تتوجس الصين في التعامل مع كل ما هو مصدره أمريكي أو غربي، سواء كان ذلك في الشركات المتعددة الجنسيات، أو المستثمرين أو حتى الطلاب، حيث تشترط الجامعات الصينية على أعضاء هيئة التدريس حضور دورات تدريبية حول حماية أسرار الدولة. ونظمت روضات الأطفال في مدينة تيانجين الشرقية اجتماعات لتعليم الموظفين كيفية "فهم واستخدام" قانون مكافحة التجسس الصيني.
وحتى وزارة أمن الدولة الصينية، التي تجري أعمالها بسرية عادةً وتشرف على الشرطة السرية وأجهزة المخابرات، فتحت أول حساب لها على الشبكات الاجتماعية، ضمن ما وصفته وسائل الإعلام الرسمية بأنها محاولة لزيادة المشاركة العامة. وكان أول منشور للوزارة دعوة إلى "تعبئة المجتمع بأكمله" ضد التجسس. وجاء في المنشور أنَّ "مشاركة الجماهير يجب أن تكون "طبيعية"، بحسب ما تنقل صحيفة The New York الأمريكية.
لماذا تجنّد الصين شعبها في إطار "مكافحة التجسس"؟
تقول "نيويورك تايمز" إن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين يجند الناس العاديين لحماية البلاد من التهديدات المتصورة ضدها، في حملة تطمس الخط الفاصل بين اليقظة وجنون الارتياب. ويواجه اقتصاد البلاد أسوأ تباطؤ له منذ سنوات، لكن الزعيم الصيني، شي جين بينغ، يبدو أكثر تركيزاً على الأمن القومي ومنع أية تهديدات ضد سيطرة الحزب.
وقال الرئيس شي للجنة الأمن القومي الصينية في مايو/أيار 2023: "يجب أن نكون مستعدين لأسوأ السيناريوهات، وحتى السيناريوهات المتطرفة". ودعا المسؤولين إلى "تعزيز المراقبة الآنية والاستعداد للقتال الفعلي".
وربما تعزز هذا الشعور بالإلحاح حقيقة أنَّ بكين تواجه حالياً بعضاً من أشد التحديات التي واجهتها منذ صعود شي جين بينج قبل أكثر من عقد من الزمان. فبخلاف المعدلات الاقتصادية القاتمة، تزداد علاقات الصين مع الغرب توتراً. وتشير التغييرات غير المُبرَّرة في الموظفين على أعلى مستويات السلطة ــ بما في ذلك الإقالة المفاجئة في يوليو/تموز لوزير الخارجية الصيني واثنين من كبار الجنرالات ــ إلى أنَّ شي ربما يخشى التهديدات التي قد تقوض سيطرته.
مكافآت لكل من يُبلغ عن جواسيس
وفي يوليو/تموز، راجعت الصين قانون مكافحة التجسس لديها لمزيد من توسيع نطاق الأنشطة التي تعتبرها تجسساً. وتقدم بكين مكافآت بعشرات الآلاف من الدولارات للأشخاص الذين يُبلغون عن الجواسيس.
لكن رغم أنَّ الدعوة إلى اليقظة الجماعية أثارت الحذر على نطاق واسع، فمن غير الواضح إلى أي مدى يمكن ترجمة ذلك إلى عمل على الأرض. وفي الشهر الماضي، أعلنت السلطات القبض على 4 جواسيس على الأقل، من بينهم رجلان جندتهما وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بجانب الإعلان مؤخراً عن بعض الحالات القديمة؛ مثل زوجين أمريكيين اعتُقلا في عام 2019.
وقال تشين جيان، أستاذ التاريخ الصيني الحديث في جامعة نيويورك: "تعكس هذه الحملة التحديات العميقة والأزمات التي قد يواجهها النظام". وأضاف أنَّ الدعوة إلى العمل الجماهيري تحمل أصداء الحملات الجماعية التي أطلقها الزعيم ماو تسي تونغ، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، جزئياً لتعزيز سلطته. وكان أبرزها الثورة الثقافية، وهي فترة من الفوضى وإراقة الدماء استمرت عقداً من الزمن، عندما حث القادة الصينيون الناس على الإبلاغ عن معلميهم أو جيرانهم أو حتى عائلاتهم إذا اعتبروهم "معادين للثورة"، كما تقول الصحيفة.
الصين لديها أسبابها للشك والدعوة لليقظة
أشار البروفيسور تشين إلى أنَّ المجتمع الصيني لن يندفع بسهولة إلى هذه الحملات بالنظر إلى مدى تحديث البلاد. مع ذلك، فالصين لديها أسباب لتوخي الحذر؛ وهي وكالة المخابرات المركزية، التي صرح مديرها وليام بيرنز مؤخراً بأنَّ أمريكا تعيد بناء شبكة تجسسها في الصين.
