في تطور مذهل وسريع أعلنت أذربيجان خلال يوم واحد استعادة سيادتها على إقليم ناغورنو قره باغ، الذي يسيطر عليه الانفصاليون الأرمن، فيما انطلقت عملية تسوية سريعة بين الجانبين، قبل خلالها الانفصاليون تسليم أسلحتهم وبدء عملية لإدماج أرمن الإقليم في أذربيجان، في مؤشر على أن هناك اتفاقاً ما أبرم وراء الكواليس بوساطة أو موافقة دولية وإقليمية أفضت لهذا التغيير الحاسم في هذا الصراع المرير الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة عقود.
ومع عجزهم عن الصمود في وجه الهجوم الأذربيجاني الجديد، استسلم الانفصاليون الذين سبق أن أعلنوا دولة غير معترف بها عالمياً حتى من قبل أرمينيا ووافقوا على نزع سلاحها بالكامل وحل قواتهم مقابل وقف إطلاق النار، وقبلوا بعقد مفاوضات حول القضايا المتعلقة بـ "إعادة دمج" ناغورنو قره باغ وسكانه الأرمن الذين يقدر عددهم بـ120 ألفاً في أذربيجان.
وأعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، أن بلاده استعادت سيادتها بعد عمليتها ضد الإرهاب في إقليم ناغورنو قره باغ خلال يوم واحد، وذلك في خطاب إلى الأمة، أمس الأربعاء، حول العملية التي نفذتها أذربيجان ضد الإرهاب لاستعادة النظام الدستوري في قره باغ، معلناً بدء عملية مغادرة الجماعات المسلحة الأرمينية غير الشرعية مواقعها وتسليم أسلحتها.
وقال الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف: في يوم واحد تم إنجاز جميع المهام ومعاقبة الإرهابيين في قره باغ واستعادت أذربيجان سيادتها، مؤكداً أن الجنود الأذربيجانيين أظهروا بطولة كبيرة في عملية مكافحة الإرهاب.
وأوضح أن بلاده اشترطت لإيقاف العملية إلقاء القوات الأرمينية سلاحها ونزعه منها، ومغادرتها الأراضي الأذربيجانية.
وأردف: "أبلغونا أنهم قبلوا شروطنا خلال ساعات الصباح، وتم إعلان وقف إطلاق النار الساعة 13:00 أمس (الأربعاء)".
ممثلو الأرمن يصلون أذربيجان للتفاوض
واليوم الخميس وصل ممثلو الأرمن القاطنون في إقليم ناغورنو قره باغ إلى مدينة يفلاخ في أذربيجان، لعقد اجتماع مع المسؤولين الحكوميين لبحث قضايا إدماج أرمن قره باغ في أذربيجان..
ورافق ممثلي الأرمن في طريقهم إلى يفلاخ مسؤولون من قوة السلام الروسية والشرطة الأذربيجانية، بحسب وكالة الأناضول.
ويأتي ذلك بعد يومين من إعلان وزارة الدفاع الأذربيجانية أمس الأول، الثلاثاء، إطلاق عملية ضد الإرهاب "بهدف إرساء النظام الدستوري في إقليم قره باغ"، إثر تصاعد التوتر بسبب إقدام قوات غير قانونية تابعة لأرمينيا في إقليم قره باغ الأذربيجاني على إطلاق النار بشكل ممنهج مستهدفة مواقع الجيش الأذربيجاني في الأشهر القليلة الماضية، ومواصلتها زرع الألغام، وقيامها بأعمال تحصينات.
وفي اليوم التالي، أي أمس الأربعاء، أعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية التوصل إلى اتفاق لوقف باكو عمليتها ضد الإرهاب في إقليم قره باغ، وتخلي المجموعات المسلحة الأرمنية غير القانونية والقوات المسلحة الأرمينية المتواجدة في قره باغ عن سلاحها، وإخلاء مواقعها العسكرية.
