حوَّل التاريخ والموقع الاستراتيجي بين الشرق والغرب النمسا إلى "بؤرة ساخنة" للتجسس منذ فترة طويلة، وكذلك عاصمة دولة محايدة حيث يمكن للجواسيس ممارسة أعمالهم وفي الوقت نفسه الإفلات نسبياً من العقاب، وحيث يمكن تبادل أولئك الأسرى من كل جانب كما يقول بيتر غريدلينغ، الذي كان رئيساً لجهاز المخابرات النمساوي.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة، يعتقد رئيس المخابرات النمساوي السابق أنَّ "عدة مئات" من الجواسيس ومعظمهم من الروس، ما زالوا متمركزين في المدينة، معظمهم تحت غطاء دبلوماسي، على الرغم من أنَّ فيينا قد تخلت في السنوات الأخيرة عن مكانتها كعاصمة للتجسس في أوروبا لصالح بروكسل، مما يعكس القوة المتنامية للاتحاد الأوروبي.
لماذا يحب الجواسيس الروس النمسا؟
تقول صحيفة The Times البريطانية، إن الروس ظلوا إلى حد بعيدٍ المجموعة الأكبر من الجواسيس المتخفين في النمسا. لكن غريدلينغ يشعر بالقلق من أنَّ الكرملين قد يستعد لكسب حليف محتمل في الداخل: وهو حزب الحرية اليميني المتطرف الموالي لروسيا، الذي كان يتصدر استطلاعات الرأي، العام الماضي ويستعد للانضمام للحكومة -أو حتى قيادتها- بعد الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول من العام المقبل.
وقال غريدلينغ للصحيفة البريطانية: "في النظم الديمقراطية، يجب قبول كل نتيجة انتخابية، وحزب الحرية النمساوي حزب قانوني في النمسا ويتمتع حالياً بنسبة تأييد كبيرة جداً تبلغ 30%. لكن التجارب التي مررت بها في منصبي جعلتني أفكر: هل يمكنك أن تثق بهذا الحزب في ما يتعلق بالأمن؟ أنا الآن متقاعد لكني أشعر بالقلق بصفتي مواطناً، وأرى أنه ينبغي على المجتمع النظر بعناية شديدة إلى من يشغل كل وزارة وماذا سيحدث فيها".
وتستند مخاوف غريدلينغ إلى بداية عام 2017 التي كان فيها حزب الحرية عضواً صغيراً في ائتلاف تحت قيادة المستشار آنذاك سيباستيان كورتس، زعيم حزب الشعب النمساوي من يمين الوسط. وكان وزير الداخلية آنذاك -رئيس غريدلينغ- هو هربرت كيكل، وهو عضو بارز في حزب الحرية الذي صار منذ ذلك الحين زعيم الحزب.
معلومات محجوبة واختراق كبير
في كتاب جديد بعنوان "Surprise Attack- هجوم مفاجئ"، أعرب غريدلينغ، الذي كان يدير سابقاً وحدة مكافحة الإرهاب في اليوروبول (وكالة الشرطة الأوروبية)، عن فزعه من قرار كورتس منح حزب الحرية وزارة حساسة مثل وزارة الداخلية؛ نظراً إلى المخاوف القديمة بشأن "قربه من روسيا" و"دوره في نشر الدعاية الروسية".
وقد تأكّد هذا التقارب في ديسمبر/كانون الأول 2016 عندما سافر قادة الحزب إلى موسكو للتوقيع على اتفاقية عملٍ مدتها خمس سنوات، مع حزب روسيا المتحدة الموالي للكرملين. وجاء دليل آخر غريب على روابط الحزب مع الكرملين في أغسطس/آب 2018، عندما سافر الرئيس بوتين إلى النمسا ليكون ضيف شرف في حفل زفاف كارين كنيسل، التي عيّنها الحزب وزيرة للخارجية.