إضافة إلى ذلك، الصين ليست الوحيدة التي تزيد من تحذيراتها بشأن مخاطر النفوذ الأجنبي. فقد حذر البعض من أنَّ واشنطن تعمل على بث حملة ذعر جديدة ضد الشيوعية، على غرار مبادرة الصين التي أعلنتها وزارة العدل الأمريكية والتي تستهدف الأكاديميين، لكنها أُلغيَت. وتعمل الولايات المتحدة ودول غربية أخرى أيضاً على تقييد الوصول إلى تطبيق تيك توك المملوك للصين، بسبب مخاوف أمنية.
لكن نهج التحذيرات الذي تتبناه الصين يتميز بحجمه وانتشاره في كل مكان. ففي محطات القطارات عالية السرعة، ينبّه مقطع فيديو متداول الركاب إلى توخي الحذر عند التقاط الصور للشبكات الاجتماعية، في حال ضمت هذه الصور معلومات حساسة. وفي المكاتب الحكومية حيث يقدم السكان مستندات روتينية، تذكّرهم الملصقات بـ "بناء خط دفاعي شعبي".
وغنّت فرقة نسائية، بينما ينتشرن في دائرة، ويلوحن بتنانيرهن ذات الألوان: الأصفر والأزرق والأحمر الزاهي: "أولئك الذين لا يبلغون سيُحاكمون. التكتم على الجرائم سيقودكم إلى السجن".
وهناك أشكال أخرى من تعليم مكافحة التجسس أكثر رسمية. إذ تدير الإدارة الوطنية لحماية أسرار الدولة تطبيقاً يحتوي على دورة تدريبية عبر الإنترنت حول حفظ الأسرار، التي طلبت العديد من الجامعات والشركات من موظفيها إكمالها. ويبدأ الدرس الأول باقتباس من ماو تسي تونغ حول أهمية السرية؛ ويحذر تقرير لاحق من أنَّ أجهزة آيفون وأندرويد هي منتجات أجنبية وقد تكون عرضة للتلاعب.
وحتى الجماعات التي يبدو أنَّ لا علاقة لها بالأمن القومي قد جُنّدت. إذ أمر قسم التربية الرياضية في إحدى جامعات مقاطعة شاندونغ أعضاء هيئة التدريس بأخذ الدورة التدريبية عبر الإنترنت؛ وكذلك فعلت كلية الطب البيطري في مدينة قوانغتشو.
تعليم الشباب أن يكونوا أكثر حذراً
ويُشكّل الشباب الصيني مجالاً مثيراً للقلق بشكل خاص، خاصةً بعد تشكل احتجاجات العام الماضي ضد القيود القاسية التي فرضتها الصين بسبب فيروس كورونا المستجد. لكن السلطات نسبت الاستياء إلى محرضين خارجيين. وبعد احتجاجات العام الماضي، قال مسؤول صيني إنَّ "قوى خارجية اشترت" هؤلاء المتظاهرين.
وجزء من الحل الذي تقدمه السلطات هو تعليم الشباب أن يكونوا أكثر حذراً. وقد دعا الرئيس شي إلى توسيع تعليم الأمن القومي، وأنشأت الجامعات فرقاً من الطلاب مُكلّفة بالإبلاغ عن الأشخاص الذين يستخدمون مواقع إلكترونية خارجية، من بين أمور أخرى.
لكن هذه النصائح المستمرة تذكر الطلاب في الوقت نفسه بأنهم أيضاً يخضعون للمراقبة. وخضع طلاب الجامعات في بكين لاستجواب الشرطة أو الإداريين بسبب تبادل الرسائل مع صحفيي The New York Times، في حالتين على الأقل قبل نشر أي مقال.
ربما التأثير الرئيسي – أو الهدف الأساسي- لهذه الحملة الصينية هو جعل أدنى اتصال بالأجانب مثاراً للشك. وقد امتد ذلك إلى المجالات الثقافية حيث كان التبادل أغنى تاريخياً.
ومع ذلك، كان رد فعل بعض الصينيين متشككاً تجاه الدعوة إلى اليقظة المستمرة. لكن المسؤولين تجاهلوا هذه المخاوف. وفي مقال افتتاحي يتحدث عن الدعوة إلى التعبئة الجماهيرية، قالت The Global Times الصينية إنَّ المنتقدين هم الذين يعانون من جنون الارتياب. وأضافت: "إذا لم تكن قد ارتكبت أي خطأ، فلماذا أنت خائف جداً؟".