تتباهى ألمانيا منذ سنوات بقدرتها على "دمج" المهاجرين واللاجئين في المجتمع، من خلال برامج مساواة وتكافؤ فرص، فما مدى صحة هذا التوجه؟
دراسة ألمانيّة قدمت الإجابة بالنفي؛ إذ وجدت الدراسة التي أجراها "معهد أبحاث التوظيف" (IAB)، الممول من وكالة التوظيف الفيدرالية في ألمانيا، أن 41% من اللاجئين الذين يعيشون في ألمانيا منذ 6 سنوات، قالوا إنهم يعملون في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية، وقال آخرون إنهم يتلقون أجوراً أقل بكثير من نظرائهم الألمان في الوظيفة نفسها.
ضابط شرطة أم سائق تاكسي؟
تناول تقرير لشبكة DW قصصاً لبعض اللاجئين في ألمانيا، يكشف ما يعانيه هؤلاء من البيروقراطية، التي قد تكون معتادة في بلدانهم الأصلية، لكنهم لم يتوقعوا مواجهتها في الدولة الأوروبية، وكيف أثرت على معيشتهم بشكل محبط للغاية.
فلم يكن طريق الشاب الفلسطيني عباده حيجو في ألمانيا مفروشاً بالورود منذ أن وطئت قدماه أراضيها قبل أربع سنوات. قبل مجيئه إلى ألمانيا كان عباده، البالغ من العمر 30 عاماً، قد حصل على تدريبات أمنية وشرطية في تركيا، وقبل ذلك شهادة عليا في العلوم السياسية، وكان يعمل ضابطاً في جهاز الشرطة في الضفة الغربية، ضمن السلطة الفلسطينية.
لكن عبادة واجهه سوء الحظ، إذ تعرض للتهديدات بسبب عمله، ما دفعه إلى مغادرة بلاده مع زوجته، وشدَّ الرحال إلى ألمانيا، حيث تقدم بطلب لجوء، لكن ألمانيا لم تمنحه حق اللجوء، بل حصل على ما يُعرف بـ"منع الترحيل"، وهو ما يعني أنه لا يمتلك إقامة رسمية في ألمانيا.
أصبح عبادة مقيماً في ألمانيا هو وأسرته، بغض النظر عن المسمى الذي يقيم تحت مظلته، فهو مقيم بشكل شرعي، ومن ثم عليه أن يعمل كي يعول أسرته، لكن على الرغم من أنه حاصل على تدريبات في الشرطة، وشهادة في العلوم السياسية والإدارة العامة من تركيا، إلا أنه يعمل حالياً سائق تاكسي في برلين، بينما كانت وظيفته الأولى في ألمانيا عبارة عن عامل تسليم الطرود، حيث قضى أربع سنوات في توصيل الطرود إلى المنازل.
ولا يمكن لعباده الالتحاق بجهاز الشرطة الألمانية، حيث إنه لم يحصل على الجنسية الألمانية، ورغم حالة اليأس فإن بصيص أمل لاح في الأفق؛ إذ قبل شهرين تمكّن في نهاية المطاف من الحصول على اعتراف بدرجته العلمية في العلوم السياسية.
أكثر من أربع سنوات قضاها الشاب الفلسطيني اللاجئ كي يتمكن من معادلة شهادته الجامعية في ألمانيا؛ كي يتمكن من أن يجد وظيفة تتناسب مع مؤهلاته، أليس هذا أمراً مثيراً للدهشة؟ قبل 5 سنوات كان رئيس رابطة أرباب العمل الألمان قد أعلن أن اندماج اللاجئين في ألمانيا جاء أفضل من المتوقع، مضيفاً أن البلاد بحاجة لمزيد من المهاجرين.
وقال المسؤول وقتها، إنغو كرامر، في مقابلة مع صحيفة "أوغسبورغر ألغماينه"، أواخر عام 2018، إن المستشارة (السابقة) أنجيلا ميركل كانت مُحقّة بقولها بعبارتها "سننجز ذلك"، التي كانت تعني بها إدماج اللاجئين في عام 2015. وأردف قائلاً: "إن ذلك الإدماج يجري بصورة أفضل مما كان متوقعاً".
كابوس معادلة الشهادات في ألمانيا
شرح عبادة تجربته الخاصة بمعادلة الشهادات في ألمانيا، حيث قال لدويتش فيلة: "أكدت السلطات الألمانية أنني حصلت على درجة علمية في هذا المجال في بلد أجنبي، وجرى إبلاغي بحصولي على موعد في مكتب العمل في نهاية الشهر، لأني أرغب في أن أعمل موظفاً في مجال الإدارة العامة".
وبحسب اللوائح والقوانين، كان من المفترض ألا تستغرق عملية الاعتراف بشهادة عباده التي حصل عليها في تركيا تسعة أشهر على أقصى تقدير، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.
وعن ذلك قال الشاب الفلسطيني: "طلبت السلطات الألمانية تقديم وثائق كثيرة، وأكدت على ضرورة سفري من جديد إلى تركيا، لم تفهم السلطات الألمانية أني فلسطيني، ولست مواطناً تركياً، ولا يمكنني مغادرة الأراضي الألمانية، حيث إنني أعيش في البلاد بموجب إقامة "منع الترحيل". استلزم الروتين الكثير من الشد والجذب مع السلطات، ما سبّب لي الكثير من الضغط النفسي".
