بعد ستة أسابيع من بدء الحرب في غزة، أخيراً أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراراً يدعو إلى "هدن إنسانية عاجلة وممتدة لعدد كافٍ من الأيام للسماح بوصول المساعدات" إلى الأراضي المحاصرة، ولكن إسرائيل رفضت القرار في مؤشر على تزايد الصدع بينها وبين المجتمع الدولي بما فيه أقرب حلفائها الولايات المتحدة الأمريكية، التي دعمت الحرب الإسرائيلية بكل قوة منذ بدايتها.
وخرج المجلس المؤلف من 15 عضواً عبر هذا القرار الذي صدر أمس الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، من مأزق كان يعانيه، إثر أربع محاولات فاشلة، الشهر الماضي، لاتخاذ إجراء ما بشأن الحرب في غزة التي خلقت أزمة إنسانية مروّعة.
وتم تمرير القرار بأغلبية 12 صوتاً، وهو أول قرار للأمم المتحدة بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني منذ عام 2016.
لماذا امتنعت أمريكا وبريطانيا عن التصويت؟
وامتنعت الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، وهي دول تتمتع بحق النقض (الفيتو) في المجلس، عن التصويت على القرار الذي وضعت مسودته مالطا. وأيّدت بقية الأعضاء في المجلس القرار.
وبرَّرت واشنطن ولندن امتناعهما بأنه على الرغم من دعمهما للتركيز على الإغاثة الإنسانية، فإنهما لا تستطيعان تقديم دعمهما الكامل؛ لأنه لا يتضمن أي انتقاد صريح لحماس. كما امتنعت روسيا عن التصويت على أساس أنها لم تُشِر إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهو أمر ضروري لها.
وهذه الأسباب الذي فسرت بها روسيا عدم تصويتها لصالح القرار
يبدو أن روسيا امتنعت عن التصويت على القرار لأسباب عكسية، لأنها تراه غير كافٍ.
ولم تفلح روسيا في محاولتها في اللحظة الأخيرة، لتعديل القرار ليشمل دعوة إلى هدنة إنسانية على الفور تؤدي إلى وقف أعمال القتال.
وخففت المسودة النهائية من لغة "المطلب" إلى "الدعوة" لهدنة إنسانية، ما دفع روسيا إلى الادعاء بأن الجبل قد تمخض وولد فأراً. وقالت روسيا إنها تخشى أن يؤدي غياب دعوة صريحة لوقف إطلاق النار إلى تقليل احتمال تنفيذ هدنة إنسانية.
كما دعا القرار، بدلاً من المطالبة، إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن الذين تحتجزهم حماس والجماعات الأخرى". ويطالب مشروع القرار "جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي، لا سيما فيما يتعلق بحماية المدنيين، وخاصة الأطفال".
وتركز الخلاف الذي انتهى إلى حل وسط حول ما إذا كان يتعين الدعوة إلى هدنة إنسانية أم وقف لإطلاق النار. وتعد الهدنة بشكل عام أقل رسمية وأقصر مدة من وقف إطلاق النار الذي يجب أن يوافق عليه الطرفان المتحاربان. ودعمت الولايات المتحدة هدناً إنسانية، في حين ضغطت روسيا من أجل وقف إطلاق النار.
ويدعو القرار إلى فتح ممرات إنسانية عبر قطاع غزة.
ممثل السلطة يسأل مجلس الأمن ماذا سيفعل أمام تحدي إسرائيل له؟
وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية إنها رفضت القرار، ما دفع الممثل الفلسطيني رياض منصور إلى سؤال أعضاء مجلس الأمن الدولي عما يعتزمون فعله في مواجهة هذا التحدي.
وكانت الولايات المتحدة قد اعترضت الشهر الماضي على قرار مماثل، وإن كان أوسع نطاقاً، ولكن يبدو أنه تم إقناعها بالتحول إلى الامتناع عن التصويت من قِبل الدول العربية في مواجهة حجم القتلى المدنيين والدمار في غزة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
فرنسا تنأى بنفسها عن إسرائيل
رغم أن واشنطن لم تعترض على القرار، لكن امتناعها عن التصويت يكشف عن أنها ما زالت تدعم الحرب الإسرائيلية ولكن بوتيرة أخف.
