صدمة قد تحدث في أوساط النخب الروسية وقادة الجيش الروسي تحديداً، جراء الرحيل المحتمل لفيغيني بريغوجين مؤسس مجموعة فاغنر، الذي يسمى "طباخ بوتين" في حادث طائرة يشتبه أن السلطات الروسية قد تكون وراءه للتخلص من الرجل الذي تمرد على الكرملين.
كان تمرد فاغنر هو أكبر تحدٍّ للهيبة التي رسمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الداخل والخارج، وبين النخب الروسية والغربية على السواء، منذ بداية حكمه الذي أرسى دعائمه عبر شن حرب وحشية على الشيشان في عام 1999، ثم عززها بالاستيلاء على القرم عام 2014، بطريقة بدا فيها أنه خدع الغرب، ثم واصل مسار الوحشية عبر التدخل العسكري في سوريا، الذي قضى على المعارضة السورية.
تمرد "فاغنر" شوَّه صورة بوتين كرجل قوي
وحتى تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا لم يضر بهيبة بوتين، مثلما أضرّ مشهد تحرك بضعة آلاف أو أكثر قليلاً من قوات فاغنر بقيادة بريغوجين نحو موسكو، والجيش الروسي يستسلم أمامها والطائرات تسقط بصواريخ فاغنر والعاصمة موسكو تتحصن على عجل بأكياس الرمل من قبل قوات الأمن وليس الجيش، فيما كانت قوات فاغنر قد وصلت إلى نحو 500 كيلومتر منها.
بل إن إنهاء أزمة تمرد فاغنر لم يأتِ بشكل يعيد هيبة بوتين، إذ جاء عبر وساطة حليفه رئيس بيلاروسيا أكسندر لوكاشيكنو، الذي توسط بين بوتين وبريغوجين في موقف بدا فيه الأخير أقوى، مقترحاً أن يستقبله هو وقواته في أراضي بيلاروسيا.
وفاة بريغوجين المحتملة هي نهاية طبيعية وفقاً للتاريخ الروسي، حيث يختفي القادة المنافسون للحكم أو المنشقون عنه، بطريقة دراماتيكية عبر عمليات اغتيال غالباً تطرح أسئلة بلا أجوبة.
لكن النهاية الصعبة التي يبدو أن بريغوجين قد وصل إليها، تترك بعض الأسئلة المهمة العالقة. هل هذا يضع حداً للتكهنات التي بدأت مع تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا وتزايدت بعد تمرد فاغنر بشأن الضعف المحتمل لقبضة بوتين على السلطة، أو أنه يلقى تحدياً داخلياً أو مؤامرة قصر سرية.
قادة روسيا حكموها بالحديد والدم منذ تأسيسها
حكم روسيا قائم على القوة والهيبة، وأعظم حكامها الذين يحتفى بهم، هم قادة أقوياء وأحياناً دمويون.
فأول من وحّدها وحوّلها من إمارة موسكو، إلى روسيا القيصرية هو إيفان الذي سمي بالرهيب، ومن طورها قسراً وحولها إلى إمبراطورية بطرس الأكبر الذي أعدم ابنه وفرض ضريبة على من يطلق لحيته.
ومن أنقذ روسيا من النازية هو جوزيف ستالين، الذي أوقع ملايين الضحايا من أجل تحقيق إصلاحاته الزراعية والصناعية التي جعلت الاتحاد السوفييتي قوة عظمى بثمن بشري لا نظير له، وكان جزء من أسباب عدم استسلام الجنود الروس أمام الغزو الألماني هو خوفهم من بطش ستالين.
ولذا، فإن نهاية بريغوجين الدموية المحتملة قد تساعد على ترميم صورة بوتين كرجل قوي وثعلب استخباراتي قادر على التخلص من خصومه.
بوتين يتخلص من حليف بريغوجين داخل الجيش
ويزيد من فرض ذلك أنه بالتزامن تقريباً مع حادثة طائرة بريغوجين، أعفى بوتين الجنرال سيرغي سوروفيكين من قيادته للقوات الجوية الروسية، في أعلى مستوى حتى الآن لإقالة قائد عسكري، بعد التمرد الفاشل الذي قام به يفغيني بريغوجين في يونيو/حزيران.
يشير الغياب المطول لسوروفيكين، (الذي يوصف بأنه أكفأ قادة الحملة العسكرية الروسية)، وإقالته التي أعلنت مؤخراً، إلى أن بوتين يعيد ترتيب حكمه ويتخلص من المتمردين أو الساخطين أو المشكوك في ولائهم.
