دخلت الحرب في السودان شهرها الخامس، وسط تحوُّل شوارع الخرطوم إلى مقبرة بالمعنى الحرفي للكلمة، فإلى أين يتجه الصراع الأمور بعد أن خرجت الأمور عن السيطرة بالفعل؟
وكان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان 2023، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد؛ الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
والثلاثاء 15 أغسطس/آب، قالت الأمم المتحدة إن ما يربو على المليون شخص فروا من السودان إلى الدول المجاورة، فيما يعاني السكان في الداخل من نفاد الغذاء ويموت بعضهم بسبب غياب الرعاية الصحية بعد أربعة أشهر كاملة من اندلاع الصراع.
الجثث في شوارع الخرطوم
وأدت الاشتباكات الدامية، التي لم تفلح سلسلة هدنات في إيقافها، إلى أكثر من 3 آلاف قتيل، أغلبهم مدنيون، وأكثر من 4 ملايين نازح ولاجئ داخل البلاد وخارجها، بحسب الأمم المتحدة.
ورصد تقرير للأناضول الأوضاع المريعة في شوارع الخرطوم؛ حيث أصبح معتاداً رؤية جثث ملقاة في الشوارع، وربما يكون من الصعب حتى التعرف على هوية أصحابها، وينتهي بها الحال إما متحللة حيث هي أو مدفونة في أي مكان متاح.
فهذا نداء صغير للتعرف على هوية مواطن خمسيني وجد مقتولاً في الشارع نشره ناشطون من حي "أركويت" شرقي العاصمة السودانية الخرطوم، وأرفق النداء بصورة الشخص المقتول حتى يتعرف أهله عليه، مع توضيح أنه سيتم دفن جثمانه في ميدان صغير بالحي وبالفعل تم الدفن.
النور سليمان، أحد سكان حي "أركويت"، قال للأناضول: "خرجنا للشارع بعد أن توقف القصف والاشتباكات القوية بين الجيش وقوات "الدعم السريع" لنجد مواطناً في الخمسينيات من عمره ملقى في الشارع وهو مقتول". وأضاف: "نشر شباب الحي صوراً للمواطن حتى يتعرف عليه ذووه وقمنا بدفنه في ميدان صغير بالحي لصعوبة نقله إلى المقابر كما السابق قبل اندلاع الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع. هذه واحدة من حالات الدفن الكثيرة لموتي الخرطوم منذ أيام الحرب المستمرة لأربعة أشهر عمر القتال بين الجيش والدعم السريع"، بحسب سليمان.
وفي هذه الظروف العصيبة، يلجأ السكان في عدة أحياء بالخرطوم إلى دفن الموتى مضطرين في أماكن يحددونها وفق ما تفرضه معطيات القتال حينها، وفق ما يقولون للأناضول.
ومنذ بداية القتال بين الجيش وقوات "الدعم السريع" شهدت جامعة الخرطوم أول حالة دفن لطالب جامعي داخل حرمها. وقتل الطالب جراء الاشتباكات أثناء تواجده وآخرين في مقر الجامعة وسط الخرطوم لأيام لصعوبة خروجهم حينها، حيث اضطرت إدارة الجامعة إلى اتخاذ قرار الدفن لصعوبة نقل الجثمان جراء الاشتباكات المتواصلة آنذاك.
ولم تكن تلك الحالة الوحيدة التي تم تناولها بكثافة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لتأتي بعدها حادثة دفن الشقيقتين أخصائية التخدير ماجدة غالي، والطبيبة ماجدولين غالي في حديقة منزلهما بحي العمارات القريب من القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم، بعد تدخل أطباء ومتطوعين للقيام بمهمة الدفن منتصف مايو/أيار الماضي.
وفي 8 أغسطس/آب الجاري قالت منظمة "أنقذوا الأطفال" الإنسانية (بريطانية غير حكومية تُعنى بالدفاع عن حقوق الطفل حول العالم) في بيان، إن "آلاف الجثث تتحلل في شوارع الخرطوم على خلفية عدم سعة المشارح لحفظ الجثث من ناحية، وتأثير انقطاع الكهرباء المستمر على نظم التبريد من ناحية أخرى".