فيما يؤشر تأييد فرنسا للقرار إلى أن الشقة قد زادت بينها وبين حليفتيها واشنطن ولندن، منذ أن تحوّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من التأييد الأعمى لإسرائيل للدعوة لوقف إطلاق النار وانتقادات قتل الإسرائيليين للمدنيين واستهداف الأعيان المدنية بما فيها المستشفيات.
وقالت هيومن رايتس ووتش: "إن توقف الولايات المتحدة أخيراً عن شلّ مجلس الأمن بشأن إسرائيل وفلسطين حتى يمكن المضي قدماً في هذا القرار بشأن محنة الأطفال في غزة، يجب أن يكون بمثابة دعوة لكي تنتبه للسلطات الإسرائيلية إلى القلق العالمي حتى بين الحلفاء قويَ".
ويدعو القرار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إلى مراقبة أي وقف لإطلاق النار يتم تنفيذه.
القرار ملزم من الناحية النظرية
وقرارات الأمم المتحدة ملزمة قانوناً من الناحية النظرية، ولكن يتم تجاهلها على نطاق واسع، خاصة من قِبل إسرائيل.
وتكمن الأهمية السياسية في استعداد الولايات المتحدة لدعم الدعوة إلى وقف إطلاق نار إنساني ممتد، ما يفرض بعض الضغوط على حليفتها الوثيقة إسرائيل.
وقد يعكس القرار الأمريكي إحباطها من الحملة الإسرائيلية، بما في ذلك الهجوم على مستشفى الشفاء، أكبر منشأة طبية في غزة، حسب الصحيفة البريطانية.
بايدن يتعرض لضغوط داخلية.. والخلافات تتزايد مع نتنياهو
فالقرار رغم أنه لا يتوقع أن يؤدي إلى أي تحرّك دولي جماعي للضغط على إسرائيل يمثل أول فراق جزئي بين إسرائيل وإدارة بايدن التي باتت تتعرض داخلية هائلة داخل الولايات المتحدة، وبالتحديد من قِبل جمهور اليسار والأقليات بالحزب الديمقراطي وسط استطلاعات رأي تفيد بأن أغلب الأمريكيين باتوا يؤيدون تنفيذ وقفٍ لإطلاق النار، كما تفيد تقارير بأن حملة بايدن لتجديد عهدته الرئاسية مهددة في ظل احتمال امتناع مسلمي أمريكا ومعهم بعض الأقليات من الأفارقة واللاتين عن التصويت له في بعض الولايات المتأرجحة مثل ميتشيغان التي يوجد بها أقلية عربية كبيرة نسبياً.
وقال مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون إن مسؤولي إدارة بايدن على خلاف متزايد مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن الهجوم العسكري على حماس، وكذلك بشأن تصوُّر المستقبل السياسي لغزة، وفق ما نقلت شبكة NBC News الأمريكية، الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وسط المشاهد الأليمة من مستشفيات غزة، وارتفاع عدد القتلى المدنيين، يتزايد الإحباط بين مسؤولي الإدارة الأمريكية الذين ناشدوا نتنياهو وحكومته مراراً اتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية المدنيين الفلسطينيين، والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة.
كما تصاعدت الخلافات الإسرائيلية- الأمريكية بشأن من يحكم غزة بعد سقوط حماس المفترض، حيث أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عزم الاحتلال حكم غزة وسط مطالبات من مسؤولين إسرائيليين بضم شمال غزة وإعادة الاستيطان له، في مقابل رغبة إدارة بايدن في دور رئيسي للسلطة الفلسطينية في حكم غزة، مع إحياء الجهود الدبلوماسية لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية.
ويشعر مسؤولو إدارة بايدن بالقلق من الفكرة التي طرحها مسؤولون إسرائيليون سابقون لإقامة "منطقة عازلة" شديدة التحصين في شمال غزة، لحماية إسرائيل من أي هجوم مستقبلي من غزة.
كما تشعر إدارة بايدن بالقلق إزاء تصاعد أعمال العنف ضد الفلسطينيين من قِبَلِ المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وقالت وزارة الخارجية إنه عندما التقى بلينكن مع نتنياهو في وقت سابق من هذا الشهر، أخبر رئيس الوزراء وحكومته الحربية بأن هذه الأحداث "غير مقبولة".
