بعد مرور شهر على الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، لا تزال السلطة الفلسطينية في رام الله تقف موقف المتفرج من الصراع، إذ لا تزال تراوح مكانها بين انتقاد حماس والتنديد بمجازر الاحتلال، وعرض خدماتها على الأمريكيين لإدارة القطاع بعد "عزل" حركة حماس، في الوقت الذي يخرج فيه رئيس وزرائها محمد اشتية باكياً على أطفال غزة خلال مؤتمر صحفي، تبعه بالبكاء في ذات اليوم المتحدث باسم الحكومة إبراهيم ملحم خلال مقابلة تلفزيونية. لكن ما نفع البكاء الآن وما قيمته، إذا دُمرت غزة وأُعيد احتلالها، وهل يمكنه إيقاف إسرائيل أو ردع آلة حربها؟
السلطة الفلسطينية والحرب على غزة.. من الإدانة إلى التنديد
في البداية، وبعد ساعات على إطلاق حركة "حماس" عملية "طوفان الأقصى"، التي شكلت مفاجأة للاحتلال، وشكلت تغييراً تاريخياً لقواعد الصراع مع الاحتلال، أعلن محمود عباس، رئيس السلطة "تأييده حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه في مواجهة إرهاب المستوطنين والقوات الإسرائيلية".
لكن في الوقت نفسه، أكد عباس على رفضه "قتل المدنيين في الجانبين"، وقال "نرفض الممارسات التي تتعلق بقتل المدنيين أو التنكيل بهم من الجانبين، لأنها تخالف الأخلاق والدين والقانون الدولي".
واجتمع عباس بشكل "طارئ" منذ اليوم الأول للعملية مع مسؤولين مدنيين وأمنيين، ووجّههم بتوفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني، وتوفير كل ما يلزم من أجل تعزيز صموده في مواجهة الاحتلال والمستوطنين، دون أن يوضح بالضبط ماذا يعني ذلك، فالفلسطينيون في الضفة يتعرضون لاعتداءات مستمرة من المستوطنين، وأقصى ما فعلته السلطة لهم هو تركيب حماية لنوافذ منازلهم، ومطالبتهم بتشكيل لجان شعبية محلية لصد هجمات المستوطنين على بلداتهم وقراهم.
فيما صرح محمد اشتية بأن السلطة بدأت في التحرك عربياً ودولياً لوقف القصف على قطاع غزة منذ اللحظة الأولى. لكن على الأرض، ومنذ اللحظة الأولى، قمعت السلطة المسيرات والمظاهرات المتضامنة مع غزة والداعمة للمقاومة وحركة حماس، وتم شن حملة اعتقالات ضد الناشطين، ضمن محاولاتها لعدم تمدد حالة المقاومة أكثر مما هي عليه في الضفة الغربية.
وأظهرت مقاطع فيديو حشوداً من الفلسطينيين في رام الله يهتفون لغزة، مرددين شعارات من ضمنها "الشعب يريد إسقاط الرئيس" في إشارة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
"حماس لا تمثل الفلسطينيين"
بعد أيام من عملية "طوفان الأقصى"، والضغط الأمريكي على السلطة الفلسطينية لإدانة عملية "طوفان الأقصى" وحركة حماس، نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية تصريحات لعباس، انتقد فيها أفعال حركة حماس.
وخلال اتصال هاتفي مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، ناقشا خلاله القصف الإسرائيلي لقطاع غزة "شدد عباس على أن سياسات وأفعال حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني" مضيفاً أن منظمة التحرير الفلسطينية هي "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". لكن وكالة وفا حذفت -في وقت لاحق- الإشارة إلى هذه الحركة من التصريحات، دون ذكر تفسير.
وبعد ساعات من نشر التقرير، قامت الوكالة بتعديل التصريحات، لتصبح: "أكد الرئيس أن سياسات وبرامج وقرارات منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تمثل الشعب الفلسطيني، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليس سياسات أي تنظيم آخر".
وتحدثت تقارير عن أن وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، حضّ عباس على إدانة حركة حماس والحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية المحتلة وضمان الأمن فيها.
وخلال لقائهما في العاصمة الأردنية عمان يوم 13 أكتوبر، أبلغ بلينكن عباس أن الحرب الإسرائيلية على غزة، المدعومة من واشنطن، هدفها إنهاء حركة "حماس" والمقاومة في قطاع غزة.
