استراتيجية إيران في منطقة الشرق الأوسط تتغير رغم أن هدفها لم يتغير، وهو الهيمنة على المنطقة.
فقبل أعوام كانت إيران تتحرش بدول الخليج، مثلما حدث مع الإمارات والسعودية، وتتجنب التحرش مع الولايات المتحدة، ولا ترد على الهجمات الإسرائيلية بقوة، ولكن اليوم طهران تفعل العكس، إنها تتودد للدول العربية، بينما تصعد تحرشاتها بالولايات المتحدة.
هدف إيران هو الهيمنة على المنطقة
منذ اندلاع ثورة عام 1979، حاولت القيادة الإيرانية -بكل قوتها- فرض الهيمنة على الشرق الأوسط، وطرد الولايات المتحدة وإسرائيل من المنطقة. وطوال تلك الفترة، اعتمدت طهران اعتماداً كبيراً على سياسة العصا (الترهيب) لتحقيق ذلك: عن طريق محاولة إخضاع الدول العربية بالابتزاز، أو تشجيع قوى التمرد الداخلية بالمنطقة، خاصة الجماعات المسلحة الشيعية الموالية لها، مع شن حملة متواصلةٍ بلا كلل ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولم تتغير تلك الأهداف، لكن يبدو أن الإيرانيين عدّلوا استراتيجيتهم الكبرى بشكلٍ جوهري، حسبما ورد في تقرير مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وتقول المجلة "لا يمكننا التحقق من ذلك بصورةٍ مؤكدة لأن آليات صنع القرار الإيرانية لطالما كانت غامضة، لكن يبدو وكأن إيران اكتشفت فجأةً إمكانية استخدام سياسة الجزرة (الترغيب) كأداة مفيدة في ساحة السياسة الخارجية".
وأينما نظرت اليوم، ستجد طهران تقدم محفزات إيجابية للتعاون وتقلص من تكتيكات ليّ الذراع التي اعتمدتها بنسبةٍ كبيرة. لكن السؤال الذي تواجهه الولايات المتحدة الآن يدور حول كيفية تعديل سياستها الخاصة في المقابل.
استراتيجية إيران الجديدة.. مصالحة مع السعودية ومفاوضات مع مصر والبحرين
هناك العديد من الأمثلة على التحوّل في السياسة الإيرانية. فبفضل الوساطة الصينية، أبرمت إيران والسعودية اتفاقيةً يبدو أنها تمنح الرياض أكثر مما ستحصل عليه طهران -في ظاهرها.
كما استأنف الإيرانيون علاقاتهم الدبلوماسية مع الإمارات. وتتطلع طهران اليوم إلى التعاون مع أبوظبي في مجالات النقل الجوي والبنية التحتية كذلك.
وبدأ الإيرانيون أيضاً محادثات هادئة مع البحرين، التي لم تغفر حكومتها المحاولات الإيرانية المتعددة لإشعال ثورةٍ على يد الأغلبية الشيعية في البلاد. فضلاً عن أن إيران أبرمت اتفاقية تنمية جديدة مع عمان، وتعمل على تطبيع علاقاتها مع مصر حالياً.
واستأنف الإيرانيون كذلك محادثاتهم مع تركيا (وروسيا ونظام الأسد السوري)، من أجل العثور على حلٍّ لمشكلاتهم المتبادلة في العراق وسوريا. وأبرموا أيضاً اتفاقيةً لمقايضة النفط بالغاز مع العراق، الذي يهيمن حلفاء إيران على حكومته اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى.
طهران تقترح إقامة منتدى إقليمي يستثني إسرائيل وأمريكا
لكن أكثر أمر صادم هو أن إيران اقترحت إقامة منتدى إقليمي دون مشاركة الولايات المتحدة أو إسرائيل، وهي فكرة تحظى ببعض الزخم اليوم بدرجةٍ لم تكن لتخطر في بال أحد قبل 10 سنوات.
وليست الحياة ورديةً بالكامل بين الإيرانيين والعرب اليوم بالطبع. إذ ليس من السهل على طهران تغيير عاداتها القديمة، ولهذا عجزت عن تفادي الخلافات مع الكويت بسبب حقل غاز مشترك. ولم تتجنب كذلك خلافاتها مع الإمارات على 3 جزر استولى عليها الشاه قبل سقوطه، وخلافاتها مع السعوديين بشأن استمرارهم في إمداد الحوثيين بالأسلحة في اليمن. ومع ذلك، يُمكن وصف سياسة البلاد مؤخراً بأنها تمثل هجوماً ساحراً حقيقياً إجمالاً، وذلك حسب المعايير الإيرانية.
