يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون رياحاً معاكسة داخلية بسبب مواقفه "المتقلبة" من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فهل تفقد فرنسا نفوذها التقليدي في المنطقة هذه المرة؟
كان ماكرون من أوائل زعماء الغرب الذين أعلنوا دعمهم المطلق لإسرائيل وهاجموا المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قبل أن يغير موقفه بشكل حاد ويخرج عن الخط الأمريكي.
وكانت إسرائيل قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى"، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً، مروجاً لروايات كاذبة رددها زعماء الغرب، ومنهم ماكرون.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
غضب من الرئيس في فرنسا
صحيفة Politico الأمريكية نشرت تقريراً يرصد كيف أن خلاف ماكرون مع الدبلوماسيين الفرنسيين ازداد عمقاً بعد أخطاءٍ تتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة، إذ من المعروف أن الرئيس الفرنسي يكره الدبلوماسيين، لكنه الآن بات يحتاج إليهم أكثر من أي وقت مضى.
ويأمل ماكرون الآن في إعادة تنشيط سياسته في الشرق الأوسط بعد أن فشلت عدة مبادرات متهورة في جذب الاهتمام. ويحتاج الرئيس الفرنسي إلى كل المساعدة التي يمكنه الحصول عليها، خاصة من السلك الدبلوماسي الخاص به، لإنقاذ نفوذ فرنسا في المنطقة، لكن علاقته مع الدبلوماسيين الفرنسيين كانت مضطربة ويشكو المسؤولون بانتظام من إبعادهم عن مركز اتخاذ القرار. وركزت تسريبات صحفية على دبلوماسيين معادين لنهج ماكرون في الشرق الأوسط.
ففي وقت سابق من هذا الشهر، دعا ماكرون في مقابلة مع شبكة BBC البريطانية إسرائيل إلى وقف حملة القصف الانتقامي ضد حماس؛ لأنها تقتل "السيدات والأطفال". وبعد رد فعل عنيف من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، اضطر الرئيس إلى الاتصال بقادة البلاد لتوضيح تصريحاته.
أبرز أسباب الإحباط الذي تولد لدى الدبلوماسيين الفرنسيين نبع من اقتراح ماكرون بإعادة تجهيز التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" لمحاربة حركة المقاومة الفلسطينية حماس، وهي الفكرة التي سرعان ما نسفها المجتمع الدولي.
ووفقاً لما قاله جين لوب سمعان، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، لصحيفة بوليتيكو الأمريكية، فإن الدول العربية فهمت ذلك على أنه اقتراح بأن تنضم الدول الغربية إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي في العدوان على قطاع غزة بهدف تدمير حماس "كما تتمنى إسرائيل"، وهو الأمر الذي دقَّ بطبيعة الحال أجراس الإنذار.
وقال سمعان: "الموقف الدبلوماسي الفرنسي غير واضح، ويعاني من نفس القضايا التي تعاني منها سياستها تجاه أوكرانيا: إنها عملية توازن، مع فروق دقيقة، غالباً ما يُساء فهمها، وتثير غضب كلا المعسكرين".
ورغم تكرار تصريحات إسرائيلية عن استئناف العدوان على غزة بعد الهدنة التي دخلت حيز التنفيذ صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني لمدة 4 أيام، يركز الزعماء الغربيون على مسألة إدارة غزة في مرحلة ما بعد العدوان وكيفية تعزيز السلطة الفلسطينية.
وفي الأيام الأخيرة، كان ماكرون يُجري مكالمات مع القادة الإقليميين للضغط من أجل المساعدات الإنسانية والحل السياسي للفلسطينيين. وتريد فرنسا أن تلعب دورها في المحادثات، لكن المهمة على الأرجح لن تكون ميسورة في ظل ذكريات الأخطاء الأخيرة التي ارتكبها الرئيس ماكرون، وكذلك أخطاء الماضي في دول مثل لبنان.
مواقف ماكرون.. "عشوائية" مصدرها الإليزيه
عندما اقترح الرئيس ماكرون إعادة تجهيز التحالف المناهض لتنظيم الدولة "داعش" لمحاربة حماس خلال زيارة إلى إسرائيل الشهر الماضي، فاجأت المبادرة المعلِّقين، لكنها أيضاً فاجأت الدبلوماسيين الفرنسيين أنفسهم، وفقاً لعدد من المسؤولين الفرنسيين.
وفي الساعات التي تلت الإعلان، أصدرت الرئاسة الفرنسية توضيحاً، حيث أعادت صياغة المبادرة باعتبارها "مستوحاة" فحسب من التحالف المناهض لتنظيم داعش. وفي وقت لاحق، أُسقِطَت فكرة التحالف بهدوء في مواجهة عدم اهتمام إسرائيل ببناء ائتلاف أمني من جهة، والانتقادات العنيفة للفكرة ذاتها كونها تتجاهل حقيقة كون حماس حركة تحرر وطني تقاوم الاحتلال.
وفي أعقاب هذه السقطة الفادحة، حاول ماكرون تدارك الموقف فغيَّر بوصلة تصريحاته معلناً أن فرنسا سترسل سفينة مستشفى لدعم الخدمات الصحية في غزة، قبل أن يتبين أن السفينة التي قرر الفرنسيون إرسالها لا تحمل حتى أسرَّةً كافية ولا تجهيزات تتناسب مع فداحة الكارثة الإنسانية في غزة بسبب العدوان الإسرائيلي.
