360 مليار دولار وما خفي أعظم.. ما فرص حكومة السوداني في مكافحة “سرطان” الفساد في العراق؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/17 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/17 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (تويتر)

وضعت حكومة محمد شياع السوداني في العراق لنفسها هدفاً طموحاً يتمثل في مواجهة حاسمة مع الفساد، الذي كلف البلاد أكثر من 360 مليار دولار، فما فرص النجاح في هذه المهمة شبه المستحيلة بحسب البعض؟

فعلى الرغم من أن العراق يُعتبر واحدة من الدول الغنية بالموارد المتنوعة، زراعية ومواد خام وغيرها، فإن بلاد الرافدين تعاني بشدة منذ الغزو الأمريكي عام 2003 وما تبعه من تداعيات كارثية أدت إلى انهيار شبه كامل في البنية التحتية الأساسية من طرق ومياه وكهرباء وخدمات بأنواعها، ويظل الفساد أحد أبرز المتهمين.

وكان السوداني، الذي تولى رئاسة الوزراء منذ أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، قد أكد في بيان حكومته أمام البرلمان العراقي أن مكافحة الفساد لوقف الهدر الكبير في ثروات البلاد تمثل الهدف الأساسي في هذه المرحلة.

وعملت الحكومة العراقية منذ ذلك الوقت على تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الفساد، كالأمم المتحدة والبنك الدولي والشرطة الدولية (الانتربول) وعدد من الدول من أجل تطوير قدرات العراق ومؤسساته المعنية بالقضاء على الفساد.

حرب السوداني على الفساد

يصنّف العراق ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، في مؤشر مدركات الفساد لعام 2022 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، إذ جاء بالمرتبة السابعة عربياً والـ 157 عالمياً من بين 180 دولة مدرجة على قائمة المنظمة. وحافظ العراق على تلك المرتبة لعدة سنوات متتالية.

وفي هذا الإطار ومع ولادة أي حكومة جديدة في العراق، يتخذ رئيس الوزراء الجديد خطوات وإجراءات بتشكيل هيئة أو لجنة عليا لمكافحة الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية والرقابية.

وهذا ما فعله السوداني، ففي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن مكتب رئيس الوزراء تشكيل "الهيئة العليا لمكافحة الفساد"، وهي في حقيقتها هيئة مشابهة لهيئة سابقة تشكلت في ظل حكومة مصطفى الكاظمي، برئاسة الفريق أحمد أبو رغيف، أحد كبار ضباط وزارة الداخلية.

وفي بيان تشكيل الهيئة، أعلن المكتب أنها تهدف إلى "مكافحة الفساد طبقاً للمنهاج الوزاري (البرنامج الحكومي) وبآليات غير تقليدية تتجاوز السلبيات السابقة"، بغية "تسريع مواجهة ملفات الفساد الكبرى واسترداد المطلوبين بقضايا الفساد والأموال العامة المعتدى عليها".

ولم يضع السوداني مكافحة الفساد على رأس أولويات برنامجه الحكومي فحسب، بل حاول استرداد الأموال المسروقة، إضافة إلى التنسيق مع بعض الدول لتسليم المطلوبين عبر الشرطة الدولية (الإنتربول).

ومؤخراً، أصدرت الحكومة العراقية أوامر قبض دولية شملت عدداً من المسؤولين السابقين المقيمين خارج العراق في إطار ما يعرف باسم "سرقة القرن" التي تجاوزت 2.5 مليار دولار، سُرقت من "الأمانات الضريبية" بعمليات سحب نقدي غير مشروعة خلال عامي 2021 و2022.

العراق
البرلمان العراقي – رويترز

وتستهدف أوامر القبض، مدير مكتب رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، ورئيس جهاز المخابرات السابق رائد جوحي، والسكرتير الخاص للكاظمي، أحمد نجاتي، ووزير المالية السابق علي علاوي، ومستشار الإعلام السابق للكاظمي مشرق عباس.

