في تحدٍّ للمعايير والقواعد الدولية، يطالب المسؤولون الأمريكيون بالسيادة على المنطقة المحيطية الكبيرة في وسط المحيط الهادئ التي تُعَد موطناً للدول المرتبطة مع الولايات المتحدة بموجب اتفاقيات الارتباط الحر.
والآن بينما تجدد هذه الدول الأحكام الاقتصادية لاتفاقيات الارتباط الحر مع بالاو وجزر مارشال وولايات ميكرونيزيا الموحدة، يصر المسؤولون الأمريكيون على أنَّ الاتفاقيات توفر للولايات المتحدة سيطرة حصرية على منطقة في وسط المحيط الهادئ تُماثِل في الحجم الولايات المتحدة، كما يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وقال المبعوث الأمريكي الخاص جوزيف يون، للكونغرس في يوليو/تموز 2023: "نحن نسيطر تماماً على النصف الشمالي من المحيط الهادئ بين هاواي والفلبين".
ما هي اتفاقيات الارتباط الحر في المحيط الهادئ؟
لعقود من الزمن، أشرفت الولايات المتحدة على اتفاقيات الارتباط الحر مع بالاو، وجزر مارشال، وولايات ميكرونيزيا الموحدة. وبموجب الاتفاقيات، تزود الولايات المتحدة الدول الثلاث بالمساعدة الاقتصادية بينما تحتفظ بسيطرة عسكرية قوية على الجزر ومياهها.
وتتمثل إحدى صور السيطرة العسكرية هذه في "الفيتو الدفاعي"، الذي يُمكِّن الولايات المتحدة من منع الدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر من صياغة اتفاقيات دولية يمكن أن تعرقل الأولويات العسكرية الأمريكية. ونتيجة لذلك، لم تنضم الدول المتعاقدة قط إلى معاهدة راروتونغا، التي أنشأت منطقة خالية من الأسلحة النووية في المنطقة.
وهناك سيطرة عسكرية أمريكية أخرى تتمثل في "حق المنع الاستراتيجي" الذي يؤكد المسؤولون الأمريكيون من خلاله أنهم يستطيعون منع الدول الأخرى من الوصول إلى أراضي الدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر ومياهها ومجالها الجوي.
وقالت الدبلوماسية الأمريكية جين بوكلاج للكونغرس في وقت سابق من هذا العام: "تمنحنا الاتفاقيات السلطة والمسؤولية الدفاعية الكاملة في تلك البلدان، وتزودنا بقدرتنا على منع الوصول العسكري لدولة ثالثة بطرق استراتيجية".
"أمريكا تحتفظ بحق الوصول الحصري وغير المقيد إلى المنطقة"
يقول د. إدوارد هانت الكاتب في "الحرب والإمبراطوريات"، بموقع responsible statecraft، إنه على الرغم من أنَّ اتفاقيات الارتباط الحر صيغت بلغة تسمح للولايات المتحدة بمنع وصول قوات عسكرية تابعة لأطراف ثالثة إلى الجزر، فقد فسر المسؤولون الأمريكيون هذه اللغة على نطاق واسع على أنها تعني أنه يمكنهم استبعاد أطراف ثالثة من المناطق الاقتصادية الخالصة للدول الأطراف التي تمتد حتى 200 ميل (321.8 كيلومتر) حول سواحل كل جزيرة.
وفي جلسة استماع بالكونغرس في يوليو/تموز الماضي، أكد السيناتور جون باراسو (الجمهوري عن ولاية ويسكونسن)، أنَّ سلطة المنع الاستراتيجي "تسمح لنا بمنع وصول أي خصم محتمل إلى منطقة من المحيط الهادئ مماثلة في الحجم للولايات المتحدة القارية". وقدم خريطة تُصور المناطق الاقتصادية الخالصة باعتبارها منطقة واحدة متجاورة تحت سيطرة الولايات المتحدة. وأشار باراسو إلى أنَّ "حجمها يقارب مساحة الولايات المتحدة القارية".
واتفق المسؤول في وزارة الدفاع، سيدهارث مُهنداس، مع تفسير السيناتور، زاعماً أنَّ الولايات المتحدة تحتفظ بحق الوصول الحصري وغير المقيد إلى المنطقة.
تحدٍّ أمريكي للقوانين الدولية
يقول هانت إن هذا التفسير لحق المنع الاستراتيجي لا يتوافق مع القانون الدولي. بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تتمتع جميع الدول بحقوق الملاحة والتحليق في المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدان الأخرى، على النحو المنصوص عليه في المادتين 58 و87.
ومعظم الدول، ومن ضمنها الدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر، هي أطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. ولم تُصادق الولايات المتحدة مطلقاً على الاتفاقية الدولية، لكن مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى أعربوا عن دعمهم لها.
وتوضح الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، في إشارة إلى اتفاقية قانون البحار، أنه "على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة ليست طرفاً بعد في المعاهدة، فإنها تلاحظ أنَّ ميثاق الأمم المتحدة لقانون البحار يعكس القانون والممارسات الدولية العرفية".
وعندما يقول المسؤولون الأمريكيون إنَّ لديهم الحق في استبعاد الجهات الفاعلة الخارجية من المناطق الاقتصادية الخالصة للدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر، فإنهم يقدمون ادعاءات تتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة. ولا يوجد أساس قانوني للولايات المتحدة يعطيها الحق في منع السفن التابعة لدول أخرى من العبور السلمي في المناطق الاقتصادية الخالصة للدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر.