وبحسب تقارير، طلبت الولايات المتحدة لقاء عباس حينها في العاصمة الأردنية وليس في رام الله، واشترطت عليه أن يقوم قبل لقاء وزير الخارجية الأمريكي بإدانة حماس ورفض قتل المدنيين الإسرائيليين أو التنكيل بهم.
حماس: موقف السلطة مخزٍ.. وخطة السلطة: لا حول ولا قوة إلا بالله!
في مقابلة تلفزيونية، أبدى عضو المكتب السياسي في حركة "حماس"، موسى أبو مرزوق، اندهاشه من موقف السلطة الفلسطينية الذي وصفه بـ"المخزي"، حول الحرب التي يشنها الاحتلال منذ أسابيع على قطاع غزة.
وفي لقاء مع قناة "الجزيرة مباشر"، يوم الأحد 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال أبو مرزوق إن هنالك "أصواتاً جيدة بين مسؤولي السلطة، "لكن بقية الأصوات تدّعي كثيراً".
أبو مرزوق ذكر أن هنالك الكثير من "الأجانب أبلغوه بأن أعضاء في السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سراً بالقضاء على حماس"، وقال: "كنا ننتظر الكثير من حزب الله ومن إخواننا في الضفة، لكننا مندهشون من الموقف المخزي لإخواننا في السلطة".
وأضاف أنهم كانوا ينتظرون الكثير من الحلفاء، لكنه أشار إلى أن حركة "حماس" ليست معنية في الوقت الحالي بتناول سلبيات الأطراف الأخرى، ودعا خلال اللقاء الجميع إلى "المشاركة بالقدر الذي يمكنهم وليس بالقدر الذي تأمله المقاومة".
من جهته، قال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والناطق باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة، في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة مباشر في 31 أكتوبر 2023، رداً على سؤال حول خطة السلطة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه المتواصل بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله، وما باليد حيلة".
جواب أبو ردينة أصاب مذيع الجزيرة بالتعجب، قبل أن يكمل أبو ردينة: "لا نملك إلا أن نقول إننا نرفض العدوان والتهجير، وما يفعله الرئيس محمود عباس أبو مازن الآن هو أننا لن نسمح لمشاريع الوطن البديل".
وفي لقاء صحفي آخر، استنكر أبو ردينة الحديث عن ضعف موقف السلطة من مواجهة الحرب على غزة قائلاً "من قال إن تعاطينا مع حرب غزة لم يكن كما ينبغي؟. وأكمل أبو ردينة متحدثاً عن ما وصفه "صلابة الموقف الفلسطيني"، قائلاً إن العلاقة حالياً بين السلطة وأمريكا متوترة.
السلطة ترتب نفسها لمرحلة "ما بعد حماس" في غزة
لكن تبادل الابتسامات بين عباس وبلينكن خلال زيارته الثانية للمنطقة لم يكشف عن "توتر" في العلاقة بين السلطة والإدارة الأمريكية، فبعد 10 أيام من المجازر الإسرائيلية وفي نفس يوم مجزرة المعمداني، كان رئيس الفلسطينية يمازح بلينكن بأنه لم يغادر المنطقة، ويجب عليه شراء منزل هنا، ليرد عليه بلينكن: بدأت أفكر بالأمر.
وخلال زيارة بلينكن الثالثة منذ 7 أكتوبر للمنطقة، أبدى عباس الأحد 5 أكتوبر 2023، استعداده "للمساعدة في إدارة قطاع غزة" بعد "عزل" حركة حماس، مطالباً الولايات المتحدة بالوقف الفوري للحرب المستمرة على غزة، بحسب ما نقلت وكالة رويترز عن مسؤول أمريكي.
ونقلت الوكالة عن المسؤول الأمريكي الرفيع قوله إن بلينكن أبلغ الرئيس الفلسطيني، خلال الاجتماع أنه يتعين أن تلعب السلطة الفلسطينية دوراً محورياً في مستقبل غزة. وأضاف: "مستقبل غزة لم يكن محور الاجتماع، لكن السلطة الفلسطينية بدت مستعدة للعب دور"، لافتاً إلى أن بلينكن شكر عباس لمساعدته في الحفاظ على الهدوء بالضفة الغربية.
