سلَّم محامون، ومسؤولون حكوميون، ورئيس حزب سابق بولاية نيويورك وآخرون جميعاً أنفسهم للسلطات بعد اتهامهم بكونهم جزءاً من محاولة جنائية مزعومة لإلغاء انتخابات 2020، حيث توجّهوا واحداً تلو الآخر إلى 901 شارع رايس ستريت، عنوان سجن مقاطعة فولتون سيئ السمعة في نيويورك.
ويوم الخميس، 24 أغسطس/آب، سلَّم رأس تلك "المؤامرة" -كما تسميها صحيفة The Guardian البريطانية- دونالد ترامب، نفسه، بما يُشكِّل لحظة تاريخية أخرى بالنسبة لرئيس أعاد تشكيل قواعد السياسة الأمريكية. وتُعَد هذه أكثر نقطة اقترب فيها ترامب من زنزانة السجن حتى الآن، وتُمثِّل تذكيراً واضحاً بأنَّه لا يوجد أي أمريكي ولا رئيس سابق فوق القانون، كما تقول الغارديان.
ترامب يروّج لنفسه من أمام السجن
ومثلما هو الأمر مع كل شيء يفعله ترامب تقريباً، جرى التخطيط لعملية تسليم نفسه لتكون بمثابة عرض. فضبط عن قصد توقيت تسليم نفسه عند الساعة 7:30 مساءً بتوقيت شرق الولايات المتحدة، من أجل تضخيم التغطية الإخبارية على القنوات المدفوعة.
وظلَّ الصحفيون خارج السجن طوال اليوم مع وصول درجات الحرارة إلى منتصف الثلاثينيات مئوية، وتجمَّع أنصار ترامب في تظاهرة. وكانت هناك تغطية شاملة لموكب ترامب ووصوله إلى السجن. وفي حين يحاول السياسيون عادةً صرف الانتباه بعيداً عن مشكلاتهم القانونية الجنائية، تقبَّلها ترامب بسرور، فساهم في تعزيز دورة الأحداث من خلال الترويج لموعد تسليم نفسه.
وبالرغم من جرأة ترامب، فإنَّ هول اللحظة يتجلَّى في مكان تسليم ترامب نفسه. ففي قضاياه الثلاث الأخرى، سلَّم ترامب نفسه في دور المحكمة وسرعان ما كان يظهر في قاعة المحكمة لتوجيه الاتهام إليه. أمَّا في يوم الخميس، فقد سلَّم نفسه في سجن يعاني من أوضاع مزرية لدرجة أنَّه يخضع للتحقيق من جانب وزارة العدل. وسيتعين عليه للمرة الأولى دفع كفالة -200 ألف دولار- لضمان إطلاق سراحه.
وتجنَّب ترامب في الحالات الثلاث الأخرى الإهانة المتمثلة في التقاط صور التوقيف الجنائية. لكن جرى التقاط صورة له يوم الخميس نُشرت للعامة، وعلق عليها بايدن بالقول: "إنه شخص وسيم" عندما سألته صحفية عن رأيه بما حدث، خلال قضاء عطلته في بحيرة تاهو، كاليفورنيا.
وبالنسبة لرجل يهتم بشدة بصورته أمام الناس، لن يكون هنالك خلاص من الصورة التي نشرها الخميس مأمور مقاطعة فولتون، إذ ستُرسِّخه دوماً باعتباره الرئيس الوحيد الذي حُوكِمَ جنائياً والتُقِطَت له صورة توقيف جنائية. ومن المرجح أيضاً أن تكون جزءاً لا يتجزأ من قصة الولايات المتحدة إلى الأبد، أن تكون لقطة لرئيس وحركة حاولا إخضاع المؤسسات الأمريكية واختبرا الحكم وسيادة القانون الأمريكيين في كل فرصة، بحسب الغارديان.
