تعاني الصين من صيف قياسي من الأمطار والفيضانات التي غمرت الأخاديد ودمرت المحاصيل، ما يدفع للتساؤل عن الكيفية التي سيؤدي بها الطقس المتطرف الذي يغذيه تغير المناخ إلى تعقيد سعي بكين طويل الأمد لتحقيق الأمن الغذائي للبلاد.
كيف يمكن لتغير المناخ أن يُغرق الأمن الغذائي في الصين؟
ظل زعماء الصين يتألمون لفترة طويلة بشأن كيفية إطعام العدد الكبير من سكان البلاد-ـ ما يقرب من خُمس سكان العالم-ـ في حين أن الصين موطن لنحو 9% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وهي الأراضي التي ظلت تتقلص نتيجة للإفراط في الأسمدة والعمران والاستهلاك المفرط وغيرها من الأسباب، كما يقول تقرير لمجلة foreign policy الأمريكية.
وبالنسبة للمسؤولين الصينيين، تعود هذه المخاوف إلى زمن قديم، عندما أشعلت قضايا الجوع وانعدام الأمن الغذائي الاحتجاجات وتعرض الأنظمة للخطر؛ وفي الآونة الأخيرة، أثار نقص الغذاء خلال جائحة كوفيد-19 اضطرابات في بعض المدن الصينية.
وإذا كانت بكين قلقة بالفعل بشأن الأمن الغذائي، فإن التوترات الجيوسياسية المتزايدة لم تسفر إلا عن تعزيز مساعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الإنتاج الزراعي.
وعلى مر السنين، أصبحت الصين تعتمد بشكل متزايد على الواردات الغذائية الأجنبية، وهي عادة تحاول بكين التخلص منها من خلال توسيع أراضيها الزراعية. ولكن في الوقت الذي يؤدي فيه تغير المناخ إلى زيادة الطقس المتطرف، فإن التداعيات الناتجة يمكن أن تشكل تحدياً آخر لحملة الأمن الغذائي في بكين.
وقال زونجيوان ليو، خبير الاقتصاد السياسي الدولي في مجلس العلاقات الخارجية للمجلة الأمريكية: "الأمن الغذائي هو مصدر قلق بالغ الأهمية للحكومة الصينية، لقد أطاحت انتفاضة المزارعين بمعظم السلالات الصينية القديمة بسبب الظروف الجوية القاسية التي تسببت في المجاعة أو الأزمات الغذائية".
فيضانات كارثية مستمرة تضرب الصين
وتلك المخاوف لم تختفِ؛ حيث ضربت الفيضانات جنوب الصين مرة أخرى هذا الأسبوع، في أحدث اضطراب في سلسلة من الأحداث المناخية القاسية التي ضربت القطاع الزراعي في البلاد وأغرقت المحاصيل.
وفي مدينتي هاربين وشانغجي، دمرت مياه الفيضانات 220 ألفاً و105 آلاف فدان على التوالي من المحاصيل الشهر الماضي؛ وفي وقت سابق من هذا الصيف، تشير التقديرات إلى أن هطول الأمطار الغزيرة قد أثر على ما يصل إلى 30 مليون طن متري من الحبوب في مقاطعة هينان، وهي المنطقة التي يطلق عليها على نطاق واسع مخزن الحبوب في الصين.
وبينما كان المزارعون يستعدون لمزيد من الاضطرابات في الشهر الماضي، أعلن المسؤولون أنهم سيضخون 60 مليون دولار من أموال الإغاثة من الفيضانات مخصصة للإنتاج الزراعي.
وقال ويندونغ تشانغ، الأستاذ في جامعة كورنيل، إن "العدد آخذ في الارتفاع، والشدة آخذة في الارتفاع، فيما يتعلق بالفيضانات وحالات الجفاف الشديد" التي تضرب الصين، حيث إن هناك قدرة أقل على التكيف مع المناخ في نظام الإنتاج الزراعي الصيني.
الجفاف وارتفاع درجات الحرارة
ليست مياه الفيضانات فقط هي التي تهدد بالتأثير على الإنتاج الزراعي في الصين أيضاً. وفي مناطق أخرى، تسببت الحرارة الشديدة في نفوق الخنازير والأسماك، كما أثارت حالة من عدم اليقين بشأن محاصيل الأرز في الصين وإنتاجها من السلع الأساسية مثل القمح والذرة وفول الصويا.
في حين أن الفيضانات والجفاف ليسا أمراً غير عادي في الصين، فإن تغير المناخ- الذي يغذيه النشاط البشري- يجعل هطول الأمطار والحرارة الشديدة أكثر كثافة وأكثر تواتراً. وتعرضت الصين هذا الصيف لأشد هطول الأمطار غزارة منذ 140 عاماً، وفقاً للمسؤولين، والطقس القاسي الذي كان مدفوعاً أيضاً بظاهرة النينيو هذا العام.