واقترح بلينكن أن أكثر حل منطقي في القطاع هو أن تتولى "سلطة فلسطينية فعالة ومنشَّطة" إدارته في نهاية المطاف، لكنه اعترف بأن الدول الأخرى والوكالات الدولية من المرجح أن تلعب دوراً في الأمن والحكم في هذه الأثناء.
من جهتها، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصادر قولها إن عباس ربط عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بـ"حل سياسي شامل".
وقال عباس -خلال الاجتماع الذي استمر حوالي ساعة بعيداً عن الإعلام- "الأمن والسلام يتحققان بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967".
وتابع: إن "قطاع غزة هو جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وسنتحمل مسؤولياتنا كاملةً في إطار حل سياسي شامل على كل من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة".
في السياق، قالت مصادر خاصة لـ"شبكة قدس" الفلسطينية (مستقلة) إن اجتماعاً دولياً سرياً ينعقد في جنيف في هذه الأيام لبحث "ما بعد حماس" في غزة بمشاركة وفد من السلطة الفلسطينية.
وبحسب مصادر شبكة قدس، فإن دولاً أوروبية وعربية ووفداً أمريكياً يشاركون في هذا اللقاء السري رفقة وفد سياسي رفيع من السلطة الفلسطينية. حيث كان السؤال الأهم على أجندة الاجتماع هو: "ما هي إمكانية سقوط حماس في غزة؟"، فيما يبحث اللقاء، في المرتبة الثانية من الأجندة، سيناريو الحكم في غزة بعد حماس.
وهنا لا بد من ذكر أن السلطة الفلسطينية أسهمت، بالإضافة إلى إسرائيل ومصر، في حصار غزة بعد سيطرة حركة حماس عليها في 2007، حيث أعلنت منذ أعوام عن فرض عقوبات على القطاع، وإحالة الآلاف من الموظفين للتقاعد القسري، وما تبقى منهم حُسم من راتبه 50%، وقُطعت رواتب الأسرى المحررين، وحُرمت 76 ألف أسرة تُصنّف بأنها تحت خط الفقر من مخصصاتهما للشؤون الاجتماعية، كما توقفت السلطة عن دفع مستحقات الكهرباء، وعن دفع فاتورة المياه، وخفّضت نسبة القطاع من تحويلاتهم الطبية إلى 80%.
ما الذي تخشاه السلطة الفلسطينية من "طوفان الأقصى"؟
لا شك أن ما حدث في السابع من أكتوبر وضع السلطة الفلسطينية في رام الله على مفترق طرق، بما يتعلق بمستقبلها واستمراريتها، خاصة بعد تمدد حالة العمل المسلح في الضفة الغربية، وفقدان السلطة لجزء من سيطرتها في شمال الضفة رغم محاولات القمع والتنكيل بالمقاومين.
في الوقت نفسه، تخشى السلطة من فكرة انتهاء دورها بعد تهميشها دولياً بعيد "صفقة القرن"، وصعود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، لذلك تحاول الآن تقديم خدماتها للعودة لإدارة قطاع غزة، والتشديد على أهمية الدور الذي يمكن لها أن تلعبه هناك، خصيصاً فيما يتعلق بضبط الشارع الفلسطيني والسيطرة عليه، بعد قمع المقاومة بشكل كامل.
في مقابل ذلك، تحتاج السلطة دعماً اقتصادياً وشرعياً من الولايات المتحدة والرعاة الإقليميين والدوليين لضمان عملها وقبولها لدى الشارع الفلسطيني الذي يعاني من الفقر وبطالة مرتفعة بين الشباب، بسبب سياسات الاحتلال والاستيطان الذي لا يتوقف بل يتصاعد، خصيصاً في ظل حكومة مثل حكومة نتنياهو.
لكن إذا خرجت غزة منتصرة في هذه المعركة التي لا يعلم أحد متى ستنتهي أو ما احتمالات توسعها، لا شك أن السلطة عليها مواجهة احتمال تفككها وانهيارها بسبب عدم قبولها في الشارع الفلسطيني، وعجزها عن تجديد نفسها وضعفها في مواجهة جرائم الاحتلال، وعدم قدرتها على حماية الشعب الفلسطيني الذي بات يرى في المقاومة نموذجاً للقيادة والتحرر من الاحتلال والضامن الوحيد لحماية الفلسطينيين ووقف الاستيطان.