وكان لافتاً أن قوات فاغنر خلال التمرد استولت على مقر عسكري في مدينة روستوف أون دون، كما لم يحدث سوى محاولات تصدٍّ محدودة لمسيرة فاغنر المسلحة نحو موسكو.
وأثارت الإشادة العلنية التي قدمها بريغوجين لسوروفيكين، الذي كان يُنظر إليه على أنه حليف لميليشيا فاغنر في وزارة الدفاع الروسية، تساؤلات حول ما إذا كان هو أو غيره من كبار القادة قد ساعدوا في التمرد، أو على الأقل كان لديهم معرفة مسبقة بخطط بريغوجين، خاصة في عدم تصدي الجيش للقوات المتقدمة نحو موسكو، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية
ومع أنه يعتقد أن بريغوجين كانت لديها خلافات كبيرة مع قيادة الجيش الروسي وطريقة إدارتهم للحرب، خاصة وزير الدفاع سيرغي شويغو، وقائد الأركان فاليري غيراسيموف، ولكن بعض التقارير الغربية تتحدث عن استياء من قبل جنرالات آخرين من طريقة إدارة الحرب، التي انتقدها بريغوجين، إضافة لانتقاده اللافت قبيل تمرده لدوافع الحرب نفسها التي أطلقها بوتين.
هل يؤدي رحيل مؤسس فاغنر لتقوية سلطة بوتين أم إضعافها؟
بالنسبة للعديد من المحللين، فإن وفاة بريغوجين ــ التي حدثت بعد شهرين بالضبط من "مسيرته من أجل العدالة" التي شهدت توقف طابور مسلح من فاغنر بالقرب من موسكو ــ فإن النظام الطبيعي للسياسة الروسية قد أعاد تأكيد نفسه أخيراً.
وتقول إميلي فيريس، من معهد "Rusi" للدراسات بالمملكة المتحدة إن موسكو "من المرجح أن تكون قد تعلمت درساً مفاده أن شخصيات مثل بريغوجين بطموحاتها الخطيرة هي بمثابة حصان جامح"، مضيفة أن "أي زعيم جديد لفاغنر من المرجح أن يكون شخصاً سيختاره الكرملين بعناية".
البعض يرى العكس، وأن "خيانة" بريغوجين لبوتين كشفت عن الهشاشة المتأصلة في الدولة الروسية المبنية حول فرد واحد يقع في قلب جاذبيتها السياسية، وتحيط بها عاصفة من العشائر المتحاربة.
ويقول هؤلاء، الذين يؤمنون بأن اختفاء بريغوجين لا يعني أن بوتين استعاد جزءاً من هيبته، إن ضعف حكم بوتين ينبع من حقيقة أن مؤسس فاغنر كان من الممكن أن ينجح لو أنه اختار المضي قدماً إلى موسكو، وهو أمر ألمح إليه منتقدو بوتين، وخاصة القوميين الروس – الذين كان بريغوجين يتمتع بشعبية كبيرة بينهم، ويُنظرون إليه على أنه بطل وطني.
ويتساءل تقرير لموقع interpreter التابع لمعهد Lowy institute الأسترالي للعصف الذهني: حتى لو لم تنجح وفاة بريغوجين في إيقاف مسار بوتين الهبوطي، هل سيؤدي ذلك على الأقل إلى استقرار السياسة الروسية لبعض الوقت؟
إجابة ذلك مسألة صعبة، فما حدث، يُظهِر أن سياسات القوة تظل سمة مميزة لروسيا في عهد بوتين، وتُظهِر التجارب السابقة أن ذلك يمكن أن يكون فعّالاً للغاية. ولكنها من ناحية أخرى تكشف عن احتمالات الخيانة الكبيرة التي يمكن أن يشهدها النظام.
ويقول الموقع يجب الانتباه إلى أن بوتين قدّم ضمانات شخصية وعلنية لبريغوجين بشأن سلامته. على أقل تقدير، ستكون هذه الحادثة بمثابة تذكير بأن وعود الرئيس لا يمكن الوثوق بها.
ما هو تأثير اختفاء مؤسس مجموعة فاغنر على الحرب في أوكرانيا؟
طوال معظم العام الماضي، كانت فاغنر القوة القتالية الأكثر فعالية لروسيا في أوكرانيا، حيث نجحت قواتها في السيطرة على مدينتي سوليدار وباخموت الشرقيتين بعد معارك دامية.