إقليم ناغورنو قره باغ محتل منذ 30 عاماً وتعرض سكانه الأذريون لتطهير عرقي
ويقع إقليم ناغورنو قره باغ في جزء من أراضي أذربيجان باعتراف المجتمع الدولي، بما في ذلك أرمينيا، ولكنه خضع للاحتلال الأرميني إثر حرب قامت بين البلدين في مطلع عام 1994 عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، أدت لاحتلال الإقليم وأراضٍ أذربيجانية أخرى بما فيها مناطق سكانها من الأذربيجانيين جرى طردهم، ثم استعادت باكو في حرب 2020، التي استمرت 44 يوماً، بدعم تركي جزءاً كبيراً من أراضيها بما فيها بعض أراضي ناغورنو قره باغ (بقي جزء كبير في أيدي الأرمن)، ثم توصلت أذربيجان وأرمينيا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة روسية، ينص على استعادة باكو السيطرة على المحافظات المحتلة، ولكن أذربيجان تقول إن أرمينيا وانفصاليي قره باغ لم ينقذوا الاتفاق ويواصلون الخطوات الاستفزازية وآخرها إجراء انتخابات رئاسية بالإقليم.
ويعد النزاع حول ناورغونو كارباخ أحد أكثر الصراعات العرقية مرارة وأطولها استمراراً في العالم، وشهد واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في العصر المعاصر، حيث طردت القوات الأرمينية ما يقدر بنحو 600 ألف مدني أذربيجاني من منازلهم خلال الحرب في التسعينيات.
10 آلاف مقاتل أرميني ومحادثات سلام بلا نتيجة
قبل أيام، طالبت أذربيجان أرمينيا بسحب قواتها من ناغورنو قره باغ، وحل الكيان العسكري والإداري لما يسمى النظام التابع لها في الإقليم الأذربيجاني.
وأشارت باكو إلى وجود قوات مسلحة أرمينية تعدادها أكثر من 10 آلاف شخص تابعة لما يسمى النظام في قره باغ، مبينة أن تلك القوات تمتلك أكثر من مائة دبابة ومدرعات أخرى، وأكثر من مئتي مدفعية ثقيلة، بما في ذلك أنظمة صاروخية، وأكثر من مئتي نظام هاون.
وأكدت أن أرمينيا وفرت الدعم التقني والعسكري واللوجيستي والمالي لتلك القوات بعكس التزاماتها.
وشددت في إحاطة قدمت للدول المعنية بالملف أنه أصبح من المهم والضروري أكثر من أي وقت مضى إجبار أرمينيا على الابتعاد عن المسار الخطير.
وسبق أن أجرت باكو ويريفان مباحثات سلام بوساطة غربية حققت بعض التقدم نحو إعداد نص سلام دون التوصل لاتفاق ناجز. ووافقت يريفان على الاعتراف بقره باغ كجزء من أذربيجان، لكنها طالبت بآليات دولية لحماية حقوق السكان.
أذربيجان تسعى لطمأنة السكان الأرمن بعد انتصارها
وكان لافتاً تأكيد أذربيجان خلال إطلاقها عمليتها العسكرية أمس الأول الثلاثاء، أن العملية لا تستهدف المدنيين ولا البنية التحتية، إنما الأهداف العسكرية المشروعة فقط، وأنها فتحت معابر إنسانية على "ممر لاتشين" لإجلاء المدنيين الأرمن، ونقاط استقبال على هذا الطريق واتجاهات أخرى لضمان إجلاء السكان من المنطقة الخطرة، متعهدة بتوفير المساعدة الطبية وغيرها من المساعدات الضرورية للنساء والأطفال والمسنين والمعاقين جسدياً والمرضى، كما سيتم تلبية احتياجاتهم من مياه الشرب والغذاء.
وبدا واضحاً في مواجهة بعض المزاعم الأرمينية والإعلامية الغربية عن احتمالات وقوع تطهير عرقي أن باكو تريد توصيل رسالة بأن أرمن الإقليم هم مواطنون أذربيجانيون، وألمحت إلى رغبتها في فتح صفحة جديدة معهم يكونون فيها جزءاً من الشعب الأذربيجاني.
سنضمن جميع حقوق أرمن "قره باغ" فهم مواطنونا رغم المظالم التي لحقت بنا
وقال الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إن السكان الأرمن في ناغورنو قره باغ سيشهدون قريباً تغييراً نحو الأفضل، لأن نيتنا هي بناء حياة معاً على أساس السلام والتفاهم والاحترام المتبادل.
