تشهد ألمانيا انتخابات بلدية في عدة ولايات، وفي القلب منها تأتي قضية اللجوء، فهل تتجه برلين إلى تغيير سياستها واتباع "التجربة الدنماركية" بحق المهاجرين واللاجئين؟
كانت قضية اللجوء قد برزت بقوة في النقاش العام السائد، خصوصاً بعد شكاوى البلديات والولايات من عدم قدرتها على استيعاب اللاجئين، فماذا يعني ذلك بالنسبة لألمانيا، التي ينص دستورها على أن حق اللجوء مكفول لمن تنطبق عليهم شروطه؟
ومنذ صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى قمة هرم السلطة في كثير من الدول الأوروبية، أصبح ملف الهجرة يحتل صدارة القضايا في القارة العجوز وتنامت بشكل لافت المشاعر المعادية للمهاجرين وطالبي اللجوء. وفي هذا السياق، أصبحت أوروبا تواجه مأزقاً ضخماً بين ما ترفعه من شعارات أخلاقية وبين سعي السياسيين إلى كسب أصوات اليمين المتطرف.
إذ إن السمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء أكانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أم أخرى معارضة لها، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة "أصلية" من قِبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة.
ما هي التجربة الدنماركية؟
مع اقتراب الانتخابات المحلية في عدة ولايات، يحتل حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني الشعبوي، في استطلاعات الرأي المركز الثاني. وتشكو مجالس الولايات ورؤساء البلديات في أنحاء البلاد من الضغط بسبب تزايد أعداد اللاجئين. يضاف إلى ذلك حوالي 1.1 مليون لاجئ من الحرب في أوكرانيا يحتاجون إلى مساكن ورعاية طبية ومدارس لأطفالهم، ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً. وترسم كل هذه المعطيات السياق السياسي الذي تجري فيه النقاشات حول سياسات الهجرة في ألمانيا حالياً.
كان المستشار الألماني أولاف شولتز قد قال مؤخراً: "عدد الأشخاص الذين يأتون إلينا أكبر بكثير مما يمكن التعامل معه بسهولة". واعتبر الرئيس فرانك فالتر شتاينماير أن "ألمانيا بلغت الحد الأقصى لاستيعاب اللاجئين".
واعترف نائب المستشار المنتمي لحزب الخضر روبرت هابيك، في مقابلة مع شبكة تحرير الصحف الألمانية (RND) بالقول: "لحماية حق اللجوء، يجب علينا قبول الواقع وحل المشاكل الملموسة- حتى إذا كان ذلك يتطلب اتخاذ قرارات أخلاقية صعبة أحياناً"، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
وقبل ثمانية أعوام، واجه الفيلسوف بيتر سلوترديك هجوماً حاداً عندما طالب بإعادة التفكير في العوامل التي تجعل القارة الأوروبية نقطة جذب للمهاجرين. تحدث سلوترديك عن نظام دفاع يتطلب بناؤه "قسوة متوازنة". وحدد المشكلة الرئيسية على أنها: "الأوروبيون يعرّفون أنفسهم بأنهم لطفاء وليسوا وحشيين".
هذا التفكير تجاه الهجرة قد أصبح الآن جزءاً من النقاش السياسي في ألمانيا. الرئيس السابق لألمانيا، يواخيم غاوك، تحدث عن "فقدان السيطرة"، وطالب بوضع حد لعدد اللاجئين، مستشهداً بتجربة الجار الشمالي، الدنمارك.
وتنتهج الحكومة الاشتراكية في الدنمارك منذ سنوات سياسة صارمة ومقيدة في مجال الهجرة. ونتيجة لذلك، في تموز/يوليو 2023، قدم 180 شخصاً فقط طلبات لجوء في الدنمارك التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة. بينما في ألمانيا، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 84 مليون نسمة، قدم 25,165 شخصاً طلبات لجوء وفقاً لما ذكره مكتب الهجرة واللاجئين الاتحادي.
