رجل أوروبا المريض.. هكذا بات يوصف اقتصاد ألمانيا، الذي يئن تحت وطأة أزمات عدة، ولكن ما يتم تجاهله هو دور المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أو ماما ميركل كما تلقب في نشوب هذه الأزمات.
لسنوات كانت المستشارة أنجيلا ميركل أيقونة غربية لا يجوز المساس بها، وينظر إليها كقائدة أوروبا الحصيفة، التي تعتمد سياسات مالية رشيدة في مواجهة تبذير بلدان فقيرة مثل اليونان وإيطاليا أو ديموغاغية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المولع بإشعال الأزمات، كما كانت تعتبر المرأة التي تستطيع التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
نظر إليها كنموذج يظهر تفوق المرأة الفطري في الحكم على الرجل، ولكن مع اندلاع حرب أوكرانيا، في فبراير/شباط عام 2022، ظهر على السطح على استحياء حديث عن دورها في تشجيع هجوم بوتين على كييف، عبر منعها لفرض عقوبات حازمة على ضمه للقرم عام 2014، وربطها اقتصاد ألمانيا بالغاز الروسي، وتجاهل دعوات الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، لزيادة الإنفاق الدفاعي ومطالبته إياها بالحذر من الصين.
واليوم تتخلى ألمانيا بهدوء عن إرث ميركل فتحاول الاستغناء على الغاز الروسي، وتبتعد عن الصين، وتعزز إنفاقها الدفاعي عبر تخصيص مئة مليار يورو لتحديث جيشها الذي يوصف بالمترهل.
الاقتصاد.. آخر أساطير إرث ميركل يتهاوى
ولكن حتى إرث ميركل الاقتصادي الذي كان مثيراً للإعجاب تبيّن أنه يثقل كاهل ألمانيا، وأنها تدفع ثمناً باهظاً له، وتحتاج للتخلي عنه، بعدما ظل ملف الاقتصاد نقطة قوة المستشارة الألمانية السابقة.
وكشف الائتلاف الحاكم في ألمانيا، مؤخراً، عن خطة إصلاح اقتصادي تهدف إلى تحفيز الاستثمار والقدرة التنافسية والنمو، الأمر الذي ألقى الضوء على الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد الألماني، ليحمل لقب "رجل أوروبا المريض" على ألمانيا للمرة الثانية خلال 25 عاماً؟.
هل تكفي خطة شولتز لانتشال اقتصاد ألمانيا من حالة ركود؟
قدم المستشار أولاف شولتز خطة النمو الألمانية في جلسة حكومية استمرت يومين في قصر شلوس ميسبيرج خارج برلين.
ويأتي مشروع القانون مع تزايُد المخاوف بشأن حالة الاقتصاد الألماني، الذي عانى من الركود في الربع الثاني من العام، حتى يونيو/حزيران، بعد انكماشه في الربعين السابقين، متخلفاً عن أداء جميع منافسيه الكبار.
ويتوقع كل من صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تكون ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأسوأ أداءً في العالم هذا العام، من بين الاقتصادات الكبرى الرائدة.
وقد ألقت بعض التعليقات المبكرة على مبادرة الحكومة بظلال من الشك على فعاليتها المحتملة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
قدر كارستن برزيسكي، الرئيس العالمي للاقتصاد الكلي في بنك آي إن جي، والمحلل ذو الخبرة للاقتصاد الألماني، إجمالي الحوافز المالية الواردة في الخطة بنحو 8 مليارات يورو، أو 0.2% من الناتج الاقتصادي الوطني السنوي.
وكتب: لن تكون حزمة اليوم بمثابة التغيير الكبير في قواعد اللعبة بالنسبة للاقتصاد الألماني… إنه يظهر أن الحكومة أصبحت أخيراً على دراية بمشاكل الاقتصاد، ولكن ربما يتطلب الأمر المزيد والمزيد من الخطوات الملموسة في نفس الاتجاه لتسريع الاقتصاد مرة أخرى.
برلين عادت لتحمل لقب رجل أوروبا المريض للمرة الثانية
أطلق على ألمانيا لقب رجل أوروبا المريض لأول مرة في عام 1998، بسبب وضعها الاقتصادي آنذاك.