إسرائيل باتت دولة مارقة، ولهذه الأسباب ستخسر سواء استجابت للقرار أو لم تستجب
يعني القرار أنه من الناحية السياسية باتت إسرائيل منبوذة من المجتمع الدولي حتى بعض الدول الأوروبية، حيث اتخذت دول مثل بلجيكا وإسبانيا وبصورة أقل النرويج مواقفَ قوية ضد العدوان وحتى فرنسا أيدت القرار الدولي، ومن الناحية الرسمية باتت إسرائيل دولة مارقة بعدم استجابتها لقرار مجلس الأمن، وحتى مع أقرب حلفائها لم تعد الأمور كما كانت في السابق.
إذا استجابت إسرائيل للقرار، علماً بأنها لمَّحت لاستعدادها لهدنة إنسانية لساعات بهدف تنفيذ الأسرى من حماس، فإن هذا سيمثل نصراً لحماس من شأنه تخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، وإعطاء فرصة للمقاومة لإعادة ترتيب أوضاعها، وقد يكون عدم استخدام الفيتو ضده مؤشراً على ضغط أمريكي على إسرائيل لتنفيذ عدة هدن إنسانية، لفترات مقبولة، خاصة أن هناك تقارير بأن إحدى نقاط الخلاف بين حماس وإسرائيل حول صفقة الأسرى تتعلق برغبة حماس في عدة صفقات عبر عدة هدن، بينما يريد الجيش الإسرائيلي صفقة واحدة كبيرة عبر هدنة واحدة؛ لأنه يرى أن تنفيذ عدة هدن مفيد عسكرياً للمقاومة الفلسطينية.
كما أن إبرام عدة هدن إنسانية سيُفقد الرأي العام الإسرائيلي هوسه بالحرب، ويمهد له بالقبول بوقف إطلاق نار دون تحقيق الأهداف التي وعد بها نتنياهو وأهمها القضاء على حماس وإعادة احتلال غزة أو على الأقل شمالها.
وإذا لم تستجب إسرائيل للقرار، هذا سيجعلها دولة مارقة ويعزز الصورة السلبية التي باتت تتشكل لدى الرأي العام الغربي، كما ستبدو كدولة متمردة راعيها الأمريكي.
يظل الخلاف الأمريكي الإسرائيلي محدوداً، وجزء كبير منه طيّ الكتمان، ولم يمنع واشنطن إرسال أقوى أسلحتها لتل أبيب ومعها خيرة قادتها العسكريين لتوجيه النصح لها في كيفية خوض حروب المدن.
ولكن من المحتمل أن النافذة الدولية التي كانت متاحة لإسرائيل ذبح غزة تتقلص، إلى أسبوعين وثلاثة، كما قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، بما في ذلك قدرة الإدارة الأمريكية على تحمل الضغوط الداخلية والخارجية، خاصة في ظل استمرار جرائم الحرب الإسرائيلية التي تعتبر واشنطن متورطة فيها بالنظر إلى أنها تزودها بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، بل إن الولايات المتحدة تتطلع على حجج إسرائيل لعمليات القصف الوحشي، مما يجعلها شريكاً شبه كامل في جرائم الحرب هذه، وهذا أمر يمثل مشكلة لإدارة تقدم نفسها كحامية للقانون الدولي والإنسانية والليبرالية وتضم مئات من الشباب الليبرالي العاملين بها، والذين كانوا يصدقون هذا الكلام والذي تبين لهم تهافته.
ويعني ذلك تزايد احتمال توجه واشنطن للضغط على إسرائيل لوقف العدوان، ولكن العامل الأكبر الذي قد يؤدي لهذا الاحتمال هو مدى صمود المقاومة على الأرض وإلحاقها الخسائر بقوات الاحتلال، وفشل الأخيرة في تحقيق أهدافها من الحرب التي تشل المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، مع استمرار ضغط أهالي الأسرى الإسرائيليين.
كل ذلك سيجعل حكومة الاحتلال قد تلجأ للبحث عن انتصارات وهمية مماثلة لاقتحام مستشفى الشفاء أو عودة شكلية للسلطة الفلسطينية، وقد تشمل الحلول وضع قوات دولية في غزة، ومحاولة خلق حزام أمني في شمالها، ولكن كل ذلك قد يتم دون القضاء على المقاومة، أو تهجير الشعب الفلسطيني من غزة، ما يعني فشل أهداف الاحتلال، بينما قد يعني ذلك عودة القضية الفلسطينية للواجهة بما في ذلك الأقصى والاستيطان والأسرى، بل عودة العالم للحديث عن أهمية إنهاء السبب الأول للمشكلة وهو الاحتلال.