منذ صعوده إلى هرم السلطة في الصين عام 2012، لم يتخلف الرئيس شي جين بينغ مطلقاً عن حضور قمم مجموعة العشرين، فلماذا قرر "تجاهل" حضور قمة نيودلهي 2023 في الهند؟
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تحليلاً يبحث في الإجابة عن هذا السؤال معتبرة أن شي بدأ يتحول من رجل دولة إلى "إمبراطور"، بغض النظر عن السبب وراء غيابه عن القمة الدولية للمرة الأولى.
وهناك بالطبع أكثر من تفسير وراء قرار الرئيس الصيني بعدم السفر إلى الهند لحضور قمة مجموعة العشرين، قد يكون أبرزها وجود توتر حدودي مع الدولة المستضيفة، لكن هناك أيضاً تفسير يتعلق بتكتل بريكس بعد توسيعه مؤخراً وضم 6 دول جديدة هي مصر والسعودية والإمارات وإيران والأرجنتين وإثيوبيا، إضافة إلى تفسيرات أخرى محتملة.
الصين تؤكد غياب الرئيس عن قمة العشرين
أعلنت وزارة الخارجية الصينية يوم الإثنين 4 سبتمبر/أيلول، أن رئيس مجلس الدولة (البرلمان الصيني) لي تشيانغ، سيرأس وفد بكين إلى مجموعة العشرين، وهو ما يؤكد التقارير السابقة التي تحدثت عن أن شي قرر الغياب عن قمة مجموعة العشرين.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماو نينغ، في مؤتمر صحفي دوري في بكين: "يتولى رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ الحديث باسم آراء الصين ومواقفها في هذه القمة"، و"نحن مستعدون للتعاون مع جميع الأطراف المعنية لضمان النجاح لقمة مجموعة العشرين".
لاحت نية الزعيم الصيني في الغياب عن قمة مجموعة العشرين بعد رحلته الأخيرة إلى جنوب أفريقيا لحضور قمة مجموعة البريكس التي شملت الهند أيضاً. ويأتي هذا الاستخفاف بشأن قمة العشرين -التي يوليها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أهمية كبيرة لانعقادها في بلاده- بعد وقت قصير من قمة البريكس، ليكشف عن ضيق حدود تلك الكتلة على التحدث بصوت موحد، وضعف قدرتها على تقديم بديلٍ موثوق به عن المنظمات التي تقودها الولايات المتحدة، بحسب تحليل بلومبرغ بطبيعة الحال.
وستكون الفعالية الكبرى التالية للرئيس الصيني في الساحة العالمية هو منتدى الحزام والطريق الذي من المقرر عقده في بكين في شهر أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام، والذي أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -الذي لن يشارك في قمة مجموعة العشرين- أنه سيحضره.
وترى الوكالة الأمريكية أن الرئيس الصيني استهل ولايته الثالثة بحملةٍ دبلوماسية عززت الصورة الشائعة عنه بأنه رجل دولة عالمي. لكن الأمور تغيرت، وقرر شي أن يغيب عن حضور قمة مجموعة العشرين، أي المنتدى الدولي الأبرز لزعماء العالم، ولم يتضح السبب الذي دعاه إلى اتخاذ هذا القرار.
قد يكون السبب هو السجال الدبلوماسي مع الهند هو السبب الذي دفع شي إلى تجاهل اجتماع مجموعة العشرين المقرر عقده في العاصمة الهندية نيودلهي في التاسع والعاشر من سبتمبر/أيلول، وربما يريد بقراره هذا أن يعزز من استقلال منتدى "بريكس" الذي أعلن عن توسُّعه منذ أيام، وربما انصرف عن الحضور رغبةً في التفرغ لمواجهة المشكلات الاقتصادية التي تشهدها بلاده، لا سيما أن إحدى أكبر شركات التطوير العقاري في الصين على وشك التخلف عن سداد دفعات ديونها.
مهما كان السبب، فإن غياب شي عن قمة مجموعة العشرين يدل على تحول كبير في نهجه المعروف، فقد حضر الزعيم الصيني جميع القمم التي عقدها زعماء مجموعة العشرين منذ توليه السلطة في عام 2012، وسعى إلى تقديم نفسه في صورة صانع السلام العالمي منذ خروجه من عزلة كوفيد -التي امتدت 3 سنوات- في قمة العام الماضي التي عقدت في بالي بإندونيسيا.