هل انتهت محاكمة ترامب عند هذا المشهد؟
من ناحية، يمثِّل ذلك نهاية فصل امتد عامين من التحقيق في جهود ترامب لقيادة انقلاب لإلغاء نتائج انتخابات 2020. لكنَّه يُمثِّل أيضاً بداية الفصل المقبل: محاكمات إدانته.
مع ذلك، سيكون من الخطأ افتراض أنَّ صورة التوقيف الجنائية ومشهد تسليم ترامب نفسه في السجن يوم الخميس سيضران بترامب سياسياً. بل يُرجَّح أن يؤديا إلى ترسيخ الدعم له بشكل أعمق من جانب أولئك الذين يدعمونه ويعتقدون أنَّه يتعرَّض للاضطهاد.
إذ جعل ترامب، المرشح والرئيس، سياسة المظلومية والشعور بالتعرُّض للاضطهاد والظلم أمراً محورياً في هُويته السياسية. ويستخدم ترامب بالفعل لوائح الاتهام المُوجَّهة ضده لحشد أنصاره.
وتُعَد أيضاً إجراءات التوقيف، ولوائح الاتهام التي سبقتها، أحدث خطوة في ما يُرَّجح أن تكون معركةً مستمرة وقذرة، في المجال العام وفي المحكمة، بين ترامب وفاني ويليس، المدعية العامة لمقاطعة فولتون. وهاجم ترامب بالفعل ويليس، وهي ديمقراطية وأول امرأة ذات بشرة سوداء تتولى منصبها، قائلاً -من بين كل الأمور- إنَّها عنصرية.
استطلاعات الرأي تعطي ترامب الكثير
وبدأ حلفاء ترامب، في كلٍّ من ولاية جورجيا والعاصمة واشنطن، بالفعل جهوداً منفصلة لجعل عمل ويليس صعباً قدر الإمكان. لكنَّ ويليس، التي تشتهر بكونها مدعية عامة صارمة، لم يرمش لها جفن. وتصدَّت حتى الآن للمحاولات اليائسة من جانب مارك ميدوز وجيفري كلارك، وهما اثنان من المتهمين مع ترامب، لتجنُّب تسليم نفسيهما.
وعلى الرغم من كل الضجة التي أُثيرَت حول تسليم ترامب نفسه، ربما تكون أهم التطورات هي التي تحدث بعيداً عن شارع رايس ستريت ومحكمة مقاطعة فولتون. فترامب يتمتَّع بصدارة واسعة في استطلاعات الرأي الخاصة باختيار المرشح الجمهوري للرئاسة.
وعند سؤال المرشحين في أولى مناظرات الجمهوريين يوم الأربعاء، 23 أغسطس/آب، إذا ما كانوا سيدعمون ترامب حال كونه المرشح المختار، أجابوا كلهم تقريباً بـ"نعم".
المرشحون الجمهوريون يفشلون في التغلب على ترامب
ووفقاً لمقال لديفيد سميث، مدير مكتب صحيفة The Guardian البريطانية في العاصمة الأمريكية واشنطن، مزَّق المرشحون الجمهوريون الثمانية الذين شاركوا في المناظرة في مدينة ميلووكي بعضهم بعضاً لكنَّهم فشلوا في تمييز أنفسهم. لقد كشفوا عن حزب في حالة فوضى وخلاف، حزب انحرف عن التيار العام السائد في قضايا مثل الإجهاض والتعليم والهجرة والأزمة المناخية. لقد كان ذلك بمثابة إعلان انتخابي امتد ساعتين للديمقراطيين وأذاعته شبكة Fox News ذات الميول الجمهورية.
وفشل المتنافسون الجمهوريون أيضاً في التغلب على ترامب، الذي لم يشارك بالمناظرة وأجرى بدلاً منها مقابلةً مسجلة مسبقاً مع تاكر كارلسون، المذيع السابق بشبكة Fox News. وقال ترامب لكارلسون إنَّه لم يشعر برغبة في اعتلاء منصة المناظرة كي "يضايقه أشخاص لا يجب حتى أن يترشَّحوا للرئاسة".
