آخر مآذن “يونّان”.. لماذا تجبر الصين المسلمين على جعل المساجد شبيهة بالمعابد البوذية والكونفوشيوسية؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/07 الساعة 15:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/07 الساعة 15:19 بتوقيت غرينتش
مسجد ناجياينغ الذي بني في القرن الرابع عشر الميلادي هو آخر مسجد على الطراز العربي في مقاطعة يونان الصينية وتريد بكين هدم قبته ومآذنه/ ويكيبييديا

في أواخر مايو/آيار الماضي، تصادم الآلاف من مسلمي قومية "هوي" الصينية مع الشرطة المحلية في بلدة ناغو الواقعة في مقاطعة يونّان جنوب غربي الصين. كانوا يحتجون على خطة الحكومة لهدم قبة ومآذن مسجد ناجياينغ، وهو مبنى بُني في الأصل في القرن الرابع عشر ميلادياً. 

وظلَّ مسجد ناجياينغ ومسجد شاديان يُعتبَران أثرين لتسامح الدولة الصينية في الماضي مع الإسلام والمسلمين في يونان. وهما آخر مسجدين في المقاطعة ما زالا يملكان معالم عربية تقليدية، أي يملكان قباباً ومآذن. 

وشهدت السنوات الأخيرة عملية تحويل مدعومة من الحكومة للعديد من المساجد في يونان، إذ تمت إعادة تصميم أسقفها لتكون شبيهة بالأبراج البوذية والمعابد الكونفوشيوسية. وتتجاوز هذه التجديدات بكثير مجرد الطابع المعماري، وتكشف عن الطابع القومي الصارم لحكم الرئيس الصيني شي جين بينغ، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.

وبينما اجتذبت حملة القمع الشديدة من جانب شي لأقلية مسلمة أخرى، الإيغور، اهتماماً دولياً كبيراً، لكنَّ حملات "التصيين" (أي إضفاء الطابع الصيني) الأقل عنفاً إلى حدٍ ما التي تستهدف الأقليات المسلمة الأخرى في البلاد، لم تلفت الانتباه بشكل كبير. 

من هم مسلمو "هوي" الصينيون؟

ويصل عدد مسلمي الهوي نحو 11 مليون شخص، يعيشون في الغالب في ولايات غرب وجنوب الصين. توجد هذه المجموعة في الصين منذ زمن طويل، وتعود أصولها إلى هجرة المسلمين من آسيا الوسطى والشرق الأوسط بدءاً من القرن الثامن الميلادي. وبعكس الإيغور، الذين يتحدثون لغةً تركية، يتحدث مسلمو الهوي لغة الماندرين الصينية ولهجاتها المحلية، (مع وجود بعض العبارات العربية والفارسية).

لكنَّ ممارستهم للإسلام، بعلاقاته شبه الحتمية مع ثقافات مختلفة عن ثقافة "الهان الرئيسية في الصين"، تضعهم بشكل متزايد في الجانب الآخر من رؤية الرئيس الصيني للهوية الوطنية.

رجل مسلم من أقلية هوي الصينية يقرأ القرآن بينما يستمع الآخرون في غرفة جلوس في أكسو، منطقة شينجيانغ الإيغورية/رويترز، أرشيفية

فلم يعد التسامح العرقي الديني الذي كان ممكناً سابقاً تحت حكم الحزب الشيوعي الصيني موجوداً تحت حكم الرئيس شي، فبكين مصممة على إزالة آخر آثار العمارة الدينية الأجنبية المزعومة، بما في ذلك ما تُسمَّى بالملامح البارزة للطراز العربي؛ إذ تتعارض هذه الأدلة على الارتباطات الأجنبية مع المفهوم الأيديولوجي لـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" الذي بناه شي في السنوات الأخيرة، اشتراكية ترفع التراث الصيني للهان في البلاد فوق كل التقاليد والتواريخ الأخرى. 