في ذلك الوقت لم تكن الحكومة وشركات القطاع الخاص تكافح لتغطية التكاليف الهائلة لإعادة بناء ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة، التي أعيد توحيدها مع الغرب في عام 1990 فحسب، بل كانت بحاجة أيضاً إلى استعادة القدرة التنافسية، وإصلاح أسواق العمل ودولة الرفاهية، وتفكيك ومساهمات البنوك وشركات التأمين الخانقة للنمو في الشركات العملاقة في الصناعة الألمانية.
وكان صاحب الفضل الكبير في خروج اقتصاد ألمانيا من هذه الحالة هو التحالف الديمقراطي الاشتراكي-الخضر، بقيادة جيرهارد شرودر في الفترة من 1998 إلى 2005، حيث وضع ألمانيا على الطريق الصحيح من خلال مجموعة من الإصلاحات البنيوية، التي بلغت ذروتها في برنامج طموح يعرف باسم أجندة 2010. وكانت الحكومة ناجحة للغاية، حتى إنه بحلول عام 2014 نشر الاقتصاديون ورقة بحثية في مجلة المنظورات الاقتصادية بعنوان "من رجل أوروبا المريض إلى النجم الاقتصادي: اقتصاد ألمانيا المنتعش".
ماذا حدث في اقتصاد ألمانيا.. حرب أوكرانيا كشفت جذور أزمته
للوهلة الأولى قد يبدو أن أزمة اقتصاد ألمانيا الحالية نابعة فقط من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، في ظل أن برلين كانت تعتمد على إمدادات الغاز الروسي في تلبية نحو 55% من استهلاكها، وكانت تحصل على أغلبه عبر أنابيب توفر الغاز بسعر رخيص، يدعم الصناعة الألمانية الشرهة للطاقة.
ولكن جذور الأزمة أقدم من ذلك، ولكن حرب أوكرانيا كانت كاشفة ومسرعة لها فقط.
في تقرير لأبحاث دويتشه بنك، يسرد ستيفان شنايدر ستة تحديات تواجه ألمانيا، يرتبط بعضها بالغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا قبل 18 شهراً، وبعضها الآخر على المدى الطويل، هي حسبما نقلها تقرير Financial Times:
– نهاية واردات الغاز الروسي الرخيص
– الصين سوق متزايدة الصعوبة بالنسبة للمصدرين الألمان، ومورد محتمل أقل موثوقية للمواد الخام والتكنولوجيا الحيوية مما هي عليه الآن.
– حاجة ألمانيا إلى الاستثمار في الدفاع والأمن.
– تغير المناخ.
– الإفراط في التنظيم والبيروقراطية.
– شيخوخة السكان وانكماش سوق العمل.
الأزمة بدأت بسبب إدارة ميركل البخيلة للاقتصاد
ومع ذلك، يشير شميدنج أيضاً إلى نقطة حاسمة بشأن العواقب التي خلفتها فترة الإصلاح في الفترة من 1998-2005. بعد أن حلت أنجيلا ميركل محل شرودر كمستشارة، وحكمت في نهاية المطاف لمدة 16 عاماً حتى استقالتها في عام 2021.
من المؤكد أنها اضطرت إلى قضاء معظم فترة ولايتها في النضال من أجل الحفاظ على تماسك منطقة اليورو في مواجهة الديون الوجودية وأزمات القطاع المصرفي (مثل الأزمة المالية اليونانية).
ولكن فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية المحلية، فشلت ميركل في البناء على إصلاحات عصر شرودر وتركت الأمور تنجرف.
ركزت على الانضباط المالي.. ماذا تعرف عن مكابح الديون المدرجة في الدستور الألماني؟
وفي بعض النواحي، قامت بتخزين المشاكل للمستقبل من خلال الإصرار على الانضباط المالي الصارم، الذي يرمز إليه "مكابح الديون" الذي تم إدراجه في عام 2009 في دستور ألمانيا.
مكابح الديون أو Debt brake (بالألمانية: Schuldenbremse) هي قاعدة مالية تم سنها في عام 2009 في ألمانيا، وأدرجت في القانون الأساسي (الدستور الألماني)، لتقييد العجز الهيكلي في الميزانية على المستوى الاتحادي والحد من إصدار الديون الحكومية، حيث تحدد الدين الجديد بنسبة 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأدت مكابح الديون إلى خنق الاستثمار العام الذي تشتد الحاجة إليه في البنية التحتية، والتحول الرقمي، وغير ذلك من المجالات.
