يبدو أن مصر قررت تأجيل تخفيض عملتها لما بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في ديسمبر/كانون الأول المقبل، خشية تأثيرها على ظروف إجراء هذا الاستحقاق، لكن مع تراجع الجنيه أمام الدولار في السوق السوداء يخشى محللون أن تكون عواقب تأجيل تخفيض الجنيه أخطر.
ويُتوقع فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي بفترة حكم جديدة، لكن التضخم ارتفع إلى مستويات قياسية، وظهرت مشكلات اقتصادية عميقة الجذور على السطح بسبب النقص المزمن في العملة الصعبة منذ أوائل عام 2022، حسبما ورد في تقرير لوكالة رويترز.
ويقول محللون إن كل هذا يشير إلى الحاجة إلى خفض آخر لقيمة العملة، لكن السلطات تشعر بالقلق من أن ذلك، أو فرض إجراءات تقشفية، أثناء الحملة الانتخابية، قد يؤدي إلى اضطرابات في وقت محفوف بتوترات سياسية شديدة.
وقالت الهيئة الوطنية للانتخابات اليوم الإثنين إن الانتخابات ستُجرى بين يومي 10 و12 ديسمبر/كانون الأول.
حصول مصر على قرض الصندوق مرتبط بالتزامها بشرط تخفيض الجنيه
ووقّعت مصر مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول الماضي اتفاقاً للحصول على حزمة دعم مالي بقيمة 3 مليارات دولار، وافقت الحكومة على السماح بتعويم حر للعملة والإسراع ببيع أصول الدولة لتضييق العجز في ميزانيتها وفي ميزان معاملاتها الجارية، وتخفيف البصمة العسكرية في الاقتصاد، لكن البطء كان السمة الغالبة في تنفيذ شروط الاتفاق وبالأخص تخفيض الجنيه.
ومنذ مارس/آذار 2023، أبقت القاهرة على سعر صرف ثابت للجنيه مقابل الدولار عند 30.85 للشراء و30.95 للبيع، بعدما كان سعره يدور حول 15.5 في فبراير/شباط 2022 قبل الأزمة.
ورغم ذلك لم يلاحق هذا التخفيض الحاد للجنيه سعره في السوق الموازية أو السوداء، الذي انخفض إلى نحو 40 جنيهاً للدولار بحلول منتصف مايو/أيار، ويدور حالياً حول مستوى 39.5 جنيه لكل دولار.
وفي العام الماضي، وحتى مارس/آذار، خسر الجنيه نحو نصف قيمته الرسمية، مع انخفاض قيمة العملة المصحوب بموجات عالية من التضخم.
وقال جيمس سوانستون، من كابيتال إيكونوميكس، في مذكرة "أكدت الحكومة قلقها من أن الانخفاض السابق في قيمة العملة وارتفاع التضخم قد سبب ألماً شديداً للشعب المصري. ولا شك أن المسؤولين يشعرون بالقلق من خطر حدوث اضطرابات اجتماعية".
وارتفع التضخم سريعاً في عام حتى أغسطس/آب من العام الجاري إلى مستوى قياسي بلغ 37.4% وزاد المعروض النقدي (ن2) 24%، ما يعني ضعفاً أكبر محتملاً للعملة.
وقال فاروق سوسة، من بنك جولدمان ساكس، "مع ارتفاع التضخم، كلما طال أمد تأخير مصر في التحرك نحو نظام أكثر مرونة لسعر الصرف، زاد الانخفاض عن المستويات الحالية للجنيه".
مديرة صندوق النقد تصف تثبيت العملة بسكب ماء في وعاء مثقوب
بعد أن حصلت مصر على الدفعة الأولى نهاية 2022، كان من المقرر أن يصرف صندوق النقد الدولي الدفعات مرتين سنوياً على مدار 46 شهراً، لكنه أرجأ سداد الدفعة التي كانت مقررة في يونيو/حزيران 2023 وسط تقارير تفيد بعدم رضاه عن التقدم الذي أحرزته مصر.
وفي يونيو/حزيران 2023، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا إن إصرار مصر على دعم الجنيه وعدم تحرير سعره والدفاع عن سعر غير واقعي، يؤدي لاستنزاف احتياطيات مصر من العملات الأجنبية، وهو أشبه بسكب الماء في وعاء مثقوب.
فيما كتب سوانستون في المذكرة "الخطر الواضح هو أن كل هذا يؤدي إلى مزيد من التأخير في مراجعات اتفاق صندوق النقد الدولي مع مصر، ويزيد الضغط الهبوطي على الجنيه".