وتتضمن إحدى أدوات "الردع" في الدنمارك تقليلاً كبيراً في المزايا الاجتماعية للمهاجرين. جوديث كولينبيرغر، باحثة في مجال الهجرة في فيينا، قالت للشبكة الألمانية: "الهدف من ذلك أن لا يأتي الناس على الإطلاق أو أن يدخلوا سوق العمل بشكل أسرع إذا كانوا قد وصلوا بالفعل. لكن هذا الأمر نجح جزئياً فقط"، مضيفة: "نتج أيضاً عن تقليل المزايا الاجتماعية ارتفاع معدلات الجريمة وتراجع مستوى التعليم لدى المهاجرين".
التجربة "البريطانية" في ألمانيا
خبير الهجرة السويدي برند باروسيل يوضح قائلاً: "في الدنمارك جرى تقييد إعادة لمّ شمل الأسر بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، تم سحب حق الحماية واللجوء من سوريين في محاولة لدفعهم للعودة إلى سوريا".
بينما أشارت جوديث كولنبيرغر إلى أنه نتيجة للظروف الأكثر صرامة، تحقق بعض النجاح في الحد من الهجرة إلى الدنمارك. وتشرح: "لكن هذا نجح جزئياً فقط لأن البلدان المجاورة للدنمارك سمحت بتوجيه ضغط المهاجرين نحوها. وأحد الأسباب الرئيسية لقلة عدد الأشخاص الذين جاؤوا إلى الدنمارك هو أن ألمانيا لا تزال تستقبل اللاجئين".
أُجلت مؤقتاً خطة الدنمارك لمنع الأشخاص تماماً من الحصول على طلبات اللجوء على أراضيها. حسب الخطة التي وصفها الخبير الإسكندنافي في مجال اللجوء باروسيل، سيتم إرسال طالبي اللجوء الذين يصلون إلى الدنمارك إلى دولة ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي، حيث سيتم معالجة طلبات لجوئهم هناك.
في كوبنهاغن، كان يُعتقد أن رواندا تعتبر المكان المناسب لإجراء هذه الإجراءات. وهي خطة مشابهة لخطط بريطانية جرى التخلي عنها أيضاً، على الأقل مؤقتاً.
ومنذ أن طرحت الحكومة البريطانية استراتيجيتها المثيرة للجدل بشأن ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء إلى إحدى الدول الإفريقية حتى يتم البت النهائي في أوضاعهم، تعرضت لندن لانتقادات عنيفة من منظمات حقوق الإنسان بشأن المعاملة غير الإنسانية التي يواجهها المهاجرون في مراكز اللجوء البريطانية.
وتشرح الباحثة النمساوية في مجال الهجرة كولنبيرغر السبب: "يجب أن يكون لدى اللاجئين الذين تم نقلهم إلى هذه الدولة الثالثة إمكانية الوصول إلى إجراءات لجوء قائمة على سيادة القانون. وهذه الأسس القانونية غير متوفرة في رواندا".
ويدور هذا النقاش في ألمانيا كذلك حول نقل إجراءات اللجوء إلى دولة ثالثة. الفكرة الأساسية خلف هذا هي أن لدى اللاجئين حقاً في طلب الحماية، ولكن ليس لديهم الحق في اختيار مكان الحصول على هذه الحماية. مثال على ذلك ما تفعله أستراليا. إذ نجحت كانبيرا من خلال نقل إجراءات اللجوء إلى بابوا نيو غينيا، والتي تعرضت لانتقادات حقوقية، في خفض عدد اللاجئين.
ماذا يعني "استخدام القوة" وتقليل المساعدات الاجتماعية؟
في النقاش الدائر حالياً في ألمانيا يظهر بشكل متكرر طلب زيادة عمليات الترحيل والإبعاد، ووفقاً لسجل الأجانب المركزي في ألمانيا في نهاية عام 2022، كان هناك حوالي 304,000 شخص يتعين عليهم مغادرة البلاد. من بينهم كان هناك حوالي 248,000 شخص يحملون إذن الإقامة المؤقتة، لم يجري إبعادهم، لأنهم مرضى أو لأن هناك حروباً تدور في بلادهم. لكن جرى ترحيل حوالي 13,000 شخص في عام 2022.