وهي لا تشكل عائقاً أمام الاستثمارات العاجلة في التحول الرقمي والتخلص من الكربون في ألمانيا فحسب، بل تشكل أيضاً خطراً أمنياً متزايداً، حسبما يقول ثورستن بينر مدير معهد السياسة العامة العالمية في برلين، في مقال في موقع New Statesman البريطاني.
ويرى أنه إذا لم يتم إلغاء مكابح الديون، فإن ألمانيا تخاطر بالمقامرة بقوتها الاقتصادية واستقرارها السياسي، وهي الأسس التي تقوم عليها سياستها الخارجية وقدرتها العسكرية على العمل. وسيكون لهذا أيضاً عواقب وخيمة على بقية أوروبا.
صندوق النقد ينتقد الإنترنت في ألمانيا ويطالبها بالتخلي عن أسر مكابح الديون
صندوق النقد الدولي هو من بين أولئك الذين يؤكدون على الحاجة إلى تحسين الاتصال بالإنترنت في ألمانيا. وفي أحدث تقرير كامل له عن الاقتصاد الألماني، كتب الصندوق: "في حين أن توفر النطاق العريض الثابت والاشتراكات مرتفعان في ألمانيا، فإن سرعة اتصال النطاق العريض الثابت أبطأ من نظيراتها. كما أن الإنترنت عالي السرعة أقل توفراً خارج المدن الكبيرة، علاوة على ذلك فإن استخدام التقنيات الرقمية في الأعمال والمهارات الرقمية أقل أيضاً مقارنة بمتوسط الاتحاد الأوروبي.
ويقترح صندوق النقد الدولي أيضاً بكل أدب أن السلطات الألمانية لا بد وأن تفكر في تعديل قاعدة كبح الديون. والآن صحيح أن ألمانيا "مزقت كتاب قواعدها المالية"، على حد تعبير صحيفة "فيننشيال تايمز"، من خلال اقتراض مئات المليارات من اليورو للتعامل مع وباء كوفيد-19 وأزمة الطاقة الناجمة عن الهجوم الروسي على أوكرانيا.
لكن وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر يتلهف لوضع حد لهذا النوع من الإنفاق. وبموجب قاعدة مكابح الديون، التي من المقرر أن تعود إلى حيز التنفيذ في العام المقبل، لن يكون هناك أي مجال على الإطلاق لتحمل ديون جديدة.
ألمانيا تخادع في ميزانيتها
والمفارقة هنا، كما يشير صندوق النقد الدولي، أن ألمانيا قامت عملياً بالالتفاف حول مكابح الديون من خلال إنشاء "أموال متعددة من خارج الميزانية، يبلغ مجموعها نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي"، لتمويل مبادرات العمل المناخي والدفاع الجديدة.
وقد يكون من المنطقي أكثر التخلي عن مثل هذا "الخداع المحاسبي"، كما وصفته مجلة الإيكونوميست في تقرير حديث عن الاقتصاد الألماني، وتعديل قاعدة مكابح الديون. وبعد ذلك سيكون لدى الجميع صورة أوضح عما يحدث في المالية العامة.
ميركل أدخلت برلين القرن الحادي والعشرين بصناعات القرن العشرين
أدت هذه السياسات لجعل ميزانية ألمانيا منضبطة بشكل استثنائي، وتحقيقها فوائض مالية لعدة سنوات (وهو أمر نادر)، وساعدت سياسات ميركل بما فيها الاعتماد على الطاقة الروسية الرخيصة، والانفتاح على الصين، على زيادة صادرات البلاد، خاصة من السيارات والماكينات، ولكن جعلها أسيرة للطاقة الروسية والأسواق الصينية، التي باتت أكثر صعوبة أمام شركات السيارات الألمانية العملاقة، مع صعود صناعة السيارات الصينية، وتوتر علاقات الغرب مع بكين.
الأهم أن صناعة السيارات الألمانية لم تستطع مجاراة تطور صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات في الولايات المتحدة والصين، كما تتخلف برلين في ركب التكنولوجيا الرقمية عن الولايات المتحدة والصين وبعض نمور آسيا وشمال أوروبا.
ورغم ضخامة صادرات ألمانيا، فإن سياسة ميركل المحافظة قيدت الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة، وأدخلت ألمانيا القرن الحادي والعشرين بصناعات القرن العشرين.