وقد نجحت الاحتجاجات في مايو/أيار الماضي في تأجيل هدم القبة والمآذن مؤقتاً فقط. ولسوء حظ الهوي والكثير من مجموعات الأقليات الأخرى، لا يبدو أنَّ هناك ما يعترض طريق شي ومحاولته لبناء صين جديدة من خلال مبدأ الهدم.

تاريخ الإسلام في الصين

يعيش المسلمون في الصين منذ ما يزيد على ألف عام. وقد جرى أول اتصال دبلوماسي معروف بين المسلمين العرب وإحدى الدول الصينية عام 651 ميلادية، حين وصل أول رسل لخليفة للمسلمين إلى بلاط الإمبراطور تانغ. 

وبعد مرور قرن، تصادم التوسع الشرقي من جانب الدولة العباسية مع التوسع الغربي لإمبراطورية تانغ في عام 751 في معركة "طلاس" الموجودة الآن بكازاخستان. تكبَّدت القوات الصينية هزيمة فادحة مكَّنت من انتشار الإسلام في آسيا الوسطى. 

لكنَّ المجتمعات المسلمة بدأت في الظهور فيما يُسمَّى الآن بالصين من خلال التجارة والهجرة التدريجية، وليس الغزو العسكري. 

الهوي أصولهم عربية وإيرانية ومن آسيا الوسطى مع تزاوج واسع مع الصينيين

وقد شكَّل الشرق أوسطيون (العرب والإيرانيون)، وسكان آسيا الوسطى الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً، غالبية المستوطنين المسلمين الأوائل الذين وصلوا إلى المدن الكبرى والمراكز التجارية الساحلية في الصين. 

ويُعتَبَر هؤلاء أسلاف الهوي، (ويعتقد أنهم امتزجوا وتزاوجوا مع السكان الصينيين المحليين، حيث إن حوالي 6.7% فقط من جيناتهم لها أصل شرق أوسطي؛ وتظهر التحاليل تشابههم النسبي مع بقية السكان الهان الصينيين في كثير من المناطق).

وأصبحوا مقربين للسلطة في عهد المغول ثم تعرضوا للتمييز بعدهم

وفي عهد سلالة يوان المغولية، التي حكمت الصين بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، تنامى السكان المسلمون في العديد من مناطق البلاد. وأدَّت العلاقات مع المناطق المسلمة الأخرى الخاضعة لسيطرة المغول، بما في ذلك "خانات تشاغاتاي" في آسيا الوسطى و"الإلخانات"، فيما باتت الآن إيران، إلى جلب المزيد من المسلمين إلى الصين. وسافرت أعداد كبيرة من مسلمي آسيا الوسطى إلى الصين للمشاركة في أجهزة الحكم المغولي (كما استخدم المغول المهندسون الصينيون للمساعدة في حصار واقتحام المدن الإسلامية التي دمروها خلال غزواتهم).

لكنَّ طرد المغول في منتصف القرن الرابع عشر ترك المجموعات المسلمة تواجه تصاعد كراهية الأجانب خلال حكم سلالة مينغ. في الواقع، كانت سلالة مينغ أول نظام صيني يحاول "تصيين" العرقيات المسلمة كسياسة رسمية. 

ففي السنوات الأولى لعهد السلالة، كان على المسلمين من مختلف الأصول واللغات تبنّي اللغة والثقافة الصينية، وأُجبِروا على الزواج بغير المسلمين. وبدأ بعض الباحثين والمسؤولين المسلمين دراسة الإسلام من منظور كونفوشيوسي لمسايرة قيود الدولة بصورة أفضل. وأدَّت حركة ثقافية ودينية في أواخر عهد سلالة مينغ وبداية عهد سلالة تشينغ إلى إنتاج مجموعة ثرية من النصوص الإسلامية الصينية -تُعرَف باسم "كتاب الهان" (أو الكتاب الصيني)- أوضحت توافق الإسلام مع الأيديولوجيا الكونفوشيوسية للدولة.