ولكن حالياً من الناحية التشغيلية، ربما لا يكون لغياب بريغوجين أو فاغنر تأثير كبير حالياً .
فلقد غابت فاغنر عن القتال لمدة شهرين تقريباً، ولم يكن لذلك تأثير يذكر – مع استثناء محتمل لبعض القدرات الهجومية المحدودة لقوات الصدمة الأمامية.
لكن الآثار المترتبة على البحث عن المتعاطفين مع فاغنر وتطهيرهم من الجيش النظامي الروسي لا تزال مستمرة، مما سيكون له حتماً تأثير سلبي على الروح المعنوية، حسبما ورد في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
غير أنه قد تكون هناك نتائج إيجابية محتملة لغياب بريغوجين بالنسبة الجيش الروسي في أوكرانيا، رغم أنه سيفتقد شراسة وديناميكية مرتزقة فاغنر.
ولكن في المقابل، فإن لجوء موسكو لقوات فاغنر والقوات الشيشانية كان مهيناً لضباط وجنود الجيش الروسي، إذ كان تعبيراً عن عدم الثقة فيهم، وهو أمر له تأثير سلبي كبير على الحالة المعنوية لهذا الجيش كما أن الفارق الهائل بين أجور مقاتلي فاغنر الأصليين المحترفين وبين رواتب الجيش أمر مثير للاستياء والغيرة لدى أفراد الجيش الروسي.
والأخطر أن الطبيعة الفوضوية لمرتزقة فاغنر يمكن أن تؤثر على انضباط الجيش الروسي ومن شأن معاقبة مؤسس فاغنر هذا العقاب الدموي التقليل من هذا الاحتمال.
هل يؤدي اغتيال مؤسس فاغنر لتشويه صورة بوتين وإشعال الكراهية له؟
وفي الوقت ذاته، لن يحظى بريغوجين بتعاطف كبير يضر بصورة بوتين، وبالتالي على الأرجح لن تؤدي الشكوك القوية في أن مؤسس مرتزقة قد تعرض لعملية اغتيال مدبرة إلى إشعال موجة كراهية كامنة ضد الرئيس الروسي، حتى لو بدا أنه حنث بوعده بمنح بريغوجين الأمان بعد تخليه عن التمرد في يونيو/حزيران الماضي بوساطة من رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الذي استضافه لفترة.
فمؤسس فاغنر القادم من عالم السجون، يظل متطفلاً على الأوليغاريشية الروسية.
بالنسبة لنخبة رجال الأعمال والسياسة المحيطين ببوتين، فإنه يمثل النقيض لهم بخطابه الديموغاغي والقومي المتطرف، الذي يختلف عن رغبات هذه النخبة التي كبتها بوتين في التعاون مع الغرب؛ حيث إن أغلب هذه النخب كانت لديها استثمارات وأملاك كبيرة في العواصم العربية تمت مصادرتها بعد حرب أوكرانيا.
كما أن الرجل غريب عن المؤسسة العسكرية إن لم يكن منافساً لها، مما يجعل اغتياله المحتمل رسالة ذات تأثير قوي لمن يفكر في تقليده، وفي الوقت ذاته فإن اغتياله حتى لو بدا فيه خيانة مفترضة من بوتين فلن يثير كثيراً من التعاطف بين الشعب والجيش.
على المستوى الجماهيري، الرجل حظي تمرده ببعض الحفاوة الشعبية، لأنه عبر عن اعتراضات كثيرين على الأداء العسكري المرتبك في أوكرانيا، والشكوك حول دوافع الحرب والغضب من نتائجها، وظهرت هذه الحفاوة في استقبال الجماهير لمرتزقة فاغنر عند دخولهم بشكل إيجابي، ولكن اللافت أن الاحتفاء الشعبي كان أكبر عندما أعلنوا إنهاء التمرد حقناً للدماء.
ففي النهاية يظل بريغوجين قائد تمرد عسكري نفذته قوة مرتزقة في وقت الحرب، في بلد مشهور بخليط من الاستياء الشعبي من الحكومات والالتفاف في الوقت ذاته حول الحكومة المركزية في أوقات الأزمات، خاصة في ظل القلق التاريخي للروس من فكرة الفوضى والحروب الأهلية والتدخل الخارجي، وإيمانهم بنظريات المؤامرة، ومعاناتهم التي لم تُنسَ بعد من الفوضى التي حدثت في نهاية العهد السوفييتي عندما نفذ آخر الزعماء السوفييت إصلاحاته المعروفة بالبرستوريكا والغلاسنوست، والفوضى التي أعقبت ذلك خلال حكم بوريس يلتسين.