واعترض الدبلوماسيون الفرنسيون على موقف ماكرون بشأن عدوان إسرائيل على قطاع غزة، وهو الموقف الذي كان يُنظر إليه حتى في الداخل الفرنسي وفي أروقة الدبلوماسية الفرنسية على أنه مؤيد لإسرائيل بشكل مبالغ فيه. وتضمنت وثيقة داخلية مسربة من وزارة الخارجية انتقادات من الدبلوماسيين، لا سيما بسبب انتهاكها لسياسة البلاد الطويلة الأمد المتمثلة في تنمية العلاقات مع العالم العربي.
وقال دبلوماسيان قاما بقراءة الوثيقة إنها كُتِبَت على يد دبلوماسيين ينتمون إلى قسم شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتحتوي على انتقادات حول كيفية النظرة إلى النهج الفرنسي تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في المنطقة.
وبحسب ما نقلته صحيفة Le Figaro الفرنسية، التي نشرت الوثيقة لأول مرة، عن دبلوماسي، فإن الوثيقة تشير إلى "فقدان فرنسا مصداقيتها ونفوذها، وملاحظات على الصورة المتدهورة لبلادنا في العالم العربي"، وتشير دبلوماسياً إلى ماكرون باعتباره المسؤول عن التغيير.
لكن مثل هذه الانتقادات غير عادية في فرنسا؛ إذ يُنظر إلى السياسة الخارجية على أنها الاختصاص المميز للرئيس الفرنسي، وهو واقع تفاقم في عهد ماكرون، الذي لا تنقصه أفكار السياسة الخارجية أبداً. وقال الدبلوماسي الفرنسي نفسه المذكور أعلاه: "السلك الدبلوماسي منزعج من حقيقة أن سياسة فرنسا في الشرق الأدنى يقررها ثلاثة أشخاص داخل قصر الإليزيه".
دبلوماسية فرنسا في الشرق الأوسط
تأتي هذه الواقعة الأخيرة على خلفية العلاقات المتوترة بين ماكرون وجهازه الدبلوماسي، حيث يفضل الرئيس المزيد من الطرق الدبلوماسية المباشرة، وفي بعض الأحيان ينتقد "الدولة العميقة" في فرنسا.
وفي رد مكتوب لبوليتيكو، قال مسؤول من القصر الرئاسي الفرنسي إن الرئاسة "لا تحتاج إلى التعليق على المراسلات الدبلوماسية"، التي تعتبر "سرية"، مضيفاً أن الوثيقة الداخلية هي "مساهمة واحدة من بين أشياء أخرى كثيرة".
في أعقاب إشارات التحذير من الدبلوماسيين الفرنسيين، تبنَّى ماكرون تدريجياً موقفاً أكثر انتقاداً تجاه إسرائيل وانضم إلى الدعوات لوقف إطلاق النار في غزة.
وبالإضافة إلى دعوته العاطفية لإنهاء حملة القصف، نظَّم الرئيس الفرنسي مؤتمراً دولياً حول مساعدة غزة في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للضغط عليه بشأن الوفيات بين المدنيين الفلسطينيين، وهي "مرتفعة للغاية"، وفقاً لبيان الرئاسة الفرنسية.
ويقطع وزراء ماكرون أيضاً أميالاً جوية لشرح موقف فرنسا، حيث قام وزير الدفاع سيباستيان ليكورنو بزيارة المنطقة الأسبوع الماضي، علاوة على أن وزيرة الخارجية كاثرين كولونا في رحلتها الثالثة إلى الشرق الأوسط.
وقال دبلوماسي فرنسي آخر إن هناك أملاً في أن يتمكن ماكرون من الاستفادة من علاقاته الشخصية في المنطقة، وأن يلعب دوراً في المناقشات الدبلوماسية عندما تنهي إسرائيل عدوانها على قطاع غزة. ويتمتع ماكرون بعلاقات جيدة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد. وأضاف الدبلوماسي: "لقد عرفوا بعضهم البعض منذ فترة طويلة، وعاشوا فترات من الارتفاعات والانخفاضات".
ومن المتوقع أن تلعب المملكة السعودية دوراً رئيسياً، اليوم أكثر من أي وقت مضى، في أي جهد لحل الصراع؛ لأنها كانت على وشك التوقيع على اتفاق تدعمه الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بحسب صحيفة بوليتيكو. ووفقاً لعدد من المسؤولين الفرنسيين، تأمل باريس في مساعدة الدول على الاجتماع معاً لإيجاد حلول لغزة ما بعد العدوان الإسرائيلي.
لكن اللافت هنا هو أن الحديث عن مستقبل قطاع غزة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي يبدو وكأنه أقرب "للأمنيات"، بحسب ما يقوله مراقبون، حيث إن أهداف الاحتلال الإسرائيلي المعلنة لم يتحقق منها شيء يُذكر حتى سريان الهدنة، إذ لا تزال حماس والمقاومة في القطاع تتحكم في مسار الحرب عسكرياً وتوقع خسائر فادحة في القوات البرية وتطلق الصواريخ باتجاه العمق الإسرائيلي، في مؤشر واضح على أن "القضاء على حماس" يبدو هدفاً غير واقعي من الأساس، بحسب حتى بعض الآراء داخل إسرائيل. ويفرض هذا الواقع الميداني والسياسي أيضاً شكوكاً هائلة حول مسألة "تغييب حماس" عن المشهد كما يفترضه الحديث عن مستقبل القطاع.
لكن هذا لم يكن أول خوض من جانب ماكرون في سياسة الشرق الأوسط. في عام 2020، تعهد الرئيس بأن يعرض على لبنان، المستعمرة الفرنسية السابقة، "اتفاقاً سياسياً جديداً" في أعقاب الانفجار المدمر الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص في بيروت، لكنَّ شيئاً لم يحدث حتى اليوم.