هل يؤدي تأخر تعويم الجنيه إلى تفاقم أزمته، ويجعل خسائره أكبر؟
وقال معهد التمويل الدولي في تقرير هذا الشهر إن قيمة الجنيه مبالغ فيها بنحو 10%، متوقعاً أن ترتفع هذه النسبة إلى نحو 20% بحلول نهاية عام 2024.
وأضاف المعهد أن كلاً من "ارتفاع التضخم وانخفاضه لدى الشركاء التجاريين وسعر الصرف الثابت" يمكن أن يسهم في الضغط على الجنيه.
بينما قالت كارلا سليم من بنك ستاندرد تشارترد إنه من الممكن أن يؤدي تأخير تخفيض قيمة الجنيه إلى التخفيف من وطأة تعديل سعر الصرف بشرط أن تمضي الحكومة قدماً في بيع الأصول.
وأضافت "أعتقد أن تأخر تخفيض قيمة العملة قد يعني في الواقع تعديلاً أقل حدة لأن السلطات ستكون قد سمحت بمزيد من الوقت لتدفقات الدولار الأمريكي من مبيعات الأصول، مما يؤدي إلى مزيد من التضييق في صافي مركز الالتزامات الأجنبية".
ويقول مصرفيون ومستوردون ومحللون إن البنوك والجهات المستورِدة لجأت إلى حيل جديدة للالتفاف على القيود المفروضة على فتح خطابات الاعتماد أو تجهيز المدفوعات النقدية المباشرة للواردات في محاولة لمواجهة نقص العملات الأجنبية.
تباطؤ في النمو جراء نقص العملات الأجنبية ولكن السياسة غلبت الجنيه
ويقول اقتصاديون إن تقلص عدد المصانع والمدخلات الأخرى أدى إلى تباطؤ النمو.
وبدأ المصدرون في التعاون مع المستوردين لشراء السلع، وذلك بعد الاستفادة من العملات الأجنبية التي توفرت لديهم جراء بيع منتجات إلى الخارج.
كما يشتري المستوردون الدولار بالجنيه المصري في السوق السوداء، ثم يبيعونه مرة أخرى لبنوك معينة بسعر الصرف الرسمي لتفتح لهم هذه البنوك خطابات اعتماد بقيمة العملية بالجنيه، بالإضافة إلى فرض علاوة تتراوح من 10 إلى 20%.
وقال مستوردان لرويترز إن هذا يمكن أن يرفع تكلفة البضائع المشتراة من الخارج بنسبة 35%.
ومع ذلك، يبدو أن الوضع السياسي يتفوق على الاقتصاد في الوقت الحالي مع عدم سماع أي حديث رسمي عن تخفيض قيمة العملة مع اقتراب البلاد من الانتخابات الرئاسية.
مخاوف من اضطرار القاهرة رفع أسعار الطاقة
وواقعياً جزء كبير من السلع المستورد في مصر، مقوم بسعر 40 جنيهاً للدولار وأكثر في ظل اعتماد المستوردين على تدبير الدولار من السوق الموازية وقلة الصفقات المبرمة، أما السلع المقومة بالسعر الرسمي الذي يبلغ 30.95، فأغلبها تلك التي توفر لها الدولة الاعتمادات بالسعر الرسمي وتشمل بشكل أساسي القمح والدواء.
وسبق أن ألمح السيسي في خطاب عام قبل أشهر لرفضه تخفيض الجنيه لسعره الواقعي المقدر حالياً بأربعين جنيهاً للدولار، لأنه سيؤدي لرفع الأعباء على المواطن، ولكن كان لافتاً تلميحه إلى أن مثل هذا التخفيض، سوف يمثل العودة لنقطة الصفر فيما يتعلق بدعم الطاقة، حيث كانت مصر قد حررت أسعار الطاقة تقريباً عندما كان الدولار بـ15.5 جنيه، وأسعار الطاقة العالمية منخفضة خلال جائحة كورونا وبعدها، (مما قلل ضغط عجوزات الموازنة)، ولكن بعد ارتفاع أسعار الطاقة العالمية إثر نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن خفض العملة إلى مستوى 40 جنيهاً للدولار، معناه أن إزالة الدعم عن الطاقة يتطلب رفع أسعار المحروقات والكهرباء عن المستوى الحالي المرتفع أصلاً عدة مرات، مما قد يخلق دورة جديدة من الضغوط التضخمية.