تروج وسائل الإعلام البريطانية للروايات الإسرائيلية عن الفلسطينيين، بطريقة تخالف قيم الإعلام الغربي المفترضة، الأمر الذي أدى إلى تبرير الممارسات العدوانية الإسرائيلية بما فيها القصف الوحشي الحالي لغزة.
هكذا يقول الكاتب تيم لويلين، المراسل السابق لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في الشرق الأوسط، والمحرر المستقل لدى مؤسسة شؤون الشرق الأوسط حتى عام 2002، في مقال نشر بموقع موقع Middle East Eye البريطاني.
ويستهل لويلين مقاله بالحديث عن عنوان صحفي رئيسي أوردته صحيفة The Financial Times البريطانية الأسبوع الماضي: (إسرائيل ستقطع روابطها مع غزة بعد الحرب)، ويشير إلى أن الصحيفة صدَّرت تقريرها بهذا العنوان دون أن تعزوه إلى جهة أو تضعه بين علامتي اقتباس تنسبانه إلى مسؤول ما. أي إن الصحيفة تعاملت مع هذا الزعم المنقول عن مسؤول إسرائيلي كأنه حقيقة سارية، وهي تستبطن بذلك أن ما تقوله إسرائيل هو الحق بلا جدال!
ويرى لويلين أن هذا نموذج يعبر عن كثير من ملامح التغطية الإعلامية الغربية لأخبار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على مدى 22 عاماً، وخاصة تغطية هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وسائل الإعلام البريطانية تتجاهل التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين أو العنف بحقهم
فمنذ الانتفاضة الثانية في عام 2001، لم تعد وسائل الإعلام الغربية تتحرى توضيح الحقائق ولا تسبر أغوار الحملة الإسرائيلية المستمرة على الفلسطينيين منذ 75 عاماً، والتي ترمي إلى تهجيرهم أو إخضاعهم لسيطرتها.
ويرى لويلين أن وسائل الإعلام البريطانية نادراً ما اعتنت بالكشف عن سياق التهجير الممتد للشعب الفلسطيني وتقليل أعداد الفلسطينيين في أراضيهم بالطرد والاستنزاف والاحتواء والعنف.
ويزعم لويلين أن هيئة الإذاعة البريطانية وغيرها من وسائل الإعلام البريطانية تبذل الآن محاولات مستميتة لوضع الأمر في نصابه الصحيح، بتحليل الخلفيات وتقديم البرامج التوضيحية، مثل السلسلة التي بثَّتها محطة "بي بي سي 4" الأسبوع الماضي بعنوان Understand: Israel and the Palestinians. لكن كل ذلك قد فات أوانه.
كان قبول المراسلين الغربيين للرواية الإسرائيلية بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول هو سبيل إسرائيل للإبقاء على نفسها في صورة الدولة المتمسكة بالموقف الأخلاقي الرفيع، وتصوير الغارة وعمليات القتل التي شهدتها على أنها "أفعال غير مبررة". ومن ثم فقد أصبح الانتقام الإسرائيلي في رأي الغرب ليس إلا رداً قوياً على أعمال إرهابية.
ولا ينقلون أخبار الكارثة في غزة
ونقلت صحيفة "فايننشال تايمز" ذاتها عن هشام هيلير، الزميل المشارك بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، ما قاله كثير من المراسلين والمحللين أثناء الانتفاضة الثانية وبعدها، وهو أن "في إسرائيل عشرات الصحفيين الدوليين الذين يمكنهم أن ينقلوا للعالم أخبار الفظائع التي حدثت بكل تفاصيلها"، خلافاً لغزة "التي ليس لديها من ينقل أخبار الكارثة الهائلة التي حلَّت بالمدنيين فيها".
يرى هيلير أن هذا التباين الفج بين نقل أخبار الإسرائيليين وأخبار الفلسطينيين له تأثير قاطع في نزع الإنسانية عن الضحايا الفلسطينيين، "فالغربيون بذلك ممنوعون من التعرض لمعاناة المدنيين الفلسطينيين أكثر بكثير من تعرضهم لمعاناة الإسرائيليين". وبذلك يصبح الإسرائيليون "أشخاص مثلنا"، أما الفلسطينيون فهم كتلة مشوشة الملامح ومجهولة.
"بي بي سي" ترضخ للضغوط
علاوة على ذلك، كثيراً ما تتعرض الفرق الإخبارية في "بي بي سي" ومنتجو برامج الإذاعة ومحرروها لحملات شرسة وجماعية من أصحاب المصالح المؤيدين للصهيونية، ووسائل الإعلام المطبوعة المؤيدة لإسرائيل.
