يعمل الذكاء الاصطناعي على توسيع حدود الأبحاث البيولوجية، حيث يساعد العلماء على برمجة الكائنات الحية مثلما يكتب مهندس برمجيات تعليماتٍ برمجية. حتى إن بعض العلماء يصنعون بروتينات جديدة غير موجودة في الطبيعة، كما تقول صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
يعمل هذا المجال، المعروف باسم البيولوجيا التركيبية (أو علم الأحياء الاصطناعية)، على كسر الحواجز في العلوم الطبية والمستحضرات الصيدلانية، إضافة إلى أبحاث علوم الأغذية والزراعة والطاقة وتغير المناخ.
ما هي البيولوجيا التركيبية؟
غالباً ما يُستخدم مصطلح البيولوجيا التركيبية، وهو مصطلح واسع الانتشار، لوصف ممارسة أخذ البروتينات أو المواد البيولوجية الموجودة في الطبيعة وإعادة برمجتها أو إعادة توظيفها لتحقيق وظيفة أو هدف جديد. تقول جينيفر لوم، المؤسِّسة المشاركة لشركة بيوسبرينغ بارتنرز، وهي شركة مساهمة تستثمر في تكنولوجيا علوم الحياة: "إنك تقوم بتشفير وبرمجة خلية لإخراج شيء ما".
أدى ظهور الحوسبة المُوزَّعة إلى تعزيز هذه الجهود، مما سمح بمعالجة مجموعات أكبر من البيانات. يمكن للعلماء إجراء التسلسل الجيني وتسلسل الحمض النووي بوتيرة أعلى وعلى نطاقٍ أوسع، وفقاً لـ"لوم". ومن خلال فهمٍ أفضل لتكوين الحمض النووي ووظائف خلايا أنواع معينة من الكائنات الحية، يستطيع العلماء معالجة هذه الخلايا وإعادة تصميمها لتحقيق نتيجة معينة، من الوقود الحيوي إلى النباتات المقاومة للأمراض.
أصبحت الموجة الأخيرة من الاكتشافات ممكنة بسبب توافر مزيد من القوة الحاسوبية. وقالت لوم إن العلماء يمكنهم الآن وضع نموذج أفضل ودراسة تفاعلات البروتينات التي تُشفَّر بواسطة تسلسل الحمض النووي.
وفي حين أن المنتجات المُصنَّعة باستخدام البيولوجيا التركيبية يجب أن تخضع لإجراءات تنظيمية قياسية، فإن هذه التكنولوجيا يمكن أن تحفز الطلب على مزيدٍ من التنظيم، وقد تواجه عقبات أمام قبول الجمهور وثقته بها.
هندسة الكائنات الحية
قال الدكتور لويد مينور، عميد كلية الطب ونائب الرئيس للشؤون الطبية بجامعة ستانفورد، لصحيفة وول ستريت جورنال: "تشمل البيولوجيا التركيبية في أوسع أشكالها جزءاً كبيراً من العمل الذي يُنجَز في الطب الحيوي. هذه هي الطريقة التي نفهم بها الكائنات الحية في بادئ الأمر، لكن بعد ذلك نستخدم هذا الفهم لبرمجتها أو توجيهها للقيام بأشياء مختلفة". وأضاف: "أعتقد أنه يوفر قدراً هائلاً من الإمكانات في جميع المجالات".
وأوضح قائلاً: "التحدي في علم الأحياء هو أنه ليس من الصعب للغاية هندسة الكائنات الحية، أو هندسة الأنظمة الحية، أو القيام بأشياء يمكن أن تكون ضارة للغاية. فكيف نفكر إذاً في الرقابة والتنظيم وضمان السلامة في عالم الأحياء؟".
ترى شركات البيولوجيا الاصطناعية فرصاً للذكاء الاصطناعي طوال دورة حياة تطوير المنتج؛ بدءاً من التصميم الأولي، حيث يمكن للعلماء فحص عدد أكبر من المتغيرات والخيارات ومعالجتها، إلى مرحلة البناء والاختبار، حيث يمكن للعلماء الاستفادة من الطبيعة التنبؤية للذكاء الاصطناعي لتحديد النتائج بسرعة.
يمكن أن ينهض الذكاء الاصطناعي أيضاً بدورٍ في توسيع نطاق التصنيع، وهي خطوة حاسمة إذا أردنا الاستفادة من المنتجات، وفقاً لـ"لوم". ويمكن أن يكون له تأثير اقتصادي كبير أيضاً.
البيولوجيا التركيبية.. ما حجم هذه الصناعة؟
قُدرت قيمة سوق البيولوجيا التركيبية العالمية من حيث الإيرادات بنحو 11.4 مليار دولار في عام 2022، وفقاً لشركة الأبحاث "ماركتس آند ماركتس"، لتصل إلى 35.7 مليار دولار بحلول عام 2027 بمعدل نمو سنوي مركبٍ قدره 25.6%.