وقال رئيس هيئة النزاهة الاتحادية المُعيّن من رئيس الوزراء القاضي حيدر حنون، إن جميع المطلوبين في "سرقة القرن" لا تقل عملية استحواذ الواحد منهم عن 100 مليار دينار عراقي (77 مليون دولار)".

وأضاف في تصريحات صحفية، أن "الجريمة كبيرة وعدد المتهمين فيها يزيد عن 48 متهماً"، أبرزهم رجل أعمال عراقي يدعى "نور زهير" الذي أعاد لخزينة الدولة نحو 292 مليون دولار من الأموال المسروقة منذ الإفراج عنه بكفالة في نوفمبر الماضي.

ومطلع الشهر الجاري، أعلنت السلطات العراقية استرداد مسؤولَين حكوميَّين مدانين بقضايا فساد مالي هربا إلى سلطنة عُمان. وقالت هيئة النزاهة الاتحادية، وهي هيئة شبه مستقلة خاضعة لرقابة مجلس النواب ومكلفة بمكافحة الفساد أنها تمكنت من استرداد مسؤوليْن حكوميَّين مدانَين بقضايا فساد مالي هربا إلى سلطنة عُمان.

وبيَّنت أن اعتقالهما جرى بالتعاون مع السلطات العُمانية والشرطة الدولية (الإنتربول)، وهما المدير العام للتخطيط العمراني في وزارة الإعمار والإسكان، والمدير العام لدائرة زراعة محافظة الأنبار سابقاً.

العراق.. أكثر من 360 مليار دولار منهوبة

وأعلن رئيس هيئة النزاهة، القاضي حيدر حنون، عن تحرك لتنظيم "إشارات حمراء" من "الإنتربول" بحق المطلوبين، وقال حنون إن القضاء سيطلب أيضاً إصدار إشارات حمراء للسكرتير الخاص ومستشار سياسي لرئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي.

وتشكك قوى سياسية تتبنى معارضة الحكومة العراقية في وعود رئيس الوزراء بالقضاء على الفساد. وفي مايو/أيار الماضي قالت حركة "وعي" المعارضة إن وعود السوداني "ما زالت حبراً على ورق".

واتخذت الحكومة بعض الإجراءات للحد من الفساد، منها عزل بعض المسؤولين عن الفساد وتقديمهم للقضاء ضمن حملة ابتدأت في محافظات نينوى والبصرة والأنبار ومحافظات أخرى.

وشمل ذلك عدداً من رؤساء الدوائر المعنية بالعقارات والضرائب وغيرها، لكن الحملة "تلكأت" لأسباب غير معروفة، لكن الحكومة لا تزال تعلن أنها ملتزمة بمكافحة الفساد، ومصممة على القضاء عليه.

لكن ما تعرف بأنها "سرقة القرن" في العراق ربما لا تمثل سوى قمة جبل الجليد، إذ تشير أرقام متفرقة إلى أن إجمالي الأموال المنهوبة يتجاوز 300 مليار دولار، فيما أوردت وكالة الأنباء العراقية، العام الماضي، أن إجمالي الرقم يبلغ 360 مليار دولار، بينما يقدرها برلمانيون بـ 450 مليار دولار.

وكانت هيئة الضرائب العراقية قد وجَّهت، العام الماضي، اتهامات لخمس شركات خاصة بسرقة أكثر من 2.5 مليار دولار، من أموال الهيئة، بالتنسيق مع عدد من الموظفين في وزارة المالية، مما يجعلها تصنف أكبر سرقة في تاريخ العالم.

العراق الفساد
العملة العراقية – توضيحية / رويترز

والأموال المسروقة استقطعت من قِبل الشركات والأفراد الذين لديهم مشاريع مع الحكومة، أو من خلال استيراد البضائع، عبر دفعهم 10% من إجمالي المبلغ، الذي يسترد بعد الانتهاء من المشروع.

