يسيطر الترقب الحذِر على الموقف في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين جنوب لبنان، بعد نحو أسبوعين من وقف إطلاق النار، فهل ينجح توازن القوى في المخيم في تفادي اندلاع العنف مجدداً؟
كانت المخيمات الفلسطينية في لبنان قد عادت إلى واجهة الأحداث مرة أخرى بسبب الاشتباكات الدامية في مخيم عين الحلوة، والتي أدت إلى مقتل 14 شخصاً وإصابة أكثر من 60 آخرين.
كانت الاشتباكات المسلحة قد اندلعت يوم 29 يوليو/تموز بين قوات "الأمن الوطني الفلسطيني"، التابعة لحركة "فتح"، ومجموعات "إسلامية" مسلحة، على خلفية إطلاق نار استهدف أحد القياديين الإسلاميين في حينه. واستمرت المواجهات 5 أيام قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تُشرف على تنفيذه لجنة "هيئة العمل الفلسطيني المشترك"، بعد اتصالات بين جهات رسمية وحزبية لبنانية وقيادات فلسطينية.
خريطة القوى في مخيم عين الحلوة
تأسس مخيم عين الحلوة عام 1948، وهو أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، إذ يضم حوالي 50 ألف لاجئ مسجل بحسب الأمم المتحدة، بينما تفيد تقديرات غير رسمية بأن عدد سكانه يتجاوز 70 ألفاً.
ولا يدخل الجيش أو القوى الأمنية اللبنانية إلى المخيمات بموجب اتفاقات ضمنية سابقة، تاركين مهمة حفظ الأمن فيها للفلسطينيين أنفسهم داخلها، لكن الجيش اللبناني يفرض إجراءات مشددة حولها.
وفي حديث لوكالة الأناضول، قال حسين خريس، الصحفي اللبناني المتخصص بشؤون التنظيمات الإسلامية، إن هناك "موزاييكا (تشكيلة مختلفة) معقدة للجماعات الإسلامية داخل المخيم، ولا تخضع جميعها لنفس القيادة، ولا تتفق مع بعضها على قرارات موحدة".
ولفت خريس إلى أن الاشتباكات الأخيرة "وقعت بين مقاتلين من حركة فتح وآخرين تابعين لحركة الشباب المسلم، وهي عبارة عن مجموعات مسلحة كانت تسمى سابقاً جند الشام، وكانت تُوالي تنظيم القاعدة".
وأضاف: "فضلاً عن الجهتين المتقاتلتين يضم المخيم تنظيم عصبة الأنصار الإسلامية، والحركة الإسلامية المجاهدة، وحركة حماس، إضافة إلى حركتي أنصار الله والجهاد الإسلامي المواليتين لإيران".
وحالياً يزيد عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عن نصف مليون لاجئ، بحسب الإحصاءات الرسمية وشبه الرسمية، ويتوزع هؤلاء على المخيّمات في مختلف المناطق اللبنانية من الشمال إلى الجنوب. وكان مخيم "البرج الشمالي" للاجئين الفلسطينيين، جنوبي لبنان، قد شهد أواخر 2021 انفجاراً ضخماً، وتبعته واقعة إطلاق النار وسقوط ضحايا من حركة حماس، وهو ما أعاد تسليط الضوء على الصراع الأمني والسياسي الموجود في المخيمات الفلسطينية في لبنان، وكيف تطور منذ عام 1948 حتى اليوم.
ويبلغ عدد المخيّمات في لبنان 12 مخيّماً، أهمها مخيم نهر البارد في الشّمال، ومخيّم عين الحلوة في الجنوب، ومخيّم ضبية ومخيّم المية، إضافة إلى مخيّم مار إلياس في بيروت. فكيف نشأت هذه المخيمات؟ وما هو الوضع السياسي والأمني فيها حالياً؟
يعتبر لبنان من أكثر البلدان العربية التي تضم مخيّمات للاجئين الفلسطينيين. بدأ ذلك بعد النكبة التي وقعت عام 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل، ما دفع عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى اللجوء للدول المجاورة، وبالتالي قدوم جزء منهم إلى لبنان.
نفوذ "حزب الله" في المخيم
أشار الصحفي اللبناني إلى أن "عصبة الأنصار التي تعد من أقوى الفصائل المسلحة في المخيم، سبق أن أبرمت ربط نزاع مع حزب الله قبل سنوات، في حين أن الحركة الإسلامية تمثل مختلف القوى الإسلامية أمام الدولة اللبنانية".
وقال إن "أكثر من جهة ضغطت لوقف المعركة الأخيرة، أبرزها حزب الله وحركة أمل، ودار الفتوى، كما كان لتصريح رئيس رابطة علماء المقاومة الشيخ ماهر حمود وقع كبير حينما وصف ما يجري (المعارك) بأنه تنفيذ لأجندة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل".
"أعتقد أن حزب الله بعث برسالة إلى حركة فتح، طالبهم فيها بوقف إطلاق النار، سيما أنه من غير المسموح (بالنسبة للحزب) أن تكون جبهة الجنوب غير مستقرة، خصوصاً مع قرب بدء التنقيب عن الغاز في البحر قرب الحدود مع فلسطين المحتلة"، بحسب الصحفي اللبناني.