وشدد شي آنذاك على أهمية الحوار، وأخبر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن رجل الدولة تقع عليه مسؤولية "الانسجام مع الدول الأخرى"، حتى وإن اختلف معها.
لكن شي يتخذ نهجاً مختلفاً الآن، فهو يتهرب من حضور فعالية قد يواجه فيها أسئلة شائكة بشأن المسار الاقتصادي للصين، والتصعيد العسكري الذي تشنه بكين على تايوان، ودعمه روسيا بعد غزوها لأوكرانيا. ومن جهة أخرى، تزيد هذه الخطوة مخاوف المستثمرين الذين يرون أن الصين صارت بلداً يصعب التنبؤ بخطواته المقبلة، إذ قالت وزيرة التجارة الأمريكية جينا ريموندو الأسبوع الماضي، إن الشركات في الصين أخبرتها أن التقلبات المفاجئة في سياسات البلاد "تكاد تجعلها مكاناً غير قابل للاستثمار فيه".
هل يتخذ الرئيس شي نهجاً جديداً؟
ألفريد وو، الأستاذ المشارك في كلية لي كوان يو للسياسة العامة بجامعة سنغافورة الوطنية، يرى أن شي تلبَّسته "عقلية الإمبراطور" الذي صار يتوقع أن يختلف إليه كبار القوم من زعماء العالم ومسؤوليه البارزين. وقد زار بكين بالفعل، منذ أن رفعت قيود كورونا، الرئيسُ الفرنسي والمستشار الألماني، وأربعة من كبار المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وقال "وو" لبلومبرغ إن "(الرئيس) شي يحظى بمكانة رفيعة في بلاده حين يستقبل ضيوفاً من الزعماء الأجانب"، و"قد تلقى أيضاً معاملة خاصة في قمة البريكس. ولكن من المستبعد أن ينال حفاوة كتلك في قمة مجموعة العشرين".
بعد أن أصبح شي زعيم الصين الأقوى منذ ماو تسي تونغ في مؤتمر الحزب الشيوعي الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني، شرع في حملةٍ محمومة لإعادة تفعيل نفوذ بكين في الساحة العالمية. وتضمنت تلك الحملة أول لقاء له مع بايدن منذ تولي الأخير للرئاسة الأمريكية، وهي الخطوة التي أسهمت في تقليل مؤقت للتوترات القائمة بين القوتين العظميين بشأن تايوان، وضوابط التصدير على التكنولوجيا المتقدمة، ومجموعة من قضايا حقوق الإنسان.
ثم توسط شي جين بينغ في مارس/آذار من أجل التوصل إلى اتفاق تاريخي بين السعودية وإيران، وأعقب ذلك رحلة إلى موسكو لإبراز موقفه الداعم للرئيس الروسي بوتين. وبعد مدة وجيزة، أجرى الزعيم الصيني أولى محادثاته مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منذ الهجوم الذي تصفه روسيا بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، وهو ما عزز من مكانته، لكونه أحد الزعماء القليلين ممن لهم القدرة على التحدث إلى قادة البلدين المتحاربين والتوسط بينهما.
ولكن شي مالَ بعد هذه الموجة من النشاط الدبلوماسي إلى تقليصٍ كبير لوتيرة رحلاته الدولية، ولم يغادر بلاده هذا العام سوى مرتين، وهو ما يختلف عن نهجه السابق، فقد بلغ متوسط عدد رحلاته الخارجية قبل الوباء نحو 14 زيارة كل عام.
ويذهب أحد الدبلوماسيين الذين يعملون في بكين إلى أن شي غير مهتم بالمشاركة في قمة مجموعة العشرين بنيودلهي، لأنه يراها فعالية ستستخدم لتعزيز الصورة العالمية لمنافس بينه وبين الصين نزاعات إقليمية.