تأبى الجماعات المؤيدة لإسرائيل رؤية المآسي في فلسطين وإسرائيل إلا بعدسة الفظائع التي يزعمون أنها ارتُكبت بحق الإسرائيليين. وتحرص هذه الجماعات -لأسباب مختلفة- على الطعن في التغطية الإخبارية لهيئة الإذاعة البريطانية، وتقويضها إن أمكن، لذا فإن النقاش بشأن تسمية مقاتلي حماس "إرهابيين" أم غير ذلك لطالما كان أكثر أهمية بكثير لديهم من المذبحة غير المسبوقة للمدنيين المحاصرين في غزة. وهم يرون أن هذه الضغوط كفيلة بإجبار الإذاعة البريطانية على الانصياع تحت وطأة الازدراء العام والتشنيع السياسي، وغالباً ما يحدث ذلك.
تحظى هيئة الإذاعة البريطانية بمكانة بارزة في الوسط الإعلامي بسبب انتشارها الأوروبي والعالمي وشهرتها بتقديم الأخبار والتحليلات النزيهة والموضوعية.
يقول لويلين إنه جهر بالانتقاد الشديد لتغطية هيئة الإذاعة البريطانية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على مدى 23 عاماً، أي منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، ولم يكن هذا الانتقاد لضعف تقاريرها بقدر ما كان يرجع لخلل الإطار الذي وضعت فيه هذه التغطية وقُدمت من خلاله.
هذا التلاعب يقع في بعض الأحيان بلا تعمُّد ولأسباب ثقافية كامنة، ولكنه يُمارس في الغالب لضغوط سياسية كبيرة على شبكة الإذاعة البريطانية -ويقتفي أثرها في ذلك شبكة ITN وشبكة Sky News البريطانيتين، وقناة Channel 4 بدرجةٍ أقل- وترى هذه التغطية الإخبارية أن العنف في المنطقة إنما هو رد فعل إسرائيلي على الهجوم الفلسطيني.
لكن هذه التغطية الإخبارية بدأت تتغير بعض الشيء بعد ذلك، وأخذنا نرى صحفيين بهيئة الإذاعة البريطانية وغيرهم من المراسلين والصحفيين بوسائل الإعلام في بريطانيا يُضيِّقون على المتحدثين الإسرائيليين في الأسئلة.
في حلقة برنامج Today التي أذاعتها محطة BBC Radio 4 في 18 أكتوبر/تشرين الأول، أصرت المذيعة ميشال حسين خلال حديثها إلى العقيد الإسرائيلي الذي استضافه البرنامج على أن إجراء تحقيق مستقل هو أفضل طريقة لمعرفة من قصف المستشفى الأهلي العربي في غزة في 17 أكتوبر/تشرين الأول. وقد أثار ذلك غضب المتحدث الإسرائيلي.
وشرعت منافذ هيئة الإذاعة البريطانية في استضافة بعض الشخصيات الفلسطينية التي تتسم بالصراحة والحكمة، مثل مصطفى البرغوثي، رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية؛ وحسام زملط، السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة؛ وغادة الكرمي، الأكاديمية والناشطة البريطانية الفلسطينية التي أُجبرت أثناء طفولتها على النزوح من القدس الغربية. وأوضحت نور عودة، من رام الله، لماذا هي ليست مضطرة لإدانة حماس قبل الحديث عن الانتهاكات الإسرائيلية، على الرغم من إصرار الصحفيين الغربيين على هذا السؤال.
قصف المستشفى المعمداني نموذج لأزمة الإعلام الغربي
يرى المقال أن التعامل مع حادثة قصف المستشفى الأهلي مثال جليُّ على شدة الضغوط الإسرائيلية والصهيونية المحلية التي تتعرض لها هيئة الإذاعة البريطانية.
ويستند لويلين إلى خبرته حينما كان مراسلاً في هيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط، حيث إنه كثيراً اضطر إلى إصدار أحكام فورية على التقارير الحية بناءً على المعرفة والخبرة والملاحظة، ويقول إن هذا ما فعله مراسل الهيئة، جون دونيسون، في تقريره الأولي عن قصف المستشفى.
قال دونيسون: "الإسرائيليون يحققون.. لكن من الصعب أن يكون ما حدث ناجماً عن شيء آخر [سوى ضربة إسرائيلية].. بالنظر إلى نطاق الانفجار.. نحن رأينا الصواريخ الي تُطلق من غزة، ولم نشهدها تُحدث انفجاراً بهذا النطاق قط… ومع ذلك لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من التحقيق في الأمر".
انهالت الاحتجاجات الصهيونية والحكومية الإسرائيلية على الفور، فاضطرت هيئة الإذاعة البريطانية إلى التبرؤ من استنتاج دونيسون. والواقع أنه لو قال دونيسون إن حماس ربما قصفت المستشفى بالخطأ، لما اعترض أحد. ويشير ذلك إلى أنه لا يزال متأصلاً في النفس الغربية أن الدولة (إسرائيل في هذه الحالة) هي البريئة حتى تثبت إدانتها، والأمر ليس كذلك مع ضحاياها.
يذهب المقال إلى أن تصريحات الحكومة البريطانية والمعارضة عن الدعم الراسخ لإسرائيل منحت غطاءً لوسائل الإعلام ذات الميول اليمينية في بريطانيا إلى السير بعزمٍ في هذا المسار. ودفعت الصحف الليبرالية إلى التردد في معارضتها للانحياز البريطاني.