بالنسبة لكثير من الروس، فإن استبداد بوتين أفضل من فوضى الستين وغورباتشوف، الذين ذكرهم تمرد فاغنر بها.
بالنسبة للقوميين الروس، فرغم إعجابهم بشخصية بريغوجين الهجومية، يظل بوتين بطلهم المفضل، وهو الذي يوسع حدود روسيا، أو يستعيد أراضيها التي أهداها الاتحاد السوفييتي لأوكرانيا، كما يقول بوتين ويقول القوميين، (في إشارة إلى مناطق شرق وجنوب أوكرانيا وضمنها القرم).
بعد رسالة ممزوجة بالدم.. بوتين قد يعتمد على الحرس الوطني لتوطيد حكمه
في الوقت ذاته، يبدو أن بوتين بعد تراجع دور فاغنر في حرب أوكرانيا وفي المعادلة الداخلية الروسية، قد يلجأ في مواجهة احتمالات حدوث تمرد آخر أو انقلاب عسكري إلى تعزيز قوة الحرس الوطني الروسي، الذي يصفه البعض بميليشيات بوتين الخاصة، وبالفعل أُعلن بعد تمرد فاغنر عن عزم موسكو تزويد الحرس الوطني بأسلحة ثقيلة.
إذا كانت هناك نتيجة واضحة واحدة من وفاة بريغوجين، فستكون الاستنتاج بأن لا أحد في مأمن في روسيا بوتين. تشير هذه الحقيقة وحدها إلى أن تأثير بريغوجين على السياسة الروسية سيستمر حتى بعد وفاته.
وبهذه الرسالة المحتملة الممزوجة بالدماء، يكون بوتين قد استعاد جزءاً من صورته كرجل قوي يجمع بين المكر والاستعداد لاجتثاث خصومه بواسطة القوة.
ولكن في النهاية هيبته مرتبطة بالحرب في أوكرانيا والاقتصاد
بالطبع لا يعني ذلك أن الشرخ الذي حدث في صورة بوتين بسبب تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا وتمرد فاغنر، قد انتهى تماماً.
فمن المتوقع أن يولي بوتين مزيداً من الاهتمام للجوانب الأمنية والاستخباراتية ومراقبة ومتابعة جنرالات الجيش الذيت يحتمل أنهم ساخطون، وهذا سيجعله أكثر أماناً بالتأكيد أكثر من فترة ما قبل حادثة بريغوجين.
ولكن في المقابل، وبطبيعة الحال التوسع في مثل هذه الإجراءات الأمنية خاصة في الجيش، يزيد من احتمالات تكلسه، فهذه الممارسات تنشر الوشاية بين أفراده وتعلي من شأن المتملقين على حساب أصحاب الأفكار والأصوات النقدية الذين هم عادةً أفيد للجيوش من الجنرالات الذين يصعدون حسب التقارير الأمنية وليس كفاءتهم العسكرية.
ويظل مدى قوة حكم بوتين مرتبطاً بشكل أساسي بأداء الجيش الروسي في أوكرانيا والذي تحسن كثيراً، حيث أفشل هجوم أوكرانيا المضاد حتى الآن، أما العامل الثاني فهو الوضع الاقتصادي الداخلي في روسيا، ورغم تأثر البلاد بالحصار الغربي، وخروج الشركات العالمية، فإن الضرر الاقتصادي حتى الآن أقل كثيراً من المتوقع، وقد يكون أقل حتى من تضرر البلدان الأوروبية من الأزمة.
كما أن هجمات المسيرات الأوكرانية محدودة التأثير، ومن ثم لم تتدهور حياة المواطن الروسي كثيراً، باستثناء السفر للغرب، وقلق الشباب من التجنيد.
يعني ذلك أن العقد الاجتماعي بين الشعب الروسي وبوتين القائم على كثير من الأمن والاستقرار وبعض الرفاهية مقابل انفراده بالسلطة مازال قائماً، حتى لو أصابه بعض الأضرار.
وفي ظل أن الوضع الدفاعي للجيش الروسي الحالي يجنبه الإحراج، الذي عاني منه في بداية الحرب الأوكرانية، فإن احتمالات سخط العسكريين قد تتراجع، إلى حين رؤية تأثير قرار الغرب منح أوكرانيا طائرات إف 16 على مسار الحرب.