وقال غريدلينغ بشيء من التهوين: "كان من المفاجئ لنا أن يأتي الزعيم الروسي بنفسه إلى هنا". وأعلنت كنايسل الأسبوع الماضي، أنها انتقلت إلى مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، حيث شحنت متعلقاتها على متن طائرة نقل عسكرية روسية.
ومدفوعاً بالقلق، واصل غريدلينغ التحقيق في أنشطة الحزب، التي شملت روسيا وعلاقاتها مع الجماعات اليمينية المتطرفة في الداخل، أثناء وجوده في الحكومة. إضافة إلى ذلك، حجب مواد حساسة عن هربرت كيكل، وفي مارس/آذار 2018، رد كيكل بإيقاف رئيس المخابرات عن العمل بعد مداهمة غير مسبوقة للشرطة على مقر وحدة مكافحة الإرهاب. وأمرت المحكمة في وقت لاحق بإعادة غريدلينغ إلى منصبه.
وبسبب انزعاج وكالات الاستخبارات في الدول الغربية الأخرى، ومن بينها جهاز المخابرات الداخلية البريطاني، مما يحدث في النمسا، بدأت هذه الوكالات في حجب المعلومات؛ بسبب ما يقول غريدلينغ إنه الخوف "من أننا سنعجز عن توفير الحماية الملائمة لها، وقد ينتهي الأمر بهذه المعلومات في أيدي الآخرين"، خاصةً روسيا.
وكان من الصعب معرفة طبيعة المعلومات المحجوبة على وجه التحديد. وأشار إلى أنه "عندما يتعلق الأمر بالتعاون الاستخباراتي، ليس هناك أي التزام بإخبار الشريك بكل شيء". لكن كان من الواضح تراجع كمية المعلومات الاستخباراتية التي تتبادلها الدول الغربية مع النمسا.
فضيحة "بوابة إيبيزا"
وفي مايو/أيار 2019، خرج حزب الحرية من الحكومة بعدما وقع رئيسه آنذاك، هاينز كريستيان شتراخه، في فخ "ابنة الأخت" المزيفة لأحد أفراد الأوليغارشية الروسية، الذي بدا أنه يؤكد قرب علاقات الحزب مع موسكو. وأُطلِق على هذه الفضيحة اسم "بوابة إيبيزا" نسبة إلى الجزيرة التي حدثت فيها تلك الفضيحة.
من ناحية أخرى، يواصل جواسيس العالم استغلال ما سماه غريدلينغ مع الأسف "الوضع القانوني الضعيف نسبياً لمكافحة الأنشطة الاستخباراتية" في النمسا، وهو نتاج المساعي التي طال أمدها للحياد بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من تشديد قواعد وعقوبات التجسس مؤخراً، فإنها لا تزال ضعيفة مقارنة بتلك الموجودة في الدول الأوروبية الأخرى.
وأوضح غريدلينغ: "نادراً ما يصل الأمر إلى إجراءات قانونية أو اعتقالات"، مشيراً إلى أنه خلال فترة وجوده في منصبه لم تكن هناك سوى ثلاث أو أربع حالات استثنائية من هذا القبيل. وعادةً ما تُحَل الأمور بـ"تكتم"، حيث يُبلّغ المشتبه به أنه شخص غير مرغوب فيه ويجب عليه المغادرة بهدوء.
وأضاف غريدلينغ: "الأمر محبط في بعض الأحيان، لأننا نتعرض لضغوط من الخارج لبذل مزيد من الجهد، لكن إذا كان النظام القانوني لا يسمح لك، فعليك إما أن تتعايش معه وإما أن تغير هذا النظام. وقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى أنه يتعين علينا تغيير القوانين للعمل بمزيد من النجاح، لكن بالطبع، يتأخر ذلك في الحدوث".
ومع ذلك، لا يمنع هذا خلفاءه من الاستمرار في مراقبة تحركات الجواسيس. وقال غريدلينغ: "إنها مهمة مختلفة تماماً، وما زالت تُنفَذ بأقصى جهد ممكن".