لكن عباده ليس الحالة الوحيدة التي تعاني في ألمانيا، إذ عانت سناء أبو قلم من صعوبات مماثلة منذ قدومها إلى ألمانيا، عقب فرارها من الصراع في بلدها سوريا قبل خمس سنوات، لتكون وجهتها النهائية مدينة دريسدن شرق ألمانيا، لتعاني من عنصرية شبه يومية بسبب حجابها، ففي مقابلة مع DW، قالت: "تعاني المرأة المحجبة من الكثير من المشاكل، العنصرية مشكلة حقيقية".
ورغم أنها كرّست سنوات عديدة في تعلم اللغة الألمانية، فإن سناء لم تتمكن من إنجاز عملية الاعتراف بشهاداتها ومؤهلاتها في مجال الطب البديل، لتجد نفسها في نهاية المطاف تعمل في متجر للأحذية. وأضافت: "استغرق الأمر وقتاً طويلاً، كنت أحلم بالعمل أخصائية اجتماعية، لكن الأمر في غاية الصعوبة".
ولا تعد تجربة عبادة وسناء استثناء؛ إذ وجدت الدراسة الحديثة لمعهد أبحاث التوظيف أن ما يقرب من نصف اللاجئين الذين يعيشون في ألمانيا منذ 6 سنوات قالوا إنهم يعملون في وظائف أقل من وظائفهم في بلدانهم الأصلية. وكشفت الدراسة كذلك أن أكثر من نصف اللاجئين الأوكرانيين يعملون في وظائف أقل بكثير من مؤهلاتهم.
رواتب متدنية للاجئين في ألمانيا
يؤكد ما سبق عدم التطابق بين مؤهلات اللاجئين من جهة، وبين الوظائف الذين يحصلون عليها في ألمانيا من جهة أخرى، وهو ما أشار إليه فيليب جاشكي، الخبير في "معهد أبحاث التوظيف" وأحد المشاركين في الدراسة. ويعزو ذلك إلى طبيعة ضوابط العمل في ألمانيا، مضيفاً لدويتش فيلة: "يمكن الحصول على وظائف في دول أخرى دون الحصول على مؤهلات وظيفية رسمية، لكن الأمر في ألمانيا مختلف؛ إذ يشترط للحصول على الكثير من الوظائف فترة تأهيل تصل إلى ثلاث سنوات".
وفيما يتعلق باللاجئين، يقول الباحث إن عدم المعرفة باللغة الألمانية ربما يكون من بين الأسباب، ويضيف: "عند المقارنة بين اللاجئ والمهاجر فإن اللاجئين في الغالب يفرون من بلدانهم بشكل مفاجئ، بسبب الصراعات والتجنيد الإجباري والاضطهاد، ما يعني أنهم يصلون في نهاية المطاف إلى دول دون استعداد للعيش والعمل فيها".
ورغم ذلك، يرى هربرت بروكر، رئيس قسم الأبحاث في "معهد أبحاث التوظيف"، أن إجمالي معدلات التوظيف تتسم في الوقت الراهن بالإيجابية. وقال للشبكة الألمانية: "اعتقدنا في عام 2015 أنه إذا بلغنا معدل تشغيل بنسبة 50% بعد خمس أو ست سنوات، فسوف نصل إلى حالة جيدة. لكننا بلغنا نسبة توظيف 54% في عام 2021، رغم أن تلك الفترة صادفت جائحة كورونا".
وأشار إلى أنه كلما طالت مدة بقاء اللاجئين في ألمانيا تزايدت فرص عملهم، قائلاً: "بلغ معدل التوظيف 62% بين اللاجئين الذين قضوا 7 أو 8 سنوات في ألمانيا. وهذا يعد أمراً جيداً لأنه يمثل ما بين 10 إلى 12 نقطة مئوية أقل مما عليه الوضع بين سكان ألمانيا من غير اللاجئين".
الجدير بالذكر هنا هو أن معهد أبحاث التوظيف يجرى تقييمات بشكل منتظم، لتحديد مدى اندماج المهاجرين في سوق العمل في ألمانيا منذ عام 2016. واستندت الدراسة الحالية إلى بيانات أفاد بها بشكل طوعي طالبو لجوء وصلوا إلى ألمانيا بين عامي 2013 و2019.
وقالت الدراسة إن "المجموعة الكاملة التي استطلعت آراءها تتألف من أكثر من 10 آلاف شخص، جرت مقابلتهم مرة واحدة أو 6 مرات، من بينهم قرابة 9 آلاف لاجئ، تتراوح أعمارهم ما بين 18 و64 عاماً، أي في سن العمل، وصلوا ألمانيا منذ عام 2013".
وبحسب التقديرات، فإن 65% من اللاجئين الذين يعيشون في ألمانيا منذ 6 سنوات عملوا بدوام كامل عام 2021، فيما زاد متوسط الأجر الشهري الإجمالي للاجئين الذين يعملون بدوام كامل، من راتب بلغ 1660 يورو خلال العامين الأولين من وجودهم في ألمانيا، إلى 2037 يورو في السنة السادسة لهم في البلاد.
وقال هربرت بروكر، رئيس قسم الأبحاث في "معهد أبحاث التوظيف"، إن أعمار اللاجئين أقل بكثير من متوسط أعمار الألمان، مضيفاً أن "الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، نسبة رواتبهم تبلغ 75% من نسب رواتب أقرانهم من الفئة العمرية نفسها، لذا يمكن القول إن الفجوة ليست كبيرة، وسوف تتلاشى بمرور الوقت".