الوجه الآخر للمصيبة في ليبيا.. هل تنجح كارثة فيضان درنة فيما فشلت فيه السياسة؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/15 الساعة 12:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/15 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
أقمار صناعية تلتقط صورة سد بالقرب من درنة-ليبيا / رويترز

"هناك حالة من الوحدة والتعاضد نسجها الليبيون في هذه المحنة، رغم مأساوية الوضع وحجم الكارثة"، فهل تنجح كارثة فيضان درنة فيما فشلت فيه السياسة في ليبيا؟

كانت مدينة درنة في شرق ليبيا قد شهدت كارثة مروعة مطلع الأسبوع، عندما انهار سدان تحت وطأة السيول والفيضانات الناجمة عن إعصار دانيال، حيث تدفقت كمية ضخمة من المياه جرفت في طريقها أحياء بأكملها مساء الأحد، 10 سبتمبر/أيلول، ليفقد الآلاف حياتهم، وسط تباين حاد في أرقام الضحايا حتى الآن.

لكن في الوقت الذي قسّم فيه الصراع السياسي ليبيا إلى شرق وغرب خلال أكثر من 10 سنوات، يبدو أن فيضانات درنة قد جاءت لتجرف النَزعات الجهوية والقبلية، ولتكشف عمق الترابط الاجتماعي والوجداني بين أبناء الوطن الواحد.

محنة درنة.. هل تتحول إلى منحة لتوحيد ليبيا؟

تجلى هذا التلاحم في المساعدات التي جمعها سكان وهيئات وحتى كتائب المدن الغربية لنقلها إلى إخوانهم في الشرق، بعدما كان الليبيون بالأمس القريب لا يلتقون إلا في ساحات المعارك.

فرغم حقول الألغام، ووجود مقاتلين متربصين على الطرف الآخر من الجبهة، وحكومتان تتنازعان الشرعية، فإن ذلك لم يمنع مدن المنطقة الغربية من إطلاق قوافل المساعدات إلى مدينة درنة (1350 كلم شرق طرابلس) غير آبهين بالخطوط الحمراء الموضوعة أمامهم، وتعقيدات الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية (القبلية).

وفي هذا الصدد، جاء تصريح وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي: "هناك حالة من الوحدة والتعاضد نسجها الليبيون في هذه المحنة، رغم مأساوية الوضع وحجم الكارثة".

وكشف اللافي، في مؤتمر صحفي بطرابلس، الخميس، 14 سبتمبر/أيلول، أنه "ستكون هناك حملة إعلامية موحدة، وبث موحد ومشترك، عبر 9 قنوات تلفزيونية عامة وخاصة، وعشرات الإذاعات ومواقع التواصل، للتضامن مع أهلنا في درنة والجبل الأخضر"، بحسب تقرير للأناضول.

وكان البعض يتوجّس من أن تمنع قوات الشرق التي يقودها خليفة حفتر، قوافل المساعدات القادمة من مدن الغرب الليبي من اجتياز خط "سرت – الجفرة" الأمني، لكن وفق مصادر رسمية، فإن عدة قوافل تمكنت من الوصول إلى الشرق وشرعت في عمليات الإغاثة، رغم التشديد الأمني، الذي يعيق تدفق المساعدات بالسرعة المطلوبة.

ليبيا
آثار إعصار ليبيا في مدينة درنة/ الأناضول

وفي هذا الإطار، نشرت منصة "حكومتنا"، التابعة لحكومة الوحدة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فيديو يظهر وصول قوافل الدعم التابعة للشركة العامة للكهرباء بالعاصمة طرابلس إلى مدينة أجدابيا (750 كلم شرق طرابلس) متجهة نحو مدن الجبل الأخضر، لمساندة فرق الصيانة في عملها لإعادة الشبكة الكهربائية إلى المناطق المنكوبة.

كما أعلنت وزيرة الشؤون الاجتماعية وفاء الكيلاني، عبر منصة "حكومتنا"، وصول قوافل مساعدات واحتياجات عاجلة للأسر إلى المناطق المتضررة من السيول في شرق البلاد، الأربعاء، أرسلتها الوزارة.

إلياس الخبولي، وهو متطوع من الزاوية في غرب البلاد وعضو في جماعة بالتريس الناشطة، قال لرويترز: "قلنا لأنفسنا سيكون هناك بكل تأكيد نقص في الأيدي العاملة من أجل التحميل والتفريغ والقيادة أو أي أمور أخرى".