وتعرضوا لمحنة كبيرة في العهد الشيوعي ولكنها شملت الجميع

وشكَّلت سيطرة الشيوعيين على الصين عام 1949 تحدياً آخر لمسلمي البلاد؛ إذ استهدفت المادية التاريخية الماركسية التي تبنَّاها الحزب الشيوعي الصيني ونظريته الملحدة في "نقد السماء" كل أشكال التدين والروحانية. وبلغت هجمات الحرس الأحمر على مسلمي الصين ذروتها خلال "الثورة الثقافية" في الستينيات والسبعينيات. فسجنت السلطات الكثير من الأئمة، وحوَّلت العديد من المساجد إلى حظائر، ومخازن، بل وحتى حظائر للخنازير. 

وفي عام 1975، احتج مسلمو الهوي في مقاطعة يونان على إغلاق مسجد في بلدة شاديان. ورداً على ذلك، اجتاح الجيش الصيني البلدة وبعض القرى المجاورة. ووفقاً للعديد من التقديرات، قتل الجنود أكثر من 1600 من مسلمي الهوي، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

أصبح موقف الدولة الصينية تجاه مسلمي الهوي أكثر اعتدالاً في عهد الرئيس الإصلاحي دينغ شياو بينغ، الذي ارتقى للسلطة عام 1978. وقد اتبع دينغ نهجاً أكثر تصالحاً تجاه الإسلام، من خلال الإصرار على أنَّ الاشتراكية يمكن أن تستوعب الدين، والسماح بإعادة المساجد المدمرة وبناء أخرى جديدة. واستمر هذا التسامح في العقود التالية.

الرئيس الحالي يريد مسح هويات الأقليات لصالح ثقافة الأغلبية

لكن في عهد الرئيس الصيني الحالي، تغيَّرت الأمور بصورة ملحوظة. فعلى عكس أسلافه، يعتمد فهم شي المعلن للاشتراكية بقوة على تاريخ وثقافة الهان الصينية التقليدية.  

يُصِر شي على أنَّه فقط يتبع خطى ماو تسي دونغ، ويطرح "مزيجاً ثانياً" للعقيدة الماركسية والأوضاع الصينية. لكنَّه في الواقع يبتعد كثيراً عن ماو في تركيزه، فماو لم يربط الماركسية بتاريخ وثقافة الهان التقليدية، ربما بسبب عدم التوافق المتأصل بين الاشتراكية، التي تسعى للقضاء على الطبقات الاجتماعية، والكونفوشيوسية، التي تؤمن بالحفاظ على التراتبيات الاجتماعية.

مسلمي قومية
معسكرات اعتقال الإيغور تسميها الصين "إعادة تأهيل"/ رويترز، أرشيفية

مع ذلك، أعاد شي التأكيد في المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، على أنَّه "من أجل الحفاظ على الماركسية وتطويرها، لابد أن ندمجها مع الثقافة التقليدية الصينية الرائعة". ففي رأيه، وحدها حضارة الهان الصينية التقليدية يمكن أن توفر ما تُسمَّى بالخصائص الصينية للماركسية المعاصرة. وبعد أربعة أشهر، طلب البيان الصادر عن الجلسة العامة السادسة للجنة المركزية للحزب الشيوعي بتكييف المبادئ الماركسية الأساسية مع "الثقافة التقليدية الرائعة" للصين.

وفي سبيل تحقيق هذا النموذج الجديد للهوية الصينية، يروِّج شي بنشاط لدراسة تاريخ الهان الصيني. ففي عام 2019، أنشأت الدولة كلية في جامعة الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية في بكين للتركيز على التاريخ والثقافة الصينية. وبعد ثلاث سنوات، وافق شي على بناء "الأرشيف الوطني للمطبوعات والثقافة" في الصين، وهو إجراء يسعى لمحاكاة إنشاء سلالة تشينغ للمكتبات ومجموعات النصوص في أواخر القرن الثامن. ويُعَد هذا الاستدعاء لتاريخ ما قبل الحداثة جزءاً من مسعاه الأيديولوجي الأوسع لتصيين الماركسية.