ومع ذلك، فإن إحجام شي عن حضور القمة التي ستعقد في الهند يحرمه من اغتنام فرصة اللقاء مع زعماء الدول الصديقة في مجموعة العشرين- والتي أعلن حديثاً عن دعوتها للانضمام إلى مجموعة البريكس-، مثل الأرجنتين والسعودية. وكان يُتوقع كذلك أن تتيح القمة للرئيس الصيني مناقشة رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في الخلاف بشأن مشروع طوكيو لإطلاق المياه المعالجة من محطة فوكوشيما النووية في مياه المحيط الهادئ.
درو طومسون، المسؤول السابق في البنتاغون والزميل البارز في كلية لي كوان يو للسياسة العامة في سنغافورة، قال لبلومبرغ إن شي يركز على تعزيز قوة الصين المتنامية في التجمعات التي يثق بأنها تعتمد عليه، فالصين "تسعى إلى السيطرة على الكتل التي تضم دولاً أصغر حجماً وأقل نمواً اقتصادياً، مثل البريكس و(منظمة شنغهاي للتعاون)، أي المنتديات التي يمكن للصين فيها أن تملي جدول الأعمال".
ماذا يحدث في بكين؟
كذلك فإن قرار شي بالإحجام عن حضور قمة العشرين تأكيد لمزاعم افتقار الإدارة في بلاده إلى الشفافية. ففي شهر يوليو/تموز، أقال الرئيسَ الصيني فجأة وزير خارجيته، تشين غانغ، دون أي تفسير، وبعد سبعة أشهر فقط من توليه المنصب.
لا يقتصر الأمر على ذلك، فعلى الرغم من أن زعماء مجموعة البريكس تحدثوا وأدلوا بتصريحات مختلفة خلال قمة جنوب أفريقيا الشهر الماضي، فإن شي لم يفعل ذلك، بل تنازل فجأة عن إلقاء خطاب مقرر له في المنتدى، وأسنده إلى وزير التجارة وانغ وينتاو، الذي قرأ النص. وزعمت وسائل الإعلام الرسمية الناطقة بالصينية أن شي قد ألقى الخطاب.
وقال نيل توماس، زميل السياسة الصينية في مركز تحليل الشؤون الصينية التابع لـ"معهد سياسات المجتمع الآسيوي" الأمريكي، إن ميلَ شي إلى تفويض غيره بالحديث عنه في الفعاليات الكبرى يشير إلى أن زعامته صارت أشبه بزعامة ماو تسي تونغ، فقد بات يفضل التركيز على القضايا الكبرى وليس الاشتغال بشؤون السياسة اليومية. لكن هذا النهج ينطوي أيضاً على مخاطر، إذ "كلما مضى شي قدماً في هذا المسار، تفاقم الانفصال القائم بين عملية صنع السياسات والمشكلات المتزايدة" التي تواجهها البلاد.
ومن المفترض أن يكون الظهور الرئيسي التالي للرئيس الصيني خارج الصين في قمة زعماء "منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ" في سان فرانسيسكو في نوفمبر/تشرين الثاني. ومع ذلك، فإن حضور شي للمنتدى مشكوكٌ فيه بعد قرار البيت الأبيض بمنع زعيم هونغ كونغ من حضور المنتدى؛ لأنه يخضع لعقوبات أمريكية.
ترى كارين فاسكيز، أستاذة الممارسة الدبلوماسية المشاركة في جامعة أو بي جيندال العالمية في الهند، أن تصريحات حسن النية ورغبات التعاون التي صدرت عن القمم السابقة لمجموعة العشرين بطل تأثيرها بسبب صراع الأيديولوجيات المحتدم في السنوات الماضية، و"من المؤكد أن الحوار لم يكتسب الزخم اللازم بعد".
وذهب جوزيف جريجوري ماهوني، أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة شرق الصين العادية في شنغهاي، إلى أن حضور زعماء الدول الأعضاء لهذه الفعاليات صار أمراً روتينياً، و"العلاقات الثنائية بين الصين والهند أكثر أهمية هنا من العلاقات الصينية الأمريكية"، لكن غياب الرئيس الصيني "يثير الشكوك فيما إذا كانت مجموعة العشرين قد وصلت إلى نهاية عمرها الفعلي".