يدير البروفيسور ديفيد بيكر، عالم الكيمياء الحيوية وعالم الأحياء الحسابية في جامعة واشنطن، مختبراً صمم فيه الباحثون بروتينات جديدة تُستخدم بمجموعة من الطرق، مثل تطوير الأدوية ولقاح كوفيد المسمى سكاي كوفيون، الذي حصل على الموافقة على استخدامه في كوريا الجنوبية. ويُعَد مختبر بيكر، الذي يضم ما يقرب من 80 طالباً في مرحلة ما قبل وما بعد الدكتوراه، جزءاً من معهد تصميم البروتين بالجامعة.
يقدِّر الدكتور بيكر أن وتيرة الابتكار في مجاله زادت بمقدار 10 مرات خلال العامين الماضيين، وذلك بسبب مزيج من التعلم العميق والأساليب التجريبية المستخدمة للتحقق من أن البروتينات الجديدة تعمل كما هو متوقع.
ويعمل الباحثون بالمختبر على مجموعة من المشاريع، بدءاً من علاج السرطان وحتى لقاح الأنفلونزا وعلاجات أمراض الاضطرابات الهضمية، وفقاً للدكتور بيكر. يقول: "إنه خيال علمي. ما زلت لا أستطيع تصديق أن هذا يجري بالفعل".
على مدار العقدين الماضيين، انبثقت 17 شركة من مختبر الدكتور بيكر أو أُسِّسَت بمساهمة شركته، ومن المتوقع أن تظهر ثلاث أو أربع شركات ناشئة أخرى من المختبر هذا العام وحده.
وتعكس إحدى هذه الشركات، وهي شركة أرزيدا، الطرق التي تنتقل بها البيولوجيا التركيبية من المختبر إلى مجموعة من الأسواق التجارية. تستخدم الشركة الناشئة، التي يقع مقرها في سياتل، تقنية تصميم البروتين الذكي لتصميم الإنزيمات وتسلسلات البروتين.
الذكاء الاصطناعي التوليدي
وتعتمد التكنولوجيا على الذكاء الاصطناعي التوليدي وأشكال أخرى من الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى خوارزميات غير الذكاء الاصطناعي مثل النموذج القائم على الفيزياء. وهي تتحقق من صحة العمل في مختبرها، وتُطور عمليات تصنيع فعالة من حيث التكلفة لإنتاجها على نطاق واسع مع شركاء التصنيع المتعاقدين، وفقاً للمؤسس المشارك والرئيس التنفيذي ألكسندر زانغيليني. وقال زانغيليني إن شركة أرزيدا تبيع وتوزع المنتجات مع شركاء، مثل شركة يونيليفر، ويمكن لهؤلاء الشركاء أيضاً الاستثمار في البحث والتطوير.
على سبيل المثال، قالت شركة أرزيدا إنها طورت إنزيمات تُستخدَم لتحسين تحويل مستخلص نبات ستيفيا إلى شكل عالي النقاء وذي قيمة أعلى من المحلي. وفي حين يمكن لشركات أخرى إجراء هذا التحويل باستخدام أساليب أكثر تقليدية، قال زانغيليني إن شركة أرزيدا يمكنها تقليل تكلفة العملية بشكل كبير من خلال إنزيمات بروسويت المقرر طرحها في السوق في الربع الرابع من العام الجاري.
وقال زانغيليني: "إن تصميم البروتين يمثل مشكلة معقدة لدرجة أنه لن يتمكن أي إنسان من تنفيذ المهام التي يستطيع الذكاء الاصطناعي لدينا حلها".
وقالت الشركة إنها تعمل مع شركة يونيليفر لتصميم إنزيمات المنظفات التي تعمل على تحسين الأداء وكذلك الاستدامة. وقد جمعت الشركة 51 مليون دولار حتى الآن ولديها 65 موظفاً، معظمهم في سياتل.
ووفقاً لزانغيليني، انطلقت البيولوجيا التركيبية كما هي مفهومة حالياً في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية من خلال ابتكارات مثل نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي وتوافر مزيد من البيانات لتدريب تلك النماذج.
مجال ناشئ يواجه عقبات
لكن رغم كل التقدم والوعود التي تحققت بالفعل، لا تزال البيولوجيا التركيبية مجالاً ناشئاً يواجه عقبات أمام اعتماده ونموه. قالت لوم إن البيولوجيا التركيبية وعلوم الحياة بشكل عام تواجه بعض القيود في استغلال الذكاء الاصطناعي مقارنة بالقطاعات الأخرى.
وقالت إن الإنجازات الأخيرة في نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة على اللغة والصور استفادت من "قدر هائل من البيانات" والمعرفة المقننة على الإنترنت. أما في علم الأحياء وعلوم الحياة، فلم تُكتَشف بعدُ الكثير من الاكتشافات المهمة. وقالت إنه من بين البيانات الموجودة، لم يُنسَّق كثير منها بالطرق الأكثر إفادة، علاوة على أن جزءاً كبيراً منها غير متاح للجمهور.