ورأى خريس أنه "في الظاهر فإن المعركة اندلعت عقب إطلاق نار استهدف أحد الأشخاص المحسوبين على المجموعات الإسلامية، أما في الكواليس فإن إسرائيل طلبت من المخابرات الفلسطينية كبح نشاط حركتي حماس والجهاد بالمخيم"، على حد تعبيره، فيما لم تحصل الأناضول على تعليق من السلطة الفلسطينية بهذا الخصوص.
ويحظى مخيم عين الحلوة بأهمية استراتيجية بسبب موقعه الجغرافي بمدينة صيدا، بوابة الجنوب اللبناني، ومعروف أن لـ"حزب الله" نفوذاً قوياً في الجنوب، بما يمتلكه من ترسانة أسلحة وصواريخ.
وكان "حزب الله" لعب دوراً كبيراً بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، عقب أكثر من عقدين على احتلال أجزاء واسعة منه، فيما لا تزال إسرائيل تحتل جزءاً صغيراً من أراضي لبنان الجنوبية.
كيف يفيد توازن القوى؟
اعتبر خريس أن "المعارك داخل المخيم توقفت بعد فشل حركة فتح بالحسم العسكري وتكبُّدها خسائر بشرية ومعنوية (…)، وهكذا بقي عين الحلوة من المخيمات القليلة في لبنان غير الخاضعة للحركة".
وقبل أشهر سجّل إطلاق صواريخ عدة بشكل متفرق من جنوب لبنان على شمال إسرائيل، رداً على انتهاكاتها بحق المصلين في المسجد الأقصى، دون أن تتبنى أي جهة مسؤولية إطلاق الصواريخ.
أما المحلل السياسي اللبناني، وسيم بزي، فقد اعتبر أن المعارك "توقفت في المخيم بعد الجهد السياسي الذي بُذل، وبعد اتصالات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية". وأضاف بزي للأناضول: "كما تم إرسال عضو اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية، عزام الأحمد، مبعوثاً خاصاً من رام الله إلى لبنان، والتقى بالقادة اللبنانيين، إضافة إلى الاجتماعات الأمنية".
وأشار إلى أن "العامل العسكري الذي فرض نوعاً من التوازن ولم يؤدِّ إلى تكريس القوة لصالح أحد، من أهم العوامل التي أسهمت في الهدوء". وبالإضافة إلى أن "فتح تعرضت لامتحان صعب أدى إلى خدش قدرتها على التحكم بأحداث المخيم، وجعلها تدفع ثمناً باهظاً على صعيد خسائر بالأرواح والمعنويات"، بحسب بزي.
ولفت إلى أنه بالمقابل فإن الطرف الآخر "دافع بشراسة عن مواقعه ونقاطه، وهذا ما أدى في النهاية إلى التوصل لاتفاق ينص على 3 نقاط، وهي وقف إطلاق النار، وتسليم قتلة أحد عناصر الإسلاميين، وأيضاً تسليم قتلة العرموشي ومرافقيه".
وفي 30 يونيو/حزيران، عقب يوم من اندلاع المواجهات، تعرض قائد قوات الأمن الوطني بالمخيم، التابع لحركة "فتح"، أبو أشرف العرموشي، و4 من مرافقيه، إلى كمين مسلح أدى إلى مقتلهم جميعاً.
واستبعد بزي أن تتسبب أحداث المخيم "باندلاع شرارة عنف على صعيد البلاد ككل، نظراً إلى الدور البارز الذي يلعبه الجيش اللبناني في ضبط الوضع بمحيط المخيم والمناطق الأخرى، فضلاً عن تعاون جميع القوى السياسة للحفاظ على الاستقرار".
وأضاف: "كما أن واقع الميدان لا يوحي بأن تخرج الأحداث عن إطارها الفلسطيني، لكن هذا لا ينفي أن بعض الدول الإقليمية (لم يسمها) حاولت أن تستثمر في المعركة، والتأثير في موازين القوى بما يخدم مصلحتها"، وفق المتحدث ذاته.
ولفت بزي إلى أن "ثمة قيادات من حركة فتح لم تنخرط بالمعركة بشكل مباشر، مثل العميد محمود عيسى، المعروف بـ"اللينو"، والمحسوب على جناح محمد دحلان، المنشق عن الحركة، وكذلك الأمر بالنسبة للقيادي منير المقدح".
وختم بالقول إن "التوازنات الحالية بالمخيم تسمح بأن نختبر مشهد الهدوء لمدة 10 أيام، إما أن تنجح محاولات تثبيت الهدوء ولو إلى حين، أو أن نكون أمام مشهد تصفيات أمنية داخلية".
ويبلغ إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان نحو 200 ألف يتوزعون على 12 مخيماً، يخضع معظمها لنفوذ الفصائل الفلسطينية، إلا أن معظم تلك المخيمات باتت تضم في السنوات الأخيرة لاجئين سوريين أيضاً.