ولكن البحرية الإيرانية تواصل التحرش بالسفن الأمريكية
لكن كل مشاعر السلام، والحب، والصداقة الجديدة من إيران تجاه جيرانها لم تمتد إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. إذ يواصل الإيرانيون استخدام الهراوات قدر استطاعتهم على هذا الصعيد. حيث تواصل البحرية الإيرانية التحرش بالسفن الأمريكية في الخليج مثلاً، وهاجمت إيران أو صادرت ناقلات مرتبطة بالولايات المتحدة -أو إسرائيل- 5 مرات على الأقل خلال الأشهر الست الماضية.
كما زاد الإيرانيون من دعمهم لمختلف الجماعات المسلحة الفلسطينية. بينما رفع حلفاء ووكلاء إيران في الميليشيات الشيعية العراقية وتيرة تحرشهم بالقوات الأمريكية هناك. ويكرر الإيرانيون السيناريو نفسه في سوريا المجاورة بالتعاون مع حلفائهم السوريين والروس. علاوةً على أن واقعة الإفراج عن السجناء الأمريكيين مؤخراً تدل على حاجة إيران اليائسة للمال على ما يبدو، وذلك أكثر من كونها مبادرة اهتمام بتحقيق انفراجة حقيقية.
حلفاء واشنطن بالمنطقة متأكدون أنها لن تحميهم من التنمر الإيراني والسبب ترامب
ومن المرجح أن استمرار الانسلاخ الأمريكي من شؤون الشرق الأوسط قد فتح أبواب الفرصة أمام طهران.
إذ يخشى جميع الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة من أنها لن تحميهم من التخريب أو حتى العدوان الإيراني المباشر بعد اليوم.
وقد تعامل بايدن مع هذا الملف بأسلوب أفضل من سابقيه، لكن حلفاء الولايات المتحدة لم ينسوا كيف سخر ترامب من فكرة الدفاع عن السعودية والإمارات أمام الهجوم الإيراني المباشر عام 2019، حيث قال آنذاك إن بلاده مستعدة لمساعدة السعودية مقابل المال ولكن عليها أن تدافع عن نفسها، ، مؤكدا رغبته بتجنب الحرب مع طهران.
وأسفرت سخرية ترامب عن عكس مسار 40 عاماً (وربما 75 عاماً) من السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، ودون أن يدرك أنه يفعل ذلك على الأرجح.
ونتيجةً لذلك، شعر حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بضرورة تقليل اعتمادهم على واشنطن والبحث عن أصدقاء وداعمين محتملين جدد، وذلك على مدار السنوات القليلة الماضية. وكان هذا الأمر سبباً في سيل مغازلات بين دول الشرق الأوسط من ناحية، وبين الصين وروسيا والهند وبعض الدول الأوروبية من ناحيةٍ أخرى.
من المحتمل أن تكون السياسات الخارجية الإيرانية الجديدة بمثابة محاولة لاستغلال هذا الوضع. فبعد أن تعرضت الدول العربية للتخريب والعدوان على مدار 40 عاماً، صارت تلك الدول تدرك ما يُمكن لإيران فعله جيداً -وخاصةً في غياب الولايات المتحدة. ويبدو أن طهران تضيف إلى ذلك الترهيب الحقيقي أداة ترغيب أخرى، من أجل تحفيز العالم العربي على التخلي عن اعتماده على الولايات المتحدة وقبول الدور الإيراني.
طهران تواصل هجماتها على مصالح أمريكا لدفعها للرحيل
ولا شك أن إيران التي تقدم تقديم صورة أطيب وألطف تبدو جذابةً للدول العربية التي تشعر بالخوف حالياً نظراً لأن الأمريكيين يبدون أقل اهتماماً بالشرق الأوسط، وبسبب انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، وافتقار الصين إلى القوة العسكرية اللازمة للعب دور الرجل القوي إقليمياً. ولهذا أثبت الهجوم الساحر الإيراني الجديد فعاليته الشديدة، وبنجاحٍ محدود على الأقل حتى اليوم.