كما أن تركيز ألمانيا على صناعات تقليدية مثل السيارات والماكينات والكيماويات لا يتلاءم مع كونها بلداً ثرياً، معدل الأجور به مرتفع، وكان هذا العامل قد أخفي بفعل أسعار الطاقة الروسية الرخيصة، ولكن تبينت خطورته بعد غياب الغاز الروسي، حيث أصبحت تكلفة الإنتاج والصناعة مرتفعة على الشركات الألمانية التي تهدد بمغادرة البلاد.
يجب التخلي عن إرث ميركل لتعويض السنوات الضائعة
ويتعين على ألمانيا أن تتخلى عن كابح ديونها للتعويض عن سنوات ميركل الضائعة، حسبما يقول ثورستن بينر، مدير معهد السياسة العامة العالمية.
ويضيف قائلاً "فقط من خلال التخلص من الحد الدستوري للديون الجديدة، تستطيع ألمانيا الاستثمار بشكل صحيح في نفسها".
ويصف عقيدة مكابح الديون بأنها عقيدة عفى عليها الزمن.
ويقول إن سياسة نقطة التحول التي طرحها المستشار الألماني ليست كافية لتمكين التحول الجذري الذي يحتاج إليه الاقتصاد الألماني. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي من يمين الوسط، أن يستعد لذبح أقدس أبقار السياسة الاقتصادية: "الصفر الأسود" للميزانيات المنضبطة وكبح الديون.
هل فات الأوان على نجاة اقتصاد ألمانيا؟
الأمور لم تصل لنهاية حتمية، فمن كان يتوقع قبل ثمانية عشر شهراً أن تتخلص ألمانيا من اعتمادها الكبير على الغاز الروسي بهذه السرعة والحاسمة؟ لقد تسبب في الكثير من الاضطراب في الصناعة، لكنه حدث بالفعل.
ثانياً، كانت التحديات المرتبطة بإدارة إعادة التوحيد وإصلاح الاقتصاد في مطلع القرن العشرين هائلة، على الأقل مثل أي شيء تواجهه ألمانيا اليوم. وقد تعاملت ألمانيا مع تلك التحديات.
ولا يوجد سبب، من حيث المبدأ، يمنعها من القيام بنفس الشيء مرة أخرى، وهو ما قد يكون خبراً طيباً لأوروبا.
إليك نقاط قوة قد تنتشله من الأزمة
ويؤكد شميدينج أن المتشائمين الذين يقولون إن ألمانيا تعاني من مشاكل عميقة، لأنها تعتمد بشكل كبير على الصناعات "القديمة الطراز" مثل سيارات الديزل والمواد الكيميائية، يخطئون في فهم الحقيقة.
وهي ليست العوامل الحاسمة التي تشكل الاقتصاد الألماني. وبدلاً من ذلك، فإن المحركات الحقيقية هي الأعداد الكبيرة من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي يقودها أصحابها في كثير من الأحيان. وتشكل هذه المحركات مجتمعة واحدة من أفضل محركات البحث للابتكار التي تم اختراعها على الإطلاق.
ويقول شنايدر إنه لا ينبغي لنا أن نتجاهل نقاط القوة التي تتمتع بها ألمانيا. ومن بين هذه العوامل انخفاض الدين العام نسبياً، والذي قدر البنك المركزي الألماني أنه بلغ 66.4% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام الماضي، وانخفاض ديون القطاع الخاص، ونوعية النقاش في الدوائر السياسية والتجارية حول كيفية تحسين ألمانيا كدولة مستقلة، أو مكان للاستثمار والابتكار.
ويضيف شنايدر أنه قبل كل شيء يمكن لألمانيا أن تعتمد على الشركات المتوسطة الحجم المثيرة للإعجاب، وهي الشركات المتوسطة الحجم التي تديرها عائلات في كثير من الأحيان، والتي تشتهر بأنها العمود الفقري للاقتصاد. نادراً ما تكون هذه أسماء مألوفة، خاصة خارج ألمانيا، لكن لديهم قدرة لا مثيل لها على الفوز بحصص كبيرة من الأسواق العالمية والاحتفاظ بها للمنتجات المتخصصة التي يصنعونها.
وتظهر الحجة نفسها في هذا التقرير بعنوان "الاقتصاد الألماني: ما المشكلة؟"، بقلم هولجر شميدنج من بنك بيرينبيرج، والذي بالمناسبة يقال إنه أول اقتصادي يستخدم مصطلح "رجل أوروبا المريض" مرة أخرى في عام 2016، بعد استخدامه في عام 1998.