قبل أكثر من عقدين من الزمن، أقر مكتب محاسبة الحكومة الأمريكي العام، في تقرير مهم، أنَّ المنع الاستراتيجي لا يمتد إلى المناطق الاقتصادية الخالصة للدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر. ووفقاً لتقرير مكتب محاسبة الحكومة، يقتصر حق المنع الاستراتيجي على المياه الإقليمية التي يبلغ طولها 12 ميلاً بحرياً (22 كيلومتراً) التي تحيط بكل جزيرة. وأشار مكتب محاسبة الحكومة إلى أنه حتى داخل هذه المناطق الأصغر، تحتفظ السفن العسكرية من بلدان أخرى بحق "المرور البريء".
وأوضح مكتب المحاسبة: "إن تصريحات صُناع السياسات التي تشير إلى أنَّ للولايات المتحدة الحق في منع الوصول العسكري إلى الجزر ومساحة واسعة من المحيط الهادئ- وهي مصلحة أمريكية يثيرها المسؤولون على نطاق واسع- تبالغ في نطاق هذا الحق، الذي يغطي فقط الجزر الفردية ومياهها الإقليمية على مسافة 12 ميلاً".
وتُظهِر الخريطة المُدرَجة في تقرير مكتب محاسبة الحكومة أنَّ حق المنع الاستراتيجي ينطبق على مناطق صغيرة معزولة وليس الامتداد الأكبر بكثير في المحيط الهادئ، الذي غالباً ما يطالب به المسؤولون الأمريكيون. وأحد الآثار الرئيسية لخريطة مكتب محاسبة الحكومة هو أنَّ الولايات المتحدة لا تستطيع قانونياً استبعاد أطراف ثالثة من المنطقة المحيطية الشاسعة التي تحيط بالدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر.
تعزيز "حرية الملاحة" لا ينطبق على كل شيء من وجهة نظر أمريكا
وفي الواقع، اتخذ المسؤولون الأمريكيون منذ فترة طويلة موقفاً مفاده أنَّ المناطق الاقتصادية الخالصة يجب أن تظل مفتوحة للملاحة. وفي مختلف أنحاء العالم، عززوا "حرية الملاحة"، التي قدموها على أنها حرية السفن للإبحار في محيطات العالم وممراته المائية أينما يسمح القانون، وضمن ذلك المناطق الاقتصادية الخالصة لدول أخرى.
وعندما أرسل المسؤولون الأمريكيون سفناً حربية عبر بعض الممرات المائية الأكثر إثارة للجدل في العالم؛ مثل بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، قالوا إنهم يدافعون عن "حرية الملاحة". وغالباً ما أدى وجود القوات العسكرية الأمريكية إلى خلق توترات، وربما حتى انتهاك المادة 88 من اتفاقية الأمم المتحدة، التي تتطلب من السفن أن تكون لها أغراض سلمية، لكن المسؤولين الأمريكيين أصروا دائماً على أنَّ هذه العمليات تتفق مع القانون الدولي.
وقال وزير الدفاع لويد أوستن، في خطاب ألقاه في يونيو/حزيران: "نحن ملتزمون بضمان قدرة كل دولة على الطيران والإبحار والعمل في أي مكان يسمح به القانون الدولي. يجب على كل دولة، كبيرة كانت أو صغيرة، أن تحتفظ بحرية تنفيذ أنشطة بحرية مشروعة".
عندما تدعي دول مثل الصين وكوريا الشمالية، أنَّ لها الحق في تنظيم الأنشطة العسكرية الأجنبية في مناطقها الاقتصادية الخالصة، فإنَّ المسؤولين الأمريكيين يختلفون دائماً، ويصرون على أنَّ هذه المناطق يجب أن تظل مفتوحة لحرية الملاحة، خاصة بالنسبة للسفن الحربية الأمريكية.
وفي ما يتعلق بالدول الساحلية، ومنها الصين وكوريا الشمالية، فإنَّ موقف الولايات المتحدة -وفقاً لتقرير صادر عن خدمة أبحاث الكونغرس- هو أنها "ليس لها الحق في تنظيم الأنشطة العسكرية الأجنبية في مناطقها الاقتصادية الخالصة. وستواصل الولايات المتحدة تشغيل سفنها العسكرية في المناطق الاقتصادية الخالصة للدول الأخرى".
لكن من خلال ادعاء الولايات المتحدة بأنَّ لديها الحق في منع الوصول الاستراتيجي للمناطق الاقتصادية الخالصة للدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر، يتخذ المسؤولون الأمريكيون موقفاً لا يتوافق مع القانون الدولي وممارساتهم في أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وإذا استخدموا القوة لمنع طرف ثالث من الوصول إلى المساحة الشاسعة من المياه المحيطة بالدول أطراف الاتفاقيات، فإنهم بذلك ينتهكون القانون والمبادئ ذاتها التي يطبقونها على البلدان الأخرى.
باختصار، لا يملك المسؤولون الأمريكيون أساساً قانونياً لمطالباتهم بالسيطرة على منطقة المحيط الشاسعة التي تضم الدول أطراف اتفاقيات الارتباط الحر، تماماً كما أكد مكتب محاسبة الحكومية الأمريكي في تقريره التاريخي قبل أكثر من عقدين من الزمن.