واستأجرت الجماعة حافلات وسيارات فان لنقل أكثر من 100 متطوع من مناطق في غرب ليبيا إلى مدينة درنة في الشرق في وقت مبكر من صباح يوم الإثنين في رحلة استغرقت 15 ساعة، وبدأت حتى قبل اتضاح حجم المأساة بالكامل.

الشعب الليبي يهبّ لنجدة درنة المنكوبة

لم يقتصر إرسال المساعدات على حكومة الوحدة في طرابلس، بل تداعت عدة مدن في المنطقة الغربية لإرسال إغاثات لدرنة والمناطق المتضررة من الفيضانات، وفتح بيوتهم للنازحين والأيتام.

وفي تدوينة له على فيسبوك، علق رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، على توافد العشرات من الشباب الليبي لمساندة وإغاثة أهالي المناطق المنكوبة، قائلاً "دون تردد أو تعذر؛ تنادوا من كل صوب لغوث إخوانهم بما يستطيعون، ليشاركوهم محنتهم ويأخذوا بأيديهم ما استطاعوا. مصابنا واحد وشعبنا واحد يتداعى بعضه لبعض بالتضحية والفداء".

فبعد أن كان سكان الغرب يتنادون بـ"الفزعة" لتجميع المقاتلين لمواجهة القوات القادمة من الشرق، ها هم اليوم يتنادون بـ"فزعة خوت" لجمع المساعدات كل بما يستطيع لنقلها إلى إخوانهم في الشرق.

فمن مصراتة إلى طرابلس والزاوية وصبراتة وغريان وبني وليد وترهونة يتداعى الشباب للمشاركة في عمليات الإنقاذ و"الفزعة"، بعضهم يعرض شاحنته لنقل المساعدات عليها مجانا، والآخر يتبرع بالوقود، ونساء يبعن حليهن الذهبية للتبرع بها، وآخر يساهم بشرائح هاتفية للمنكوبين، ومن يعرض إيواء المصابين القادمين للعلاج في مدن الغرب.

وقال شهود عيان في طرابلس لموقع "عربي بوست" إن أرتالاً من السيارات المحمَّلة بالمواد الإغاثية – من أغذية وإسعافات أولية وأغطية وغيرها – تتحرك من الساحات ومن أمام المساجد في العاصمة متوجهة نحو درنة، ومصحوبة بمئات الشباب المتطوعين للمساعدة وإغاثة إخوانهم في الشرق.

وفي الوقت نفسه، أرسل كل من اللواء 444، بقيادة العقيد محمود حمزة، وقوات الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، قافلتي مساعدات، إحداها تحمل أكفاناً، بسبب نقصها لكثرة قتلى الفيضان، بحسب ناشطين إعلاميين.

وتكمن المفارقة في أن الكتيبتين خاضتا قبل أسابيع قتالاً عنيفاً في طرابلس، وقبلها شاركت عناصرهما في التصدي لقوات حفتر، عندما هاجمت العاصمة (2019-2020)، لكنهما اليوم يفزعان معاً لنجدة مدينة خاضعة لعدوهما السابق.

وليس مؤكداً إن كانت قوات حفتر سمحت للقافلتين بالعبور إلى شرق البلاد، أو أنها تسلمت منهما الإعانات عبر خط سرت الجفرة، ولكن مجرد المبادرة والتنافس على مساعدة "عدو الأمس"، يعكس أن جداراً سميكاً من الخلافات يوشك أن ينهار أمام فيضان الأخوة والتآزر في المحن.

رويترز/ آثار العاصفة دانيال التي اجتاحت ليبيا
رويترز/ آثار العاصفة دانيال التي اجتاحت ليبيا

فخط سرت الجفرة، الذي سُمي بـ"الخط الأحمر"، لمنع كتائب الجيش الليبي في المنطقة الغربية من التقدم نحو الشرق بعد انهيار هجوم قوات حفتر في 4 يونيو/حزيران 2020، سرعان ما تحول إلى ما يشبه جدار برلين، ويفصل المنطقتين الشرقية والغربية عن بعضهما البعض.

ورغم اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وتشكيل لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، الذي كان من بين مهامها فتح الطرق بين الشرق والغرب، وإزالة الألغام، لكن ذلك لم يحدث إلا في حالات استثنائية، على غرار اجتماع اللجنة العسكرية نفسها في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، أو اجتماع نادر لمجلس النواب بعد إعادة توحيده في سرت في عام 2021.

لكن ما كان استثنائياً، يكاد يصبح واقعاً، بفضل قوافل المساعدات من الغرب إلى الشرق والنازحين من الشرق إلى الغرب.

هل اقتربت الوحدة الحقيقية في ليبيا؟

لكن الأمر ليس مثالياً تماماً، وهناك أصوات تتعالى منتقدة العراقيل التي تضعها قوات حفتر أمام قوافل المساعدات، والتي تتعرض لتفتيش أمني دقيق.

تيم إيتون، من تشاتام هاوس، قال لرويترز: "هناك إلى حد ما استعداد أكبر للتعاون أكثر مما رأيت في أي وقت مضى خلال العقد المنصرم". لكن الشكوك ما زالت قائمة. وليس هناك أي مؤشرات على أن سحابات الحزن التي تخيم على أرجاء البلاد والشعور المشترك بفداحة المأساة سيترتب عليه تخفيف حدة الأزمة السياسية الخانقة القائمة في ليبيا منذ أكثر من عام، والتي جعلت إجراء انتخابات عامة مهمة مستحيلة.

وقال مصدر في مجال الإغاثة إن السلطات في الشرق منعت تدفق مساعدات أجنبية لدرنة عبر الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس التي ترفض إدارة الشرق مشروعيتها. ونفى مصدر في إدارة شرق البلاد ذلك، وقال إنها لم ترفض توجيه المساعدات عبر طرابلس.

ويحذر محللون من أن الزعامات السياسية ربما تسعى لاستغلال الشعور العام بالوحدة في البلاد بسبب الكارثة، وتتخذ مواقع تمكنها من الاستفادة من أي أموال للتنمية على المدى الطويل. وتركز الصراع في ليبيا عادة على السيطرة والوصول للموارد المالية للدولة.

وقال إيتون: "عندما يبدأ الحديث عن كل الأمور المتعلقة بإعادة الإعمار والدعم المالي، فهذا سيوسع كل الصدوع القائمة في ليبيا".

إلا أن مجرد عبور قوافل الإغاثة الجدار الأحمر، ووصولها إلى مناطق تبعد عن طرابلس بمئات الكيلومترات يُعد اختراقاً لجدار الانقسام الجغرافي والاجتماعي والأمني، والذي أراد له البعض أن يكون سياسياً أيضاً، بمعنى انفصال للشرق عن الغرب.

ليبيا
صورة متداولة عبر منصات التواصل في اليبيا تعكس الوحدة بين الغرب والشرق/ وسائل التواصل

فما حققه فيضان درنة من كسر لجدار الانقسام، لم تتمكن من تحقيقه لجنة 5+5 العسكرية لنحو 3 سنوات من تشكيلها. والصفوف الطويلة من الشاحنات التي تنتظر للدخول إلى درنة تظهر أن التبرعات تصل من كل أنحاء البلاد، فيما وصفه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأنه "موجة من الدعم على مستوى البلاد… اجتاحت أنحاء ليبيا".

قد لا يحل هذا التضامن بين الإخوة أزمات البلاد السياسية والأمنية، ولكنه يذكر الليبيين بأن إمكانية اجتماعهم ببعض وتوحدهم ليس أمراً مستحيلاً، وأن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم.

والأمر لم يقتصر فقط على الليبيين في تضامنهم مع بعضهم البعض في محنتهم، بل إن دولاً مثل تركيا والجزائر وتونس كانت سباقة بإرسال فرق للإغاثة. وكان المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، حذّر من أن "التحقيقات ستشمل كل مَن قام بتعطيل جهود الاستغاثة الدولية أو وصولها للمدن المنكوبة".

وتوجد عدة فرق للبحث والإنقاذ من تركيا والجزائر وتونس وبلدان أخرى في درنة، ولديها من الخبرة والوسائل ما يؤهلها للوصول إلى أحياء وإنقاذهم قبل فوات الأوان، وتقديم العون والمشورة في إدارة هذه الأزمة، خاصة ما تعلق بانتشال الجثث ودفنها، ومكافحة الأوبئة الناتجة عن الفيضان وتداعياته، وإيواء المنكوبين، وتوفير الغذاء والعلاج والعناية النفسية بهم.

والرسالة المستخلصة من مشاركة هذه الدول في عمليات الإنقاذ بالشرق الليبي أن الواجب الإنساني يعلو على أي خلاف سياسي. ومن شأن الشعب الليبي بفطنته أن يحول محنة الفيضانات إلى منحة للسلام والتآزر، لتجاوز الأزمات السياسية كما الطبيعية.

تحميل المزيد