وحذر البيان من "خطر تفشي الأمراض والأوبئة في شوارع الخرطوم التي مزقتها حرب بين الجيش وقوات الدعم السريع مستمرة منذ 4 أشهر". ونقلت المنظمة عن نقابة الأطباء السودانية قولها: "لم يتبقَّ أي طاقم طبي في المشارح، تاركين الجثث مكشوفة على حالتها".
وقال مدير صحة وتغذية الأطفال في المنظمة بشير كمال الدين حميد، إن "عدم القدرة على دفن الموتى بكرامة هي معاناة أخرى للعائلات، إلى جانب الأسى والألم"، حسب البيان نفسه.
جثث ملقاة في الشوارع والأزقة
قال شهود عيان للأناضول إن عشرات الجثث تنتشر في شوارع السودان لا سيما ضمن مناطق الاشتباكات بالخرطوم وبحري (شمال) وأم درمان غربي العاصمة، وسط تحذيرات من كارثة صحية محتملة.
وأضاف الشهود أن هناك جثثاً بقيت لأيام وتحللت في مناطق لا يمكن الوصول إليها؛ لأنها قريبة من أماكن القصف، وسط تحذيرات من أن يؤدي ذلك إلى انتشار الأمراض الخطيرة والأوبئة.
ورغم المجهودات الإنسانية التي تقوم بها المنظمات الانسانية المعنية فإن اشتداد المعارك داخل الأحياء السكانية يفاقم من أزمة دفن الموتى مع انتشار الجثث في أحياء المدينة.
وفي 6 يوليو/تموز الماضي قالت جمعية "الهلال الأحمر" السوداني، إن فرقها "جمعت خلال أسبوع واحد أكثر من 100 جثة من شوارع الخرطوم فقط"، لكنه أشار إلى أنه "لم يعد بمقدور تلك الفرق الاستمرار في العمل بالعاصمة ودارفور، بسبب نهب سياراتهم".
وبحسب آخر إحصائية للجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر السوداني فإن "فرقاً مشتركة دفنت حوالي 1000 جثة كانت منتشرة في الشوارع منذ بداية القتال".
ويحفر السودانيون القبر في الأماكن التي يحددونها على الطريقة الإسلامية بحفر متر من الأرض، وأن يكون القبر لحداً (حفرة قدر قامة الميت)، وذلك بعد تكفينه، ويسجى الجثمان على الطريقة الإسلامية الشرعية باتجاه القبلة.
يصف الكاتب والصحفي السوداني يوسف حمد الذي يحدث في الخرطوم بأنه "تراجيديا لم يسبق لها مثيل، ولم يوثق التاريخ لمثل هذه المأساة".
ويقول في حديثه للأناضول: "باتت شوارع الخرطوم مدمرة، تنتشر فيها على نطاق واسع أرتال من الجثث المسجاة على الطرقات". وأضاف: "عملياً سيضطر الناس إلى نبش هذه القبور مرة أخرى متى ما توقفت الحرب وعاد الهدوء، وربما تقوم بذلك الحكومة، أو أهل الضحايا. لكن في الحالتين، فإن الناس سيكونون بحاجة إلى أطباء نفسانيين واستشارات نفسية هائلة تساعد على الخروج من هذه الفواجع الإنسانية غير المسبوقة".
عاصمة السودان.. أطلال مدينة عريقة
هكذا تواجه الخرطوم الحرب في شوارعها ويدفن السكان من يستطيعون دفنه تحت وقع الرصاص والمدافع بعد أكثر من 200 عام على تأسيسها كمدينة حديثة.
وأُسست الخرطوم كمدينة على يد الجيش العثماني في عهد محمد علي باشا عندما أرسل جيشه لضم السودان إلى مُلكه بقيادة ابنه الثالث إسماعيل كامل باشا عام 1821م، واتخذها الأتراك في البداية معسكراً لجيوشهم ثم تحولت إلى عاصمة لهم في عهد عثمان جركس باشا البرنجي عام 1824م وذلك بعد تعيينه حكمداراً (حاكماً) على السودان خلفاً للحكمدار محمد بك الدفتردار.