وأضاف: "سنضمن جميع حقوق أرمن "قره باغ"، ولم ولن يكون هناك تمييز ديني وقومي في أذربيجان"، مشيراً إلى أن العالم أجمع بما في ذلك الإدارة الأرمينية يعلم أن "قره باغ" أراض أذربيجانية.
وأوضح أنه أصدر تعليمات لجميع القوات قبل العملية لمنع تعرض السكان الأرمن في "قره باغ" للضرر.
وأضاف: "كما صدرت تعليمات بعدم إطلاق النار على البنية التحتية المدنية. الاحترافية والقدرات الفنية التي يتمتع بها جيشنا مكنتنا من إنجاز هذه المهمة بطريقة مشرفة".
وأضاف: "الأرمن في قره باغ سيتنفسون الصعداء بعد اليوم، فهم مواطنونا وليس بيننا وبينهم عداوة واتهاماتنا موجهة لقادة النظام الإجرامي في الإقليم".
ولفت إلى أنه "رغم كل المظالم وجميع الجرائم التي ارتكبها النظام الإجرامي، فإننا لم نلُم الشعب الأرمني أبداً، واتهاماتنا موجهة لعناصر النظام العسكري وقادته، وسوف نقدمهم إلى العدالة، ونال بعضهم بالفعل العقوبة التي يستحقونها، وسينالها آخرون".
رئيس أرذبيجان يتعهد بإجراء انتخابات بلدية ومنع التمييز الديني
وتعهد علييف بضمان أذربيجان جميع حقوق أرمن "ناغورنو قره باغ" مثل التعليم والثقافة الانتخابات البلدية.
وزاد: "لم ولن يكون هناك تمييز ديني وقومي في أذربيجان. مستعدون لتنفيذ برامج اجتماعية مختلفة. لقد نشأت فرصة جديدة للمواطنين الأرمن الذين يعيشون في قره باغ، وعليهم ألا يفوتوها".
ولفت إلى مقتل أكثر من 300 مواطن إثر انفجار ألغام زرعتها قوات أرمنية منذ انتهاء حرب "قره باغ" في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وأشار الرئيس الأذربيجاني إلى حدوث بعض الانتهاكات بعد إعلان وقف إطلاق النار.
وقال: "بدأت عملية مغادرة الجماعات المسلحة الأرمنية غير الشرعية مواقعها وتسليم أسلحتها".
وأشار إلى أن الجيش الأذربيجاني قدم شهداء في العملية التي نفذتها لمكافحة الإرهاب.
وشدد الرئيس الأذربيجاني على أن ظهور وضع جديد في المنطقة أمر لا مفر منه.
ما هو موقف أرمينيا؟
الأمر اللافت فيما يحدث هو موقف أرمينيا، فرغم صدور بعد التصريحات الأرمينية عن تطهير عرقي أذربيجاني محتمل بحق الأرمن (وهو ما لم يحدث)، سرعان ما بدا أن رد فعل الحكومة الأرمينية أقل حدة من المتوقع، على الأقل سياسياً وإعلامياً.
وتطرق رئيس أذربيجان إلى موقف حكومة يريفان من العملية الأذربيجانية في "قره باغ" وقال: "أرمينيا أبدت كفاءة سياسية غير متوقعة أمس واليوم ونحن نقدر هذا الأمر ونعتبره عاملاً مهماً".
وأضاف: "ما حدث اليوم سيكون له أيضاً تأثير إيجابي على عملية السلام بين أرمينيا وأذربيجان.
وأكمل: "آمل أن تتيح الخطوات التي اتخذناها ونتائج العملية إمكانية إزالة العقبة أمام مفاوضات السلام بشكل نهائي. وهذا من شأنه إيجاد واقع جديد وسلام طويل الأمد في منطقة جنوب القوقاز التي نقترح أن يقوم مستقبل دولها على أساس السلام والاستقرار والتنمية".