وفي غضون ذلك، يبدو أن العدوانية المتواصلة من طهران تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل تمثل استكمالاً لاستراتيجيتها العربية. وتؤمن إيران على الأرجح بأن الهجمات المتواصلة على المواطنين والمصالح الأمريكية في المنطقة ستساعدها في تسريع الرحيل الأمريكي.
هل باتت الدول العربية تفضل التريث في التطبيع تحسباً من ردة الفعل الإيرانية؟
أما بالنسبة لإسرائيل، فلا شك أن زيادة سخونة الصراع هناك تساعد إيران في وضع الدول العربية أمام معضلة عويصة: فإما أن تنضم تلك الدول إلى إيران وتنعم بالسلام والتجارة، أو تنضم لإسرائيل وتواجه مخاطر التوتر.
ومن المؤكد أن البعد النسبي عن إسرائيل له مزاياه عند الكثير من الأنظمة العربية، وخاصةً في ظل عزم الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة على التحرك ضد الفلسطينيين بطرقٍ يبغضها حتى العرب الأقل حماساً للقضية. ولهذا فإن النهج المزدوج القائم على التودد إلى الدول العربية، وزيادة الهجمات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، يهدف على الأرجح إلى إثارة القلاقل بين الدول العربية وبين خصوم إيران الرئيسيين.
وأكثر ما تخشاه إيران هو المصالحة بين الولايات المتحدة وبين حلفائها العرب، وزيادة التقارب بين أولئك الحلفاء وبين إسرائيل. ولا شك أن هذا النهج الاستراتيجي الجديد يُشير إلى أن إيران أدركت أخيراً أن تنمرها يدفع خصومها للتحالف ضدها، ومن هنا جاء التركيز الجديد على سياسة "فرّق تسُد".
ولا خلاف على أن الدافع الرئيسي لإبرام اتفاقيات إبراهام حتى الآن، وغيرها من أوجه التقارب بين الدول العربية وإسرائيل، هو الرغبة في الاتحاد بسبب الخوف المشترك من إيران وحلفائها وأتباعها.
وتقول المجلة الأمريكية "يُمكن القول إن إدارة بايدن تتصرف بشكلٍ صحيح في هذا الصدد، حيث ترى أن المصالحة السعودية الإسرائيلية والتحالف النهائي بينهما -سواءً كان رسمياً أو غير رسمي- سيمثل خطورةً على إيران، ومكسباً كبيراً محتملاً بالنسبة للولايات المتحدة أيضاً. إذ إن جمع أقوى جيش إقليمي مع أقوى اقتصاد عربي سيؤدي إلى خلق عقبة كبيرة في وجه المزيد من العدوان الإيراني. ولهذا يعمل الإيرانيون جاهدين على استمالة السعوديين والدول العربية الأخرى، وإبعادهم عن الإسرائيليين والولايات المتحدة.
وتستحق إدارة بايدن الثناء لإدراكها ما ستسفر عنه انفراجة سعودية-إسرائيلية كهذه، وهي تعمل جاهدة على تحقيقها. لكن هذا الأمر ينطوي على خطرٍ كامن أيضاً. إذ لا شك أن التحالف الإسرائيلي السعودي سيمثل تهديداً دائماً لإيران، لكن استفادة الولايات المتحدة منه ستعتمد على مدى مشاركتها في ذلك التحالف. وتجدر الإشارة إلى أن الإيرانيين لا يحترمون قدرات الجيش السعودي (أو حتى الإسرائيلي) بقدر احترامهم لقوة الجيش الأمريكي، أي إن قدرات الجيش السعودي لم تردعهم مطلقاً بقدر ما ردعتهم قدرات الجيش الأمريكي.
وبناءً على ما سبق، فإن غياب الدور الأمريكي النشط في المنطقة وإقامة تحالف إسرائيلي سعودي سيؤديان إلى إثارة عدوان إيراني أكبر وبدء تصعيد آخر. وسيسفر هذا عن صراع أوسع نطاقاً في المنطقة قد يكون مخرباً، وربما للولايات المتحدة والعالم بأسره إذا أثر الصراع على تدفقات الطاقة من الشرق الأوسط.
ولهذا يجب أن يظهر التحالف الإسرائيلي السعودي كجزءٍ من التزام أمريكي تجاه الشرق الأوسط، وليس كبديل عنه. بينما يبدو أن إيران تعلمت حيلةً جديدة، لكننا سنرى ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفعل الأمر نفسه أم لا.