بينما كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا عن نقاط ضعف عديدة في القدرة العسكرية لموسكو، فقد سلَّطت الضوء أيضاً على جوانب الوضع الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ونقاط ضعف كثيرة فيه أيضاً. حيث تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إنه يتعيّن على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حلف الناتو اتخاذ تدابير استباقية لسد هذه الثغرات قبل أن يستغلها نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ما أوجه القصور في الجناح الشمالي لحلف الناتو؟
عزَّز انضمام فنلندا مؤخراً إلى حلف الناتو والانضمام المتوقع للسويد قوة الحلف بقدرات حاسمة، من بينها الحرب تحت الماء والمدفعية واستخبارات الإشارات في منطقة بحر البلطيق. ومع ذلك، لا تزال هناك أوجه قصور مقلقة على طول الجناح الشمالي لحلف الناتو، لا سيما في المنطقة القطبية الشمالية، والتي تكشف عن إخفاقات كبيرة للعديد من أعضاء الحلف الرئيسيين في ما يتعلّق بالوفاء بالتزاماتهم في مواجهة اهتمام موسكو الثابت بتعزيز دفاعاتها في الشمال.
وبحسب "فورين بوليسي"، نجحت روسيا في استغلال عدة عوامل لكسب مساحة للمناورة في المنطقة. ثمة عديد من جزر القطب الشمالي والجزر القريبة منه تربطها علاقات تقاسُم سلطة تسند بموجبها مهمة الدفاع الوطني إلى كيان أكبر مع السماح للحكومات المحلية بدرجة عالية من الحكم الذاتي، كما في حالة جزر سفالبارد في النرويج وجزر فارو في الدنمارك وجزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك. وفي كل جزيرة من تلك الجزر، وسَّعت موسكو نفوذها بمقاومة قليلة للغاية من أوسلو أو كوبنهاغن.
من النرويج إلى الدنمارك.. كيف تستغل روسيا ثغرات بالاتفاقات المشتركة؟
في جزر سفالبارد، الواقعة بمنتصف الطريق بين النرويج والقطب الشمالي، استغلَّت روسيا التباساً في نصوص معاهدة عام 1920 -التي تحد من قدرة النرويج على الانخراط في أنشