منذ أن وقع الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس النيجر المنتخب ديمقراطياً في أواخر يوليو/تموز، بقي أكثر من ألف جندي أمريكي محصورين إلى حد ما في مواقعهم العسكرية في النيجر، ومنها أكبر قاعدة أمريكية للطائرات من دون طيار في المنطقة، "القاعدة الجوية 201" في منطقة أغاديس.
أنفقت الولايات المتحدة على "القاعدة الجوية 201" نحو 250 مليون دولار منذ أن بدأت أعمال الإنشاء بها في عام 2016، وهي مركز المراقبة الأمريكي الرئيسي في غرب أفريقيا. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الجنرال الأمريكي مايكل لانغلي، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، زعم في شهادته أمام لجنتي شؤون القوات المسلحة بمجلسي النواب والشيوخ في مارس/آذار، أن هذه القاعدة العسكرية "صغيرة" المساحة، و"قليلة التكلفة"، بحسب تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
تضليل الكونغرس
علاوة على ذلك، أخبر لانغلي الكونجرس عن مركزين فقط من مراكز العمليات المتقدمة "الدائمة" للولايات المتحدة في أفريقيا: معسكر "ليمونيه" في جيبوتي، ومركز لوجيستي قديم في جزيرة أسنسيون في جنوب المحيط الأطلسي. وقال في شهادته المعدة سلفاً: "تعمل أفريكوم أيضاً من 12 موقعاً آخر في جميع أنحاء أفريقيا. هذه المواقع لديها الحد الأدنى من الحضور الأمريكي الدائم، ولديها مرافق قليلة التكلفة، وإمدادات محدودة للجنود الأمريكيين المتفانين في استعدادهم لأداء المهام الحرجة، والمتأهبين للاستجابة بسرعة لحالات الطوارئ".
في المقابل، يقول خبراء إن لانغلي ضلل الكونجرس بتقليله من حجم الانتشار الأمريكي ونطاقه في أفريقيا. فقد كشفت البيانات الواردة في وثيقة عرضٍ سرية لانتشار أفريكوم في القارة عام 2022، اطلع عليها موقع The Intercept الاستقصائي، أن قوات أفريكوم تنتشر فيما لا يقل عن 18 موقعاً آخر بالقارة غير معسكر ليمونيه ومركز جزيرة أسنسيون. وأكد مسؤول أمريكي مطلع على الحضور الحالي لأفريكوم في أفريقيا أن هذه القواعد العشرين لا تزال قيد التشغيل. وذكرت الوثيقة أن هناك موقعين آخرين في الصومال وغانا "قيد التقييم".
والحال كذلك، يبدو أن لانغلي تغافل عن ذكر 6 من المواقع التي تندرج فيما يُعرف بقواعد الطوارئ في أفريقيا، منها قاعدة الطائرات من دون طيار القديمة في تونس، وغيرها من المواقع المستخدمة لشن حروب الظل الأمريكية في النيجر والصومال. وقد ادعى الجيش الأمريكي أكثر من مرة أن مواقع الطوارئ إنما هي قواعد محدود لانطلاق القوات، ولكن مسؤولين أمريكيين بقيادة الأركان المشتركة أكدوا من قبل أن هذا النوع من المواقع لا غنى عنه لاستدامة العمليات، وهي قواعد "شبه دائمة".
غياب الشفافية في الجيش الأمريكي
وقالت ستيفاني سافيل، المديرة المشاركة في مشروع تكاليف الحرب بجامعة براون، لموقع The Intercept: "نشهد هنا افتقاراً واضحاً للشفافية من الجيش الأمريكي الذي استعمل الحديث عن الجوانب الفنية وسيلة للتهرب من الوقوف الدقيق على حجم القواعد الأمريكية في أفريقيا". والواقع أن بعض هذه المواقع، وإن لم يُصرح فعلياً بمشاركتها، فإنها تعد مراكز مهمة للعمليات العسكرية الأمريكية"، وإن عدم إدراجها في الإحصاء الرسمي للقواعد إنما هو وسيلة لإخفائها عن مراقبة الكونغرس والرأي العام الأمريكي.
في الأسبوع الماضي، دعا ائتلاف يضم 20 منظمة تقدمية وإنسانية ومناهضة للحرب قيادة لجنتي القوات المسلحة بمجلسي النواب والشيوخ، إلى إبقاء التعديل الذي قدمه النائب الديمقراطي في نيويورك جمال بومان، والذي يطالب فيه بـ"مزيدٍ من الشفافية في المعلومات عن تكلفة الحروب، والبيانات المتعلقة بالانتشار العسكري الأمريكي في الخارج، والموارد المخصصة لذلك" في النسخة النهائية من مشروع قانون الإنفاق الدفاعي لعام 2024.
وترى آني لورينتزن، من منظمة Just External Policy المشاركة في الحشد لمساعي إقرار التعديل بميزانية الدفاع، إن هذا التعديل بالغ الأهمية في الجهود المعنية بمساءلة وزارة الدفاع (البنتاغون)، إذ "يكاد يستحيل على دافعي الضرائب الأمريكيين، وحتى أعضاء الكونجرس، متابعة الانتشار العسكري الأمريكي الهائل في العالم".
وقالت آني: "إذا لم يتوفر الحد الأدنى من الشفافية بشأن مواقع المشاركة العسكرية الأمريكية في الخارج وتكاليفها، والمعلومات الخاصة بتكلفة مئات القواعد والتعاقدات التي لا تحصى مع الجيوش الأجنبية، فإن للمشرعين لن يمكنهم إجراء نقاش يستند إلى معلومات واضحة عن شواغل الأمن القومي"، و"في الأنظمة الديمقراطية، لا يجوز للناخبين وممثليهم المنتخبين أن يجهلوا الأماكن التي تُرسل إليها أموالهم وجيوشهم".
في المقابل، رفضت أفريكوم توضيح شهادة لانغلي. وقال تيموثي بيتراك، نائب رئيس الشؤون العامة في أفريكوم، لموقع The Intercept: "ليس لدى أفريكوم أي بيان للرد على أسئلتك".
تدّعي أفريكوم أن القاعدة الجوية 201 في أغاديس ليست بموقع "دائم" للعمليات المتقدمة، ولكن وثيقة العرض المعنية بانتشار أفريكوم في القارة لعام 2022، تشير إلى أن القاعدة "موقع أمني تعاوني"، وهي واحدة من 12 موقعاً ذات "حضور أمريكي دائم بالحد الأدنى"، و"منخفض التكلفة"، ذكرها لانغلي في شهادته أمام الكونغرس.
لكن المعلومات المتوفرة لمراسل The Intercept تكذِّب توصيفات لانغلي، وتؤكد أن القاعدة الجوية 201 تمثل العمود الفقري للقواعد العسكرية الأمريكية في شمال أفريقيا وغربها، فالقاعدة تضم مدرجَ طيران يبلغ طوله 1890 متراً، وممرات، وحظائر طائرات ضخمة، ومرافق معيشة متعددة الطوابق، ومخازن أسلحة وذخيرة، ومحطة لإنقاذ الطائرات ومكافحة الحرائق، ويقع كل ذلك ضمن "منطقة أمنية" تمتد بطول 25 كيلومتراً.
وتشتمل القاعدة كذلك على مطعم تبلغ مساحته 1200 متر مربع، وصالة ألعاب رياضية، وملاعب لكرة السلة والكرة الطائرة، ومركز ترفيهي به "خزائن كتب مليئة بالأفلام والألعاب، وخدمة الواي فاي، والوجبات الخفيفة". وكل هذه المرافق محمية بأسوار وحواجز وأبراج حراسة مكيفة ومزودة بمنافذ مخصصة لإطلاق النار. وتبلغ تكلفة بناء القاعدة 110 ملايين دولار، وتكاليف صيانتها السنوية ما بين 20 إلى 30 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
الحفاظ على موطئ القدم
من الناحية الرسمية، فإن تلك الأماكن المعروفة بـ"المواقع الأمنية التعاونية"، ينتشر فيها عدد قليل من الجنود الأمريكيين، لكن متحدثاً باسم القوات الجوية الأمريكية في أوروبا والقوات الجوية الأفريقية ذكر أن القاعدة الجوية 201 تستوعب حالياً نحو ألف عسكري أمريكي، والاتفاقية التي تحكم الوجود الأمريكي في القاعدة سارية منذ ما يقرب من 10 سنوات، ولا يمكن إنهاؤها إلا بإشعار سابق بنحو عام على الأقل، وليس لها تاريخ انتهاء. وقالت كيلي كاهالان، المتحدثة باسم أفريكوم، لموقع The Intercept: إن "الاتفاقية تظل سارية المفعول تلقائياً بعد فترة مدتها 10 سنوات".
وفي أعقاب انقلاب يوليو/تموز، يبدو أن البنتاغون يبذل كل ما في وسعه للإبقاء على وجوده في القاعدة. وقد أعلن البنتاغون، الخميس 7 سبتمبر/أيلول، أن "مجموعة قليلة من الأفراد غير الأساسيين" بالقاعدة سيغادرون النيجر "تلبيةً لأقصى دواعي الحذر"، على أن يُعاد انتشار مجموعة أخرى من القوات، لكن واقع الأمر أن الانقلاب لم يكن له تأثير ذو شأن على القاعدة.
وقال الجنرال في القوات الجوية جيمس هيكر، قائد القوات الجوية الأمريكية في أوروبا وأفريقيا، عندما سُئل الشهر الماضي عما إذا كانت الولايات المتحدة تخطط لإجلاء قواتها من النيجر: "الهدف هو البقاء"، ولذلك فإننا "نستعد لمواصلة البقاء هناك، لأن هذا ما نأمل أن نفعله".
وذهبت سابرينا سينغ، نائبة المتحدث باسم البنتاغون، إلى الرأي نفسه، إذ قالت: "لقد استثمرنا مئات الملايين من الدولارات في قواعدنا هناك، وجمعتنا تدريبات مع الجيش"، "النيجر شريك للولايات المتحدة، ونحن لا نريد لهذه الشراكة أن تنهار".