وأضاف سميث أنَّه كان من المتوقع أن يظهر اسم ترامب بقوة في المناظرة، وأن يصبح حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، الذي يحل ثانياً في استطلاعات الرأي، في غياب ترامب هدفاً للمرشحين الآخرين. لكن لم يحدث أيٌ من ذلك لسبب بسيط: فيفيك راماسوامي.
كان صاحب الـ38 عاماً بمثابة مانع صواعق ترامب، فامتص الهجمات التي كان ينبغي أن تُوجَّه للرئيس السابق. كان راماسوامي -وهو مثل ترامب رجل أعمال متهور ودخيل على عالم السياسة- يطلق قذائف كلامية، ويثير منافسيه، ووضع نفسه في منتصف كل الجدالات الحادة تقريباً.
وأصبح راماسوامي محط تركيز الرجال الذين ظلَّ غضبهم واشمئزازهم من الرئيس السابق يغلي داخلهم لسنوات، بدءاً من كريس كريستي، الذي يعتقد أنَّ ترامب نقل إليه عدوى كورونا التي كادت تقتله، وحتى نائب الرئيس السابق مايك بنس، الذي كان من الممكن أن يتعرَّض للهجوم من جانب حشد مناصري ترامب الذين اقتحموا الكونغرس في 6 يناير/كانون الثاني 2021. لكنَّهم نفَّسوا عن إحباطاتهم في وجه راماسوامي وليس ترامب. كل ذلك حمى ترامب معظم الوقت في المناظرة.
سأل الصحفي الذي شارك في إدارة المناظرة، بريت باير، المرشحين مَن سيدعم ترامب إذا ما جرت إدانته، لكن مع ذلك تم اختياره مرشحاً للجمهوريين في انتخابات الرئاسة؟ رفع راماسوامي وتيم سكوت ونيكي هيلي ودوغ بورغوم أيديهم. وبدا أنَّ ديسانتيس وبنس مترددان، لكنَّهما حذوا حذوهم. وقام كريس كريستي بحركة غريبة وادَّعى أنَّه كان يهز إصبعه. وأبقى آسا هاتشينسون يده ثابتة إلى الأسفل.
وصف راماسوامي ترامب بأنَّه أفضل رئيس في القرن الحادي والعشرين. ومثلما هو متوقع، قال كريستي إنَّ "سلوك الرئيس السابق كان أقل من مستوى منصب رئيس الولايات المتحدة"، وقد أُطلِقَت صيحات استهجان شديدة ضده. في المقابل، كال كريستي أيضاً الإشادات لمايك بنس لمقاومته ضغوط ترامب لإلغاء الانتخابات.
لكن لربما كانت معظم الاحتفالات تحدث في البيت الأبيض، الذي حصل على إثبات لرأيه بأنَّ الحزب الجمهوري هو حزب "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً"، أي الحزب الذي بات مُغلَّفاً بأفكار ترامب. فقد اتخذ كل المرشحين موقفاً صارماً بشأن الإجهاض، ورفض ديسانتيس اتخاذ موقف واضح بشأن القيود الفيدرالية المتعلقة بالمسألة.
وحين طُلِبَ من المرشحين رفع أيديهم في حال كانوا يعتقدون أنَّ البشر ساهموا في التغيُّر المناخي، وهي حقيقة علمية وبالتالي يجب أن تمثل الإجابة عنها فرصة سهلة، تدخَّل ديسانتيس وقال: "انظروا، لسنا أطفالاً. دعونا نجري المناظرة". في حين قال رماسوامي إنَّ "التغيُّر المناخي خدعة"، وهي كلمة استخدمها ترامب في الماضي. ولم يُقدِّم المرشحون الآخرون إجابة مباشرة عن هذه الأسئلة الأساسية.
كان الانطباع هو وجود حزب منفصل عن الواقع نتيجة حقبة ترامب، فلم يُقدِّم رؤية اقتصادية واضحة، وملأ فراغاته الأيديولوجية بالحروب الثقافية والتسابق نحو اليمين.