والخرطوم هي ملتقى النيلين الأبيض والأزرق ظلت موطناً للإنسان منذ عهود سحيقة، وبينت دراسات أثرية وجود مستوطنات بشرية على موقع الخرطوم الحالي نحو 4000 عام قبل الميلاد.
ووجد فيها بقايا مستوطنات يرجع تاريخها إلى عهد نبتة ومروي (750 قبل الميلاد إلى 350 م) وكذلك في عهد الممالك المسيحية (450 إلى 1504م).
وعقب استقلال السودان من الاستعمار البريطاني عام 1956 صارت الخرطوم عاصمة البلاد؛ حيث أطلق عليها تسمية العاصمة المثلثة حيث تضم 3 مدن "الخرطوم وأم درمان وبحري".
وألحق القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية الدمار بالعاصمة الخرطوم وتسبب في وقوع هجمات بدوافع عرقية في دارفور، وهو ما يهدد بإدخال السودان في حرب أهلية طويلة الأمد وزعزعة استقرار المنطقة.
وقالت وكالات الأمم المتحدة في بيان مشترك: "الوقت ينفد أمام المزارعين لزراعة المحاصيل التي ستطعمهم هم وجيرانهم. الإمدادات الطبية شحيحة. الوضع يخرج عن السيطرة". بينما قال مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني في خطاب، مساء الثلاثاء، إن الحرب ستنتهي على طاولة المفاوضات، وأشار إلى المصاعب التي يتحملها المواطنون، بحسب رويترز.
ولا يقتصر القتال والدمار على الخرطوم، إذ قال شهود لرويترز إن العنف احتدم في مدينة نيالا بغرب السودان ومناطق أخرى بولاية جنوب دارفور الأحد 13 أغسطس/آب، مما يهدد باكتواء المنطقة بنيران الحرب المستعرة في السودان منذ شهور. وكانت اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية قد اندلعت في بعض الفترات بمدينة نيالا ثاني أكبر مدن البلاد والمركز الاستراتيجي لإقليم دارفور الهش.
وقال شهود في تصريحات لرويترز إن أحدث موجة من الاشتباكات استمرت ثلاثة أيام وأطلق خلالها الجيش وقوات الدعم السريع قذائف مدفعية على أحياء سكنية. وتسبب الأعمال القتالية في تدمير شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات.
وذكرت هيئة محامي دارفور، التي تراقب حقوق الإنسان، إن ثمانية أشخاص على الأقل قُتلوا يوم السبت وحده. وقال شهود إن قتالاً اندلع خلال الأيام الماضية في منطقة كبم التي تبعد نحو 100 كيلومتر غربي نيالا؛ مما أودى بحياة العشرات من الأشخاص.
وقالت هيئة محامي دارفور إن رجالاً من قبيلة عربية ومجهزين بمركبات تابعة لقوات الدعم السريع هاجموا المنطقة وأحرقوا جزءاً من سوق كبم وداهموا مركز الشرطة في هجوم على قبيلة عربية أخرى. وأضافت أن الهجوم أسفر عن مقتل 24 شخصاً. وأعلنت عدة قبائل عربية الولاء لقوات الدعم السريع.
وقالت هيئة محامي دارفور: "تنبه الهيئة المكونات الاجتماعية بدارفور من خطورة نقل الصراعات المسلحة إلى دارفور… وعدم الانجرار في الصراعات التي دوافعها السلطة بالمركز (بالأساس)".
وحذفت شركة ميتا يوم الجمعة صفحات رسمية تابعة لقوات الدعم السريع على منصة فيسبوك لانتهاكها سياستها المتعلقة "بالمنظمات والأفراد الخطرين".
ويهدد القتال العنيف في دارفور بإعادة الإقليم إلى الصراع الدامي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما ساعدت ميليشيات الجنجويد الجيش في سحق تمرد مجموعات أغلبها غير عربية. ووُلدت قوات الدعم السريع من رحم ميليشيات الجنجويد.