وكانت الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في العراق في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 تسعى بالأساس إلى وضع حد لسرطان الفساد المستشري في البلاد، والذي تسبب في انهيار شبه تام للخدمات العامة والبنية التحتية، رغم الثروات الضخمة التي تعج بها بلاد الرافدين من نفط وموارد طبيعية أخرى أبرزها الزراعة.

لكن رغم الدماء التي سالت بغزارة ورغم إجراء انتخابات عامة مبكرة عام 2021، فإن الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد لم تتحسن كثيراً واستغرق تشكيل الحكومة عاماً كاملاً بسبب التناحر بين القوى السياسية المتعددة وتأثير القوى الخارجية، وخاصة إيران والولايات المتحدة.

ما فرص نجاح مكافحة سرطان الفساد؟

على أية حال، تشكلت حكومة السوداني وبدأت الحرب على الفساد، لكن مستوى زخم مكافحة الفساد عادة ما يلبث أن يتراجع بعد أسابيع أو أشهر، وحصر المعالجات ضمن نطاق ضيق لا يطال رؤوس الفساد، ومنهم كبار مسؤولين سياسيين ورسميين.

والآن تواجه حكومة السوداني جملة من التحديات في مواجهتها مع الفاسدين. وتستغل بعض القوى المتنفذة سواء المسلحة منها، والتي لديها أجنحة سياسية في الإطار التنسيقي الحاكم، أو الأحزاب السياسية، نفوذها في مؤسسات الدولة عبر مسؤولين في مناصب رفيعة لمزيد من المكاسب المالية.

كما أن نفوذ القوى المتنفذة العاملة منها خارج إطار المؤسسات الأمنية الرسمية، ساهم بشكل ما في اتساع حجم الفساد وتفشيه، مع الإقرار بصعوبة محاسبة كبار الفاسدين، أو الرقابة على أموالهم وممتلكاتهم أو طرق الحصول عليها.

الحشد الشعبي العراق
عناصر وأنصار الحشد الشعبي يرفعون أعلام إيران في مناسباتهم وفعالياتهم – رويترز

وهذا ما رصده تقرير نُشر الشهر الماضي للمركز العربي في واشنطن عنوانه "حكومة السوداني تفشل في محاربة الفساد"، يلقي الضوء على كون الفساد هو العقبة الأبرز أمام تحقيق تقدم تنموي حقيقي في العراق وأمام التخلص من النفوذ الإيراني المتغلغل في البلاد منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

وفي هذا الإطار، كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تطرح مشروعات طموحة في مجالات التنمية وإصلاح البنية التحتية، لكن تلك المشاريع لم ترَ النور تقريباً لأسباب متنوعة. لكن حكومة السوداني اتجهت نحو فتح أبواب العراق اقتصادياً على الجيران في كل الاتجاهات، وتجسّد ذلك من خلال طرح مشاريع اقتصادية إقليمية عديدة انطلاقاً من أراضيه في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.

ومن أحدث تلك المشاريع "طريق التنمية" بتكلفة 17 مليار دولار للربط البري بين دول الخليج وتركيا عبر ميناء الفاو الكبير جنوب العراق، وتم مؤخراً الإعلان عن هذا المشروع بحضور ممثلين عن الدول المجاورة والقريبة من العراق، وعلى رأسها إيران وتركيا والسعودية.

وترى الحكومة العراقية برئاسة السوداني أن المشروع يمثل "ركيزة لاقتصاد مستدام متنوع لا يعتمد على النفط وعقدة ارتباط تخدم جيران العراق ومنطقة الشرق الأوسط". وهكذا بدا أنه بعد سنوات من الصراع بين قوى سياسية لها ولاءات ومصالح متناقضة، يبدو أن حكومة محمد شياع السوداني قد وجدت الحل السحري لأزمات العراق، فهل ينجح مسار الاقتصاد والتنمية في تفتيت شبكة الفساد أخيراً؟

تحميل المزيد