وخلال الأشهر الماضية بدا أن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان يميل لإبرام تسوية مع أذربيجان وحليفتها الأقرب لتركيا، ولمح إلى إمكانية موافقة بلاده على فتح ممر زنغزور للربط بين أراضي أذربيجان الرئيسية وإقليم ناختشيفان الأذري، المتمتع بالحكم الذاتي التابع لها، والمفصول عنها بالأراضي الأرمينية، ثم عاد وحاول المماطلة، في مؤشر على أنه يريد تسوية ولكن يخشى المتطرفين الأرمن.
وفتح ممر زنغزور هو من ضمن بنود الاتفاق بين البلدين الذي أُبرم بوساطة روسية لإنهاء حرب عام 2020، ولكنْ هناك اختلاف على تفسير طبيعة الممر، وتلحّ باكو وأنقرة لفتح هذا الممر الذي سيوفر فرصةً للربط المباشر ليس فقط بين أذربيجان وأراضيها في إقليم ناختشيفان الأذري، بل يربط بشكل مباشر بين تركيا وأذربيجان، ومنها إلى آسيا الوسطى عبر بحر قزوين، أي أنه يفتح الباب لتنفيذ ما يُعرف بالممر الأوسط، الذي يربط بين آسيا، بما في ذلك الصين، وبين أوروبا عبر تركيا والقوقاز، دون المرور بإيران في الجنوب، أو روسيا في الشمال، ويفتح الباب لتوسيع آفاق التجارة، خاصةً الغاز والنفط اللذين تحتاجهما أوروبا.
وحثّ الرئيس التركي خلال الأشهر الماضية خاصةً بعد التضامن الأرميني مع بلاده في مواجهة كارثة زلزال فبراير/شباط 2023، على السلام مع أذربيجان، وما يتضمنه ذلك من تحسن في علاقات أنقرة ويريفان، وهو أمر مهم للأخيرة، التي سيؤدي فتحه بينها وبين تركيا إلى تحسين اتصالها مع أوروبا.
أوروبا تحتاج للسلام في القوقاز
قلوب الأوروبيين مع أرمينيا وعقولهم مع أذربيجان، فلطالما كان الأرمن حلفاء القوى الاستعمارية الأوروبية إضافة لروسيا، في مواجهة تركيا وغيرها من الدول الإسلامية في المنطقة، ولكنهم منذ استقلال أذربيجان باتوا في حاجة لمواد الطاقة الأذرية.
ولكن الأوروبيين رغم حاجتهم للنفط والغاز الأذربيجاني، وبالتالي الاستقرار، يسيطر عليهم خطاب ديموغاغي مؤيد للأرمن المسيحيين ضد الأذربيجانيين المسلمين، ويظهر في التكهنات- بلا أساس- حول وجود احتمال لأعمال تطهير عرقي بحق الأرمن، رغم أنهم هم مَن مارسوا التطهير العرقي بحق الأذربيجانيين، كما يتم تجاهل الاستفزازات الأرمينية.
وكان احتمال تجدد الحرب في القوقاز يمثل انتكاسة استراتيجية ودبلوماسية كبرى للاتحاد الأوروبي، الذي ظل يتودد إلى أذربيجان باعتبارها حليفاً ومورداً بديلاً للغاز لروسيا.
قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بزيارة رسمية إلى أذربيجان، في يوليو/تموز الماضي، في محاولة لتأمين زيادة صادرات الغاز الطبيعي. ووصفت البلاد بأنها "شريك موثوق وجدير بالثقة"، ووقَّعت هي والرئيس إلهام علييف مذكرةَ تفاهم بشأن زيادة التعاون الاقتصادي.
ويعلم الأوروبيون أنه من تجربة حرب 2020، أن أذربيجان في القرن الحادي والعشرين غير أذربيجان التسعينيات، التي هُزمت من قِبل أرمينيا المدعومة بأموال وأسلحة الجاليات الأرمينية الكبيرة في الغرب.
ولكن اليوم أذربيجان دولة مستقرة (عكس أرمينيا)، عدد سكانها يعادل نحو ضعف سكان أرمينيا، ولديها إنتاج غزير من النفط والغاز، جعل ميزانيتها العسكرية تقارب إجمالي ميزانية يريفان، وهي مدعومة بالحليف التركي الذي يعتبر باكو شقيقته القومية الأقرب، وهو لديه صناعة أسلحة ذات كفاءة، وجيش محترف قادر على تقديم النصح والتدريب لنظيره الأذربيجاني كما ظهر في حرب 2020.
