل على أنها دولة لا تُقهر ولا يمكن اختراقها في المنطقة.

ولكن حتى في المعركة المباشرة الجارية في غزة الآن، فإن احتمالات انتصار إسرائيل ضئيلة. وكما هي الحال في أي صراع غير متماثل، فإن مقاتلي حرب العصابات لا ينبغي لهم أن يخسروا حتى يخرجوا منتصرين، في حين أن الدولة القوية سوف تخسر إذا لم تحقق أهدافها الشاملة. 

والهدف المتمثل في القضاء على حماس كحركة غامض بقدر ما هو غير قابل للتحقيق، لسبب واحد، وهو أن الحركة أكبر بكثير من جناحها العسكري. إنها حركة ذات بنية تحتية اجتماعية واسعة ومتجذرة، ومتصلة بالعديد من الفلسطينيين الذين لا ينتمون إلى برامج الحركة السياسية أو العسكرية.

حماس في جوهرها هي حركة إسلامية لها جذورها في الفروع الإقليمية لجماعة الإخوان المسلمين، وهي متصلة بالبنية التحتية للرعاية الصحية والمرافق التعليمية والجمعيات الخيرية. وإذا كان الزعماء الغربيون والإسرائيليون يدعون من خلال القضاء على حماس إلى قتل أي فلسطيني يعتنق أي شكل من أشكال الأيديولوجية الإسلامية، فهذا لا يقل عن دعوة لإبادة الشعب الفلسطيني، ولا بد أن نفهم الأمر على هذا النحو.

ومع ذلك، إذا كان الهدف هو تدمير البنية التحتية العسكرية للحركة، فمن المرجح أن يفشل هذا الهدف بطريقة رئيسية واحدة، أن تفكك الجناح العسكري لحماس سوف يمهد الطريق لظهور أشكال أخرى من المقاومة المنظمة، سواء داخل الزي الأيديولوجي لحماس أو غير ذلك، والتي تلتزم بالمثل باستخدام القوة المسلحة ضد إسرائيل.

المقاومة جدوى مستمرة 

لقد علّمنا التاريخ الكثير بالفعل، ظهرت حماس في عام 1987 على جمر التنازل التاريخي الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تحولت منظمة التحرير الفلسطينية طوال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات نحو التنازل عن تقسيم فلسطين من خلال الاعتراف بدولة إسرائيل، ونبذ استخدام المقاومة المسلحة سعياً لإقامة دولة فلسطينية. وتزامن مع هذا التحول تأسيس حركة حماس كحزب متمسك بنفس المبادئ التي كانت لمنظمة التحرير الفلسطينية قبلها، مصاغة في أيديولوجية إسلامية بدلاً من الأيديولوجية القومية العلمانية التي هيمنت على الستينيات والسبعينيات.

هناك سلسلة متواصلة من المطالب السياسية الفلسطينية تعود إلى عام 1948 وما قبله. وسواء أكانت حماس قادرةً على البقاء في هيئتها الحالية أم لا، فهي مجرد ذريعة حمراء، فالمقاومة الفلسطينية ضد الفصل العنصري الإسرائيلي، المسلح وغير المسلح، سوف تستمر ما دام نظام العنصرية والهيمنة مستمراً.

غزة
آثار القصف الإسرائيلي على قطاع غزة 2023 – رويترز

في جوهره، هذا نظام يوفر حقوقاً لليهود أكثر من الفلسطينيين في جميع أنحاء أرض فلسطين التاريخية، ويقسم الفلسطينيين إلى فئات قانونية مختلفة، ويجزئهم جغرافياً من أجل الحفاظ على نظام شامل للهيمنة. وفي الوقت نفسه فهو يمنع الحق المعترف به دولياً في السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم.

إن نموذج الفصل العنصري الإسرائيلي ملتزم بالتفوق اليهودي من النهر إلى البحر- وهي العبارة التي تم انتقادها مؤخراً والتي لطالما استخدمها اليمين الإسرائيلي دون اعتذار- بينما يظل الفلسطينيون شعباً مهيمناً يعيش داخل حدود تلك الدولة، ويحكم في الأراضي المحتلة، من خلال سلطات غير شرعية متعاونة بطبيعتها مع دولة إسرائيل.

هجوم السابع من أكتوبر كان حتمياً

ولقلب هذه الديناميكية، والتراجع عن قناعة إسرائيل بأن حماس من خلال احتوائها يمكن تهدئتها كما حدث مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، قامت الحركة بمخاطرة محسوبة من خلال عمليتها، بالنظر إلى أنها توقعت بشكل واقعي أن بنيتها التحتية العسكرية ستتضرر. 