وقال بيتر جليك، عالم المناخ في معهد المحيط الهادئ: "هناك صلة قوية للغاية بين تغير المناخ وعدد متزايد من الأحداث الهيدرولوجية المتطرفة، بما في ذلك الفيضانات والجفاف. إننا نشهد بالفعل، في جميع أنحاء العالم، زيادات في هطول الأمطار الغزيرة التي نعلم أنها تتأثر بتغير المناخ، وقد ساهم ذلك في الكثير من الفيضانات التي لا نراها في الصين فحسب، بل في جميع أنحاء العالم".
الأمن الغذائي يتشابك بشكل متزايد مع المخاوف الأمنية
أعطت التوترات الجيوسياسية المتزايدة زخماً جديداً لجهود بكين، مما يؤكد كيف أصبح الأمن الغذائي متشابكاً بشكل متزايد مع المخاوف الأمنية الأوسع. ورغم أن الصين تشكل مصدر ربع الإنتاج العالمي من الحبوب، فإنها أصبحت تعتمد تدريجياً على الواردات الغذائية في العقود الأخيرة.
وقال تشانغ: "كان الأمن الغذائي يمثل أولوية أكبر لدى بكين، باعتباره أحد الجوانب الرئيسية للأمن القومي، إلى جانب أمن الطاقة وقضايا أخرى".
وفي هذا العام، تستورد الصين كميات أكبر من المتوقع من القمح والذرة. وخوفاً من اعتمادها المتزايد على الواردات الزراعية، كثفت بكين جهودها لتوسيع أراضيها الصالحة للزراعة، واستصلاح ما يصل إلى 420 ألف فدان منذ عام 2021.
ومع تزايد وضوح التهديدات المناخية، قال زونجيوان ليو، خبير مجلس العلاقات الخارجية، إن بكين ركزت استجابتها على تحسين تكنولوجيا الأغذية وتطوير محاصيل قادرة على التكيف مع المناخ، مع العمل في الوقت نفسه على توسيع الأراضي الصالحة للزراعة وتحسين نوعية التربة.
وقالت هولي وانج، خبيرة الاقتصاد الزراعي في جامعة بوردو: "تشعر الحكومة الصينية بأنه لا ينبغي لها الاعتماد على دولة معينة أو جزء معين من العالم لتوفير الغذاء لها". "هذا لن يؤدي إلا إلى جعلهم يعملون بجدية أكبر ويأخذون الأمر على محمل الجد للتأكيد على الإنتاج المحلي. ولكن حتى الآن على الأقل، لا تزال الصين تعترف بأنها ستعتمد على السوق العالمية لتكملة بعض المواد الغذائية".
وبدلاً من الاستعداد لحضور قمة مجموعة العشرين المقبلة في نيودلهي، سافر الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم الخميس إلى القرى المتضررة من الفيضانات في شمال شرق الصين، حيث تفقَّد تأثير الفيضانات على محاصيل الأرز. لكن بكين كانت مترددة في الربط صراحة بين الفيضانات الشديدة والحرارة هذا الصيف وتغير المناخ، وبدلاً من ذلك تضاعف من وتيرة السماح بمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم.
كيف يؤثر ذلك على العالم؟
تقول "فورين بوليسي" إن ما يحدث في الصين لن يبقى بالضرورة في الصين أيضاً. وبالنظر إلى حجم السوق الزراعية الصينية وحجم الطلب عليها، قال تشانغ، الخبير الاقتصادي في جامعة كورنيل، إن الاضطرابات المناخية الشديدة التي تؤثر على المنتجين الصينيين يمكن أن تزيد الطلب في السوق العالمية.
في الشهر الماضي، حذرت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، ومقرها الولايات المتحدة، من أن هطول الأمطار الغزيرة في ثلاث مقاطعات صينية- هيلونججيانج، وجيلين، ومنغوليا الداخلية- قد يؤدي إلى تكثيف الضغوط على سوق الأرز العالمية.
ويأتي انقطاع المحاصيل الصينية في وقت تعاني فيه إمدادات الحبوب العالمية بالفعل من ضغوط بسبب تدخل روسيا المستمر في صادرات القمح الأوكراني. لا ترفض موسكو تجديد اتفاق يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية دون قيود فحسب، بل هاجمت أيضاً منشآت التصدير الزراعية في جنوب أوكرانيا وأجبرت دولاً أخرى على التدخل في محاولة لحماية تدفق الغذاء.
وهذا، إلى جانب الطقس المجنون، يجعل من الصداع الذي تعانيه الصين ألماً للعالم أجمع. وقال تشانغ: "إن الصين كبيرة جداً لدرجة أن هذه الصدمات المحلية التي أثرت بشكل رئيسي على السوق الصينية، أصبحت لها بشكل متزايد آثار كبيرة على السوق العالمية".