بينما المسار التصعيدي سيجعل أرمينيا تقترب لإيران، خصم الغرب، في ظل ميل روسيا للحياد في الصراع بدلاً من انحيازها السابق ليريفان.
روسيا وأمريكا تتنازعان في كل الملفات، ولكن يبدو أنهما تتفقان في القوقاز
ويبدو أن أمريكا تتخذ موقفاً مماثلاً، فرغم مناكفاتها مع تركيا، شريكتها في حلف الناتو، وميلها الديني والتاريخي لأرمينيا في مواجهة أذربيجان المسلمة، فإن الأخيرة تمثل أهمية كبيرة لواشنطن، في ظل قلق طهران من صعود أذربيجان، الذي ترى أنه قد يؤثر سلباً عليها، لوجود أقلية أذربيجانية كبيرة في إيران.
وأعرب المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، مساء أمس الأربعاء، عن أمله في أن يؤدي التوصل إلى وقف إطلاق للنار في إقليم قره باغ الأذربيجاني إلى "تجنب المزيد من العنف، وعدم تدهور الوضع الإنساني".
وقال: "أكدنا مراراً أن استخدام القوة غير مقبول على الإطلاق، ويتعارض مع الجهود الرامية إلى تهيئة الظروف للسلام في المنطقة".
وفي ظل تركيز الأمريكيين والغرب عامة على منافستهم مع إيران وروسيا، وتراجع المناكفات مع تركيا، بل حلت محلها مساحة كبيرة من التفاهم، فإن الأمريكيين والأوروبيين على السواء من مصلحتهم الوصول لتسوية معقولة في القوقاز.
هناك مؤشرات على أن وقف إطلاق النار الذي أُبرم بوساطة روسية مقبول أمريكيّاً!
بما أن أذربيجان مدعومةً بتركيا لن تقبل تسوية دون استعادة أراضيها في ناغورونو قره باغ، فإن من الواضح أن هناك توافقاً ما على تسوية تقضي بالسماح باستعادة أذربيجان للإقليم، على أن تكون هناك طمأنة لسكانه الأرمن بالحفاظ على حقوقهم الدينية والثقافية، ولم يتضح بعدُ هل يشمل ذلك شكلاً من أشكال الحكم الذاتي بالإقليم أم لا.
ولكن الأكثر إثارةً للاستغراب أن الغرب يبدو أنه قبِل أن يتم هذا السيناريو بوساطة روسية، فلقد رحّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاتفاق المبرم (لوقف إطلاق النار) بمشاركة فعالة من قوات حفظ السلام الروسية، وقال إن المفاوضات التي انطلقت اليوم تُجرى بوساطة قيادة قوات حفظ السلام الروسية.
وخلال اتصاله مع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أمس الأربعاء، أشار الرئيس الروسي إلى إمكانية تجاوز "المرحلة الحادة من النزاع".
وأوضح أن قوات حفظ السلام الروسية تُواصل أداء مهامها الموكلة إليها، وتقديم المساعدات للسكان المدنيين.
نجاح للاستراتيجية التركية الأذربيجانية.. يدٌ تقاتل وأخرى ممدومة بالسلام
من الواضح أن هذا التطور جاء بفضل الاستراتيجية الأذربيجانية والتركية الحازمة والمرنة، والتي بدأت بتغيير الأوضاع على الأرض ميدانياً عبر الهزيمة العسكرية لأرمينيا في حرب 2020، والتلويح لأرمينيا بالسلام والضغط عليها مؤخراً، عبر فرض قيود على التنقل عبر "ممر لاتشين"، الذي يربط ناغورنو قره باغ بأرمينيا.
وفي الملف الدولي، حافظ البلدان على علاقة متوازنة توازناً دقيقاً مع روسيا والغرب، فأصبحت تركيا لا غنى لها للطرفين، فهي مَنفذ روسيا الرئيسي تجاه الغرب بعد فرض أوروبا وأمريكا حصاراً عليها، بينما يحتاجها الغرب في ملف الوساطة في الأزمة الأوكرانية وصفقة حبوب البحر الأسود، وكذلك في دورها في تطبيق اتفاق مونترو، الذي يمنع دخول السفن الحربية بما فيها الروسية إلى البحر الأسود، وكذلك بعض المساعدات العسكرية التي مازالت تقدمها لكييف.