ولكن في غياب أي استعداد من جانب المجتمع الدولي للتعامل مع الفلسطينيين خارج مثل هذه التكتيكات المسلحة، ونظراً للاستعمار الإسرائيلي المستمر والعنيف على نحو متزايد، فإن هذا التحول نحو عملية عسكرية موسعة من جانب حماس كان حتمياً في نهاية المطاف.

هناك سبب آخر يدعم حسابات حماس، وهو تناقضها تجاه الحكم، وكانت حماس مقيّدة بدورها كسلطة حاكمة في قطاع غزة. عندما ترشح الحزب للانتخابات عام 2006، كانت هناك درجة كبيرة من الصراع التنظيمي حول تولي دور حاكم أو حتى المشاركة في السلطة الفلسطينية.

وقد أوضح قادة حماس أنه بدلاً من قبول القيود المفروضة على الحكم في ظل الاحتلال، كما فعلت فتح من خلال اتفاقيات أوسلو، كانت الحركة عازمة على استخدام فوزها الانتخابي لإحداث ثورة في المؤسسة السياسية الفلسطينية. وأكدت قدرتها على القيام بذلك من خلال الإشارة إلى أن إسرائيل، من خلال ردها على الانتفاضة الثانية، دمرت الجسم السياسي الفلسطيني، وجعلت السلطة الفلسطينية واتفاقات أوسلو بالية عفى عليها الزمن.

تحدثت حماس عن الحاجة إلى بناء مجتمع مقاومة، واقتصاد مقاومة، وأيديولوجية مقاومة، من خلال جسد السلطة الفلسطينية نفسه، واستخدام هذا الجسم كنقطة انطلاق إلى منظمة التحرير الفلسطينية، حيث يمكن أن تؤدي إلى جانب الآخرين لوضع رؤية لتحرير فلسطين، وتمثيل الفلسطينيين برمتهم خارج المناطق المحتلة.

يقول البقعوني كان المقصود من فوزها في الانتخابات كما أزعم في كتابي "احتواء حماس"، أن يكون ثورياً في اتجاه الوضع الراهن، وليس قبوله. ومع عدم وجود آفاق حقيقية لإقامة دولة أدركت حماس أن التركيز على الحكم والإدارة يعني تجميل بانتوستان داخل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وأنه لن يكون هناك أي احتمال حقيقي للتحرير أو السيادة، وأن الطريق الوحيد للمضي قدماً هو تحسين نوعية الحياة مع البقاء خاضعة للاحتلال. وهذا بالفعل هو نموذج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وكان من الممكن أن يكون نسخة أكثر تطرفاً من ذلك في قطاع غزة.

ثورة داخل حماس

مع الانقلاب الناجح المدعوم من الغرب ضد حماس، والذي بدأ بعد وقت قصير من فوز حماس في الانتخابات وبلغ ذروته بحرب بين حماس وفتح في عام 2007، بدا لبعض الوقت كما لو أن حكم الحركة في غزة قد نجح في تهدئتها إلى الحد الذي جعلها تسيطر على السلطة. وتشير فترة الاحتواء الطويلة إلى أن الحركة ربما أصبحت أسيرة نجاحها الانتخابي، ومقيدةً بمسؤولياتها في الحكم، أو بعبارة أخرى أصبحت هادئة. لقد أظهر الهجوم العنيف الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بوضوح أن الحركة كانت تستخدم هذا الوقت على وجه التحديد لإحداث ثورة في الجسم السياسي، كما كانت تنوي دائماً القيام به.

كل هذا لا يعني أن التحول الاستراتيجي لحماس سوف يعتبر ناجحاً على المدى الطويل. وربما كان التعطيل العنيف للوضع الراهن من جانب حماس قد أتاح لإسرائيل الفرصة لتنفيذ نكبة أخرى، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حريق إقليمي أو توجيه ضربة للفلسطينيين قد يستغرق التعافي منها جيلاً كاملاً.

لكن الأمر المؤكد هو أنه لا عودة إلى ما كان عليه من قبل، ومع ذلك فإن هذا هو على وجه التحديد ما يستعد له الزعماء والدبلوماسيون الإسرائيليون والأمريكيون وغيرهم من الدول الغربية. وقد تحولت المناقشة بالفعل إلى اليوم التالي، حتى في ظل عدم إضفاء الطابع الرسمي على وقف إطلاق النار.