وسائل الإعلام البريطانية خائفة والمقالات تُمنع
يشير المقال إلى أن صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تصريحات وتحليلات وتعليقات مؤيدة للفلسطينيين، وسردت هذه الصحيفة، ومعها صحيفة "فايننشال تايمز"، قصصاً مؤثرة عن المراسلات اللاتي تعرضن لأخطار هائلة، ونقل معاناة الناس في غزة إلى شاشات قناة "الجزيرة" القطرية، و"العربية" السعودية، و"الحرة" الأمريكية.
وأوردت هيئة الإذاعة البريطانية تقارير موثوقة ومباشرة عن تصاعد عمليات القتل والهجمات التي يشنها المستوطنون والجيش الإسرائيلي على المدنيين في الضفة الغربية.
ومع ذلك، يقول المقال إن وسائل الإعلام البريطانية لا تزال خائفة من الضغوط التي قد تتعرض لها. ويستشهد بأن صحيفة "الغارديان" المحامي الأمريكي طلبت من ديلان سابا كتابة مقال عن قمع الأصوات الفلسطينية والرقابة عليها في الولايات المتحدة. لكن الصحيفة رفضت نشر المقال بعد ذلك من دون أي تفسير. ونشره سابا في موقع N+1.
وطلب "المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية" من ماندي تيرنر، أستاذة دراسات الصراع والسلام والشؤون الإنسانية في جامعة مانشستر والخبيرة في الشؤون الفلسطينية الإسرائيلية، أن تكتب مقالاً عن "لماذا تحطم السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟" (وكأن "السلام" كان قائماً حقاً). لكن تيرنر سحبت مقالها من النشر لدى المعهد بعد ذلك بسبب عدم رضاها عن التعديلات التي أصر عليها هذا المنفذ، الذي يزعم أنه يسمح بـ"الأصوات المستقلة" أن تعبر عن نفسها. ونشرته في منفذ آخر.
ثم طردت صحيفة "الغارديان" ستيف بيل، رسام الكاريكاتير الشهير الذي يعمل منذ أكثر من 40 عاماً، لأنه رسم رسماً كاريكاتورياً يظهر نتنياهو وهو يستعد لاستئصال جزء من لحمه جراحياً من بطنه على هيئة قطاع غزة.
رأت الصحيفة البريطانية، أو أُرغمت على أن ترى، أن في هذا الرسم إشارة إلى شيلوك اليهودي الذي سخر منه شكسبير في مسرحيته "تاجر البندقية"، ومن ثم زعمت الصحيفة أن في ذلك معاداة للسامية.
ولكن البعض بدأ ينتقد إسرائيل
في الختام، يرى لويلين أنه على الرغم من أن المرحلة الحالية ليست كافية لاستخلاص رأي حاسم في الاتجاهات السائدة لدى وسائل الإعلام البريطانية الكبرى، فإن هناك علامات على أن الاحتكام للمنطق قد بدأ يتقدم بعض الشيء في تغطية الصراع، ولو في بعض الأوساط على الأقل.
ففي مقال رأي كتبه فيليب ستيفنز لصحيفة "فايننشال تايمز" في 20 أكتوبر/تشرين الأول، تساءل ستيفنز مستنكراً: "متى تحول العزم على تدمير حماس إلى مبرر لتسويغ العنف العشوائي بحق الفلسطينيين المحاصرين؟!… الواقع أنه على خلاف المباني السكنية في غزة، فإن تطلع الفلسطينيين إلى إقامة دولة لأنفسهم لا يمكن قصفه وتحويله إلى غبار. وأمن إسرائيل على المدى الطويل يقتضي العودة إلى الطريق المؤدي إلى الحل السياسي".
وفي مقال آخر، تطرقت الصحيفة ذاتها إلى مسألة "الانتهاك الخطير للقانون الدولي" في إبقاء السكان تحت الحصار. وتحدثت أصوات محترمة أخرى عن "العقاب الجماعي" لسكان غزة، وأشارت إلى أن هذه جرائم حرب دولية.
لم تُطرح هذه الأسئلة في صدارة التغطية الإعلامية البريطانية منذ الانهيار الفعلي لأي فرصة لحل الدولتين قبل 23 عاماً. وقلَّت التقارير الصريحة عن الانتهاكات العنيفة وأعمال السلب التي تعرض لها الفلسطينيون على أيدي إسرائيل وداعميها الغربيين منذ عام 1948. فوسائل الإعلام البريطانية كانت ترى أن أمن إسرائيل وتحالفها مع الغرب أهم دائماً من حقوق الفلسطينيين والحرية والعدالة وتقرير المصير.
والخلاصة أن التغيرات التي شهدتها الأيام الأخيرة من التغطية الإخبارية للصراع في غزة قد تنطوي على بعض العلامات المبشِّرة، لا سيما أن وسائل الإعلام البريطانية قد شرعت أخيراً في السؤال عن: كيف بدأ هذا الصراع؟ وما السبيل لإنهائه؟