يُشار إلى النموذج النمساوي في هذا السياق كثيراً كنموذج يُمكن الاحتذاء به، لكن الأمر متعلق بالتفاصيل. فعلى سبيل المثال، تشير جوديث كولنبيرغر إلى أنه في السنوات الأخيرة زادت عمليات الإعادة من النمسا، "لكن، وهذا مهم، معظم هذه العمليات تمت فقط إلى بلدان أوروبية أخرى، ونادراً ما كان هناك طالبو لجوء رفضوا ضمن الأشخاص المُبعدين".
يفتقد الاتحاد الأوروبي إلى نظام فعال لتوزيع المسؤوليات فيما يتعلق باللاجئين وتوزيع الأعباء والتكاليف، ولهذا السبب، تتخذ العديد من الدول إجراءات أحادية الجانب بهدف جعلها أقل جاذبية كوجهة للهجرة. يشير بيرند باروسيل إلى وجود "سباق نحو الأسفل" للردع، وهذا يشمل تقييد وتقليل المزايا والمساعدات الاجتماعية في شمال أوروبا، وكذلك "سياسات ردع بالقوة" في دول جنوب أوروبا مثل اليونان لمنع المهاجرين من دخول القارة.
وتؤكد خبيرة الهجرة بترا بندل في مقابلة مع DW أنه "لا يوجد منهج واحد لسياسات اللجوء والهجرة، بل يجب أن تكون متدرجة على مستويات مختلفة، على مستوى السياسة وباستخدام أدوات متنوعة. والأهم في ذلك هو أن نحترم الأسس القانونية. وهي القوانين الدولية، وقانون الاتحاد الأوروبي، والدستور الألماني". ورغم ذلك يجري تجاهل هذه الأسس القانونية في كثير من الأحيان.
الخلاصة هنا هي أن النقاش في ألمانيا يتمحور حول عدد من "الحلول" للتقليل أو حتى منع وصول المهاجرين أو طالبي اللجوء إلى البلاد من الأساس، إضافة إلى تقليل الامتيازات الأساسية التي يحصل عليها طالبو اللجوء المتواجدون في ألمانيا بالفعل، أو حتى حرمانهم تماماً من تلك الامتيازات، سواء إعانات البطالة أو حق التعليم والعلاج بالمجان وغيرها من الامتيازات الاجتماعية.
كانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تقريراً عنوانه "صعود اليمين المتطرف.. هل تشهد أوروبا مهرجان انتخاب الزعماء الشعبويين؟"، رصد ما يعنيه صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى قمة السلطة في القارة العجوز. وفي إشارة إلى هذا التحول الذي يلوّن المشهد السياسي في أوروبا، استخدم رئيس المفوضية الأوروبية السابق جون كلود يونكر آخر خطاباته حول حالة الاتحاد (عام 2018) لانتقاد ما وصفها بـ"القومية غير الصحية" في القارة، مضيفاً أن "حب الوطن فضيلة. ولكن النزعة القومية الخارجة عن السيطرة مليئة بالسم والخداع".
إذ تشترك جماعات اليمين المتطرف في بعض السمات الرئيسية، كالنزعة القومية، أو ما يمكن وصفه بالشعور بأن بلداً ما وشعب هذا البلد أرقى من غيره. ولدى تلك الجماعات شعور قوي بالهوية الوطنية والثقافية إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يشكل تهديداً على تلك الهوية، ومن ثم فإنها ترفض فكرة التنوع.
وعادة ما يستميل زعماء تلك الجماعات الأفراد من خلال إعطائهم شعوراً بالانتماء والفخر. وكثيراً ما يكون ذلك أداة دعائية قوية، ولا سيما في المناطق الفقيرة التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة، والتي يشعر سكانها بالتهميش من قبل المؤسسة السياسية.
أما السمة الأخرى التي تميز اليمين المتطرف فهي تتعلق بالتحيزات الدينية، إذ يعتبر أعضاء اليمين المتطرف أنفسهم مدافعين عن الدين المسيحي، ويستخدمون ذريعة الحفاظ على القيم المسيحية لإثارة صراعات مع أديان أخرى، وبصفة خاصة الإسلام.