وتشير كل المؤشرات إلى قرار أمريكي إسرائيلي بمحاولة تكرار النموذج الناجح- من وجهة نظرهم- للحكم الفلسطيني التعاوني الموجود في الضفة الغربية في قطاع غزة. فبدلاً من الانخراط في عملية تتاح للفلسطينيين بموجبها الفرصة لاختيار قادة يمثلونهم ويستطيعون حكمهم، تعيد إسرائيل والولايات المتحدة تشغيل نهج قديم يتمثل في اختيار قادة مطيعين يمكنهم تنفيذ أوامرهم وإخضاع الفلسطينيين تحت الهيمنة الإسرائيلية.

ويتم ذلك تحت شعار توحيد الأراضي الفلسطينية، حيث يقوم الطرفان بمسح تواطئهما في تسهيل هذا الانقسام حتى الآن. والهدف من كليهما ليس إعادة التوحيد، بل السعي إلى حكم إذعان: خلق هيكل حكم تحكم فيه قيادة مطواعة الاحتياجات المدنية، في ظل هيكل شامل للهيمنة العسكرية الإسرائيلية.

ومثل هذا الهدف لا بد أن يتعامل مع الواقع التاريخي الذي تعيشه غزة باعتبارها معقلاً لمقاومة الفصل العنصري الإسرائيلي، وذلك نظراً لأن أغلبية سكان غزة هم من اللاجئين الذين يسعون إلى العودة إلى ديارهم، فيما يُعرف الآن بـ"إسرائيل". إن تسهيل تنصيب السلطة التي تختارها إسرائيل والولايات المتحدة لا يتطلب أقل من تدمير غزة وقتل سكانها، وهي السياسة التي تتكشف الآن.

حماس وجَّهت ضربةً قاتلةً للخيال الإسرائيلي

مقاتلون من القسام يعبرون السياج الحدودي بدراجاتهم خلال عملية
مقاتلون من القسام يعبرون السياج الحدودي بدراجاتهم خلال عملية "طوفان الأقصى"/ القسام (تليغرام)

بصرف النظر عن الآثار الأخلاقية والقانونية لذلك هناك الآثار العملية. من الصعب أن نتصور أي زعيم فلسطيني أو هيكل حكم فلسطيني يتولى المسؤولية عن قطاع غزة بعد أن تدمره إسرائيل، حيث سيُنظر إليهم على أنهم قد تم إرسالهم إلى هناك على ظهور الدبابات الإسرائيلية. وسيكون مثل هؤلاء القادة يتمتعون بشرعية أقل من الشرعية التي تتمتع بها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية اليوم، وهو أمر يصعب تصوره.

ومثل هذا النهج قد يشتري بعض الوقت، وقد يؤدي ذلك إلى ما يشبه الوضع الراهن ودرجة من الاستقرار، ولكن إذا كان من الضروري استخلاص أي درس من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فهو أن هذا لن يكون دائماً أو مستداماً، ولن يتمكن أي كيان حاكم يتم اختياره من ضمان الأمن لأي إسرائيلي، ما دام الفصل العنصري قائماً، وأي حكومة فلسطينية يتم تنصيبها في غزة سوف يُنظر إليها بحق على أنها غير شرعية ومتعاونة.

ومهما كانت خطط "اليوم التالي" فإنها ستفشل، ما لم تأتِ مع محاسبة إسرائيل وتفكيك نظام الفصل العنصري، وسيكون من الواضح لجميع الفلسطينيين أن هذا مجرد حل آخر للبانتوستان، مغطى بغطاء إنساني أو التزام متجدد، إلى حل الدولتين.

وبهذا المعنى فقد وجهت حماس ضربةً قاتلةً لخيال إسرائيل المتمثل في قدرتها على مواصلة احتلالها وحصارها إلى أجل غير مسمى، ومع ذلك فمن غير الواضح ما إذا كان القادة السياسيون الإسرائيليون قد تمكنوا إلى جانب العنف الانتقامي من الانتباه إلى هذا الدرس، لكن المنظمين الشعبيين، وحلفاء حماس، وغيرهم من التشكيلات السياسية والعسكرية فعلوا ذلك.

ومهما كان القادم وأياً كانت كيفية كتابة "إرث حماس" فمن الواضح أن الحركة هي التي فجّرت الوهم الذي تمسكت به إسرائيل وحلفاؤها لفترة طويلة جداً.

تحميل المزيد