أذربيجان بدورها مهمة بشدة للغرب، بسبب مواردها من الطاقة، ومجاورتها لإيران، وموقعها على مدخل آسيا الوسطى، واستقلالها النسبي عن روسيا، ولكن باكو حافظت في الوقت ذاته على علاقة جيدة مع موسكو بما في ذلك التجارة.
في المقابل، تتخبط أرمينيا بين حقائق الواقع العسكري التي تدفعها نحو السلام، وتطرّف القوميين الذين يريدون حرباً مع أذربيجان لا قِبل لهم بها، وكذلك بين اعتمادها التقليدي على روسيا في وقت لم تدعمها موسكو عسكرياً، سواء بسبب رغبتها في الحفاظ على العلاقة مع أذربيجان، أو رغبتها في معاقبة يريفان على ميلها المستجد للغرب، وهو الميل الذي لن يكون كافياً لدعمها عسكرياً في مواجهة باكو.
بالنسبة لموسكو، رغم أن الاتفاق في القوقاز قد يفتح الباب لمزيد من صادرات الطاقة من أذربيجان وآسيا الوسطى لأوروبا تنافس صادراتها، ولكنه يظل اتفاقاً تم بوساطتها، ويحفظ مكانتها كعرّاب وراعٍ للمنطقة، حتى لو تزايد دور الغرب، كما أنه اتفاق يتم بالتنسيق مع تركيا، شريكها المهم الذي رفض فرض العقوبات عليها، بل عزّز علاقته الاقتصادية والسياسية معها رغم إدانته الواضحة للغزو الروسي لأوكرانيا.
اتفاق يشبه تسويات روسيا وتركيا في ليبيا وسوريا
يشبه الاتفاق المحتمل في القوقاز تسويات جزئية تمت بين روسيا وتركيا في القوقاز، في عام 2020، وفي سوريا وليبيا، كانت فيها الدولتان تدعمان أطرافاً متصارعة، ثم سرعان ما يتم التوصل لاتفاقات جزئية تضمن نفوذ الطرفين، وتحقق استقراراً جزئياً على الأقل.
ولكن يبدو من الوضع الجديد في ناغورونو قره باغ أن التسوية المحتملة قد تكون أكثر عمقاً وديمومة، وأنها قد تفضي لترتيبات لحفاظ الأرمن على حقوقهم الثقافية والدينية في ناغورونو قره باغ مقابل استعادة باكو لسيادتها الكاملة عليه.
ومن الواضح أن التسوية المحتملة ستتم بوساطة روسية ودور تركي، وقد يكون هناك دور أمريكي وأوروبي غير معلن، ولكن اللافت فيها أنه يظهر منها أنها لن تسمح على الأرجح بدور خارجي كبير، يجعل من الإقليم دويلة داخل أذربيجان، وأن التركيز سيكون على منح الأرمن حقوقهم الدينية والثقافية، وقد يكون حكماً ذاتياً، ولكن دون وجود قوة عسكرية انفصالية غير خاضعة لسلطة باكو، عكس الوضع في مناطق مثل كردستان العراق أو كوسوفو أو البوسنة والهرسك، حيث تتمتع المجموعات الإثنية بوضعية مستقلة فعلياً داخل الدولة المركزية.
وقد تكون إيران أكبر خاسر من هذه التطورات، التي ستؤدي لصعود القومية الأذربيجانية العلمانية المتحالفة مع تركيا، مع دور أكبر لأنقرة التي ستتحسن علاقتها بأرمينيا، ودور أكبر للغرب، واحتمال انسياب التجارة العالمية عبر أذربيجان وأرمينيا إلى تركيا، ومنها لأوروبا، بعيداً عن أراضيها.
إن تمت هذه التسوية قد تكون تسوية نادرة تظهر أنه بالإمكان تسوية قضايا أكبر مثل الأزمة الأوكرانية.