بكين تركّز على الوحدة وليس التنوع 

تعمل رغبة شي في تصيين الاشتراكية وربط هوية الصين الحديثة بهوية الهان القديمة عملياً على تهميش الأقليات العرقية الدينية مثل مسلمي الهوي، الذين يربطهم تاريخهم وثقافتهم بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا.

فمن وجهة نظر بكين، الأنماط المعمارية الأجنبية وغير الهانية ليست موضع ترحيب، فهي لا تتناسب مع نموذج شي للاشتراكية المعاصرة ذات الخصائص الهانية التقليدية.

وتسعى الدولة، باسم ذلك النموذج، لمحو الأدلة على وجود الخصائص الأجنبية في مقاطعة يونان وغيرها. 

ولا أحد يستطيع وقفها، وهي تستغل الوقت لتنفيذ مخططها بهدم المأذنة

وقليلةٌ هي القوى القادرة على وقف عملية التطهير الثقافي هذه. وتُسلِّط الاحتجاجات على عمليات الهدم المزمعة في يونان الضوء على واحدٍ من آخر معاقل المقاومة الإسلامية ضد القمع الديني. لكن يبدو مستبعداً أن يتمكَّن السكان المحليون من منع حملة الدولة للتصيين. 

فبعد التأجيل، تزيل السلطات قبة ومآذن مسجد ناجياينغ. وإلى جانب نشر وحدة كبيرة من قوات الأمن والشرطة في البلدة خلال الاحتجاجات في أواخر مايو/آيار، ذكر آخر أمر للحكومة المحلية، الصادر في يونيو/حزيران الماضي، أنَّ إكمال تصيين مسجد ناجياينغ قد يستغرق ستة أشهر. ويزور مسؤولو الحكومة أسر الهوي المحلية لإجبارها على التوقيع على ما يُسمَّى استمارات موافقة تجيز "إصلاح" المسجد.

مسلم من أقلية هوي الصينية يقرأ القرآن داخل مسجد في كلية نينغشيا الإسلامية في ينتشوان، عاصمة منطقة نينغشيا ذاتية الحكم لقومية هوي بشمال غرب الصين/رويترز، أرشيفية

ولن يتوقف برنامج شي عند تغيير الطرازات المعمارية. فالدولة على الأرجح ستقنع الأئمة المعتمدين بضرورة تصيين الإسلام، بما يضمن أن يُفسِّر أولئك الأئمة الموثوقون سياسياً الدين بطرق تعزز القيم الاشتراكية والثقافية الهانية. وستكبح السلطات الممارسات الدينية والثقافية التي يتبعها الكثير من مسلمي الهوي، مثل الحفاظ على الممارسة المعتادة للعقيدة وارتداء الجلباب وتعلُّم اللغة العربية. ومن المرجح أن تؤدي هذه الخطوة إلى تغيير أكبر للإسلام المحلي في الصين وإحياء تقاليد "كتاب الهان" في نسخة صينية من الإسلام. وبذلك، تسعى حملة التصيين لفصل الإسلام الصيني عن العالم الإسلامي الأوسع.

وقد يُشكِّل ذلك ضربة للقوة الناعمة للصين؛ فحملة التصيين القسرية تتعارض مع مقترح شي في مارس/آذار الماضي بـ"مبادرة الحضارة العالمية". لكنَّ مثل هذا الدفء تجاه الحضارات الأخرى يختفي بصورة متزايدة داخل حدود الصين. وقد تؤدي حملات الصين الثقافية إلى الإضرار بسمعتها وإضعاف نفوذها في العالم الإسلامي.

وتهدد الحملة أيضاً بإفقار ثراء المجتمع الصيني في الداخل، إذ يمثل برنامج شي للتصيين القسري تخلياً عن مفهوم "الوحدة التعددية" في نهج الدولة، بحيث تقضي ثقافة الهان على طيف ثقافات الأقليات العرقية.

تحميل المزيد