أعلنت لجنة التحقيق الروسية، التي تنظر في حادث تحطُّم الطائرة التي كان على متنها قائد مجموعة فاغنر المسلحة، يفغيني بريغوجين، أن هويات القتلى العشرة الذين تمّ انتشال جثثهم من موقع الحطام "تتطابق مع قائمة" الركاب وأفراد الطاقم.
إذ قالت اللجنة، الأحد 27 أغسطس/آب 2023، إن نتائج الفحوصات الجينية الجزيئية أكدت هويات الركاب العشرة، وإن من بينهم بريغوجين. وتابعت: "وفقاً لنتائج هذه الفحوص تم التعرف على هويات جميع القتلى العشرة، وتتوافق أسماؤهم مع تلك الواردة في قائمة ركاب الطائرة" في الرحلة المنكوبة.
وأقام بعض الروس الحزانى على موت زعيم فاغنر نصباً تذكارية مؤقتة فيما يقرب من عشرين مدينة في روسيا والأجزاء المحتلة من أوكرانيا مؤخراً، في علامة على شعبيته المستمرة، وما قد يمثله ذلك من تحدٍّ للرئيس فلاديمير بوتين، وسط الانقسامات داخل النخبة والجيش على إدارة الحرب، كما تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية.
الشعبية المستمرة التي يتمتع بها زعيم فاغنر بريغوجين تمثل تحدياً لبوتين
على أن هذه النصب التذكارية- وإن كانت لا تمثل عاطفة قومية جياشة من الصدمة والحزن- تؤكد الدعم الذي يحظى به بريغوجين في الدوائر المتشددة المؤيدة للحرب في روسيا، وتسلط الضوء على مهمة الكرملين الدقيقة المتمثلة في تخفيف الغضب المحتمل بين مؤيديه، وخصوصاً أن كثيرين في النخبة الروسية مقتنعون بأن موت بريغوجين كان عملية اغتيال بأمر من الكرملين.
ونفى المتحدث باسم بوتين، ديمتري بيسكوف، نفياً قاطعاً التكهنات بتورط الكرملين في قتل بريغوجين، ووصفها بأنها "محض أكاذيب".
وقال المحلل الروسي والصحفي المستقل ديمتري كوليزيف، الذي غادر روسيا بعد غزو أوكرانيا، إن التحدي الذي يواجه الكرملين هو تخفيف غضب أنصار بريغوجين وفاغنر، ومن ضمنهم ضباط الجيش المبتدئون والمتوسطون. وقال: "بريغوجين، رغم إعلان ولائه لبوتين، عرّض نظامه للخطر وأظهر ضعفه الذي نال بسببه عقابه الحتمي. أعتقد أن النخبة فهمت هذه الإشارة جيداً".
ما الذي ينتظر بوتين الآن؟
يقول كولزيوف: "في الوقت نفسه يوجد جمهور أوسع من الناشطين العسكريين، وأنصار شركة فاغنر، ومقاتلي فاغنر المتقاعدين، ومن بينهم من يدينون بالولاء التام لبريغوجين. وعلى بوتين أن يمنع تحوُّل هؤلاء الأشخاص لمعارضين له، وصرف أنظارهم عن أي أعمال متطرفة محتملة، وذلك عن طريق تكريم بريغوجين وتقديم رواية بديلة لموته".
ولهذا السبب أشاد بوتين ببريغوجين يوم الخميس، ووصفه بأنه "شخص موهوب" "حقق النتائج الضرورية"، لكنه "ارتكب أخطاء"، في إشارة إلى التمرد.
ووضع الناس زهوراً وصوراً فوتوغرافية كتب عليها "بطل روسي"، وأعلام وشارات فاغنر، وشموعاً، وصوراً دينية، وحتى آلة الكمان، رمز مجموعة المرتزقة التي أطلقت على نفسها اسم "الأوركسترا"، وعلى أعضائها "فرقة الموسيقيين". وارتدى كثيرون زي فاغنر العسكري وغطوا وجوههم، أو ارتدوا قمصاناً سوداء عليها شعار الجمجمة المبتسمة الخاص بفاغنر.
وقد حظي بريغوجين بولاء رجاله لأنهم رأوه ينحاز إليهم ضد البيروقراطيين العسكريين المتعنتين، رغم معدلات الضحايا المرتفعة جداً بين مقاتلي فاغنر، وخاصة بين المقاتلين الذين كانوا سجناء سابقاً، والمزاعم الكثيرة بأن من يفرون من المعركة يُعدمون في أحيان كثيرة.
وكتب أحد مقاتلي فاغنر من سانت بطرسبرغ، بافيل شابرين، قصيدة عن بريغوجين قال فيها: "كان معنا في الجبهة: في الخنادق، في المخابئ، كان يعرف مشكلاتنا ويفرح معنا، كان ينام في الخيام، ويأكل حساء الشعير من سكين ويضع الشموع للموتى".
كيف صنع بريغوجين شعبيته؟
خلال الحرب زاد بريغوجين من شعبيته بمقاطع الفيديو المباشرة المسجلة بالقرب من الخطوط الأمامية- بعضها في باخموت- أثناء زيارته لرجاله في مخابئ تحت الأرض في منطقة الحرب. ومع تعثر مسار الحرب الروسية، اعتبره كثيرون مصدراً صادقاً للحقائق، وأحد الشخصيات البارزة القليلة المستعدة لتحدي القوانين الروسية، التي تحظر تشويه سمعة المؤسسة العسكرية، من خلال فضح الإخفاقات العسكرية والخسائر الفادحة.
وأعربت عائلات جنود فاغنر عن حزنها وولائها، في محادثات جماعية على تطبيق تليغرام في الأيام الأخيرة، وعن قلقهم إزاء استمرار حصولهم على المدفوعات والمزايا المستحقة لهم. إذ إن بريغوجين كان في قائمة العقوبات الأمريكية منذ فترة طويلة، وأدرجت وزارة الخزانة مدير شركته اللوجستي والإداري فاليري تشيكالوف على القائمة السوداء، في يوليو/تموز، الذي كان أيضاً على متن الطائرة.
وكتبت شقيقة لمقاتل من فاغنر لقي مصرعه: "أن تكون محارباً يعني أن تعيش للأبد، وأنا شخصياً أعتبره رجلاً حقيقياً، فاز في معركته أولاً مع نفسه، وأسس شركة فاغنر، وهي بلا شك الجيش الأكثر استعداداً للقتال في العالم، وقد أصبح عائلة حقيقية لكثير من الرجال! بطل روسي حقيقي، أحب وطنه وكره جحافل البيروقراطية التي لا تعد ولا تحصى، والتي لسوء الحظ لم يتمكن من اختراقها أبداً!" وتمنت له "ذكرى مشرقة وخالدة".
وأعربت سيدة أخرى عن مخاوفها إزاء بقاء مقاتلي فاغنر في المستقبل دون حماية بريغوجين، واحتمال إجبارهم على الانضمام إلى مجموعات المرتزقة الخاضعة لإدارة وزارة الدفاع، أو تسجيلهم جنوداً متطوعين.
وكتبت: "بدون الصفات القيادية، بدون الاتصالات، بدون سلطة يفغيني بريغوجين، من سيحمي الرجال من توقيع العقود مع وزارة الدفاع؟ ومن سيضمن عودتهم إلى ديارهم؟".
في موسكو، ترك الناس عبارات التعازي والإجلال في كنيسة "القديس مكسيم المبارك" في شارع فارفاركا، وفي مدينة سانت بطرسبرغ، مسقط رأس بريغوجين، تركوا عبارات التعازي في مقر شركته وفي مقهى مرتبط به.
واقترح نائب مجلس الدوما، فاسيلي فلاسوف، من الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي، تسمية شارع زولنايا في سانت بطرسبرغ، حيث يقع مركز مكتبه، باسم بريغوجين تكريماً له.
وشاركت شخصيات روسية بارزة في كلمات التأبين العلنية، اتباعاً لخطى بوتين. فوصفه الكاتب القومي زاخار بريليبين بـ"أفضل الرجال". ووصفه حاكم تولا، أليكسي ديومين، الرئيس السابق لأمن بوتين، والذي كان يعرف بريغوجين جيداً، بأنه "وطني حقيقي، ورجل حازم وشجاع"، ولم يكن خائناً.
وقال سيرغي ميرونوف، رئيس الحزب السياسي "روسيا العادلة في سبيل الحقيقة"، إن بريغوجين أزعج كثيرين، لكنه قال محذراً إن "أعداء روسيا سيدفعون الثمن باهظاً على موت الأبطال".
انقسامات داخل النخبة على "العقاب" الذي ناله بريغوجين
وفقاً للمحللين فالكثيرون من النخبة الروسية مقتنعون بأن وفاة بريغوجين كانت عملية اغتيال أمر بها بوتين. وقالت المحللة الروسية، تاتيانا ستانوفايا، المقيمة في باريس، إن التصريحات العامة لشخصيات بارزة اتبعت خطى بوتين، لكنها أشارت أيضاً إلى عدم ارتياحهم إزاء الحادث.
وقالت: "كل هذا بطبيعة الحال شخصي جداً، لكن مشاعر أشخاص مثل ديومين يمكن فهمها الآن، فهم يعتقدون أن شخصيات مثل بريغوجين، رغم أخطائه، لا يستحقون الموت بهذه الطريقة".
وقال المحلل كولزيوف إن تعليقات ديومين تشير إلى انقسامات داخل النخبة على "العقاب" الذي ناله بريغوجين. وقال إن ديومين، الذي يبدو أنه يعد نفسه ليكون وزيراً للدفاع في المستقبل، يحتاج إلى ضمان ولاء الضباط المبتدئين والمتوسطين، الذين "على الأرجح ينظرون إلى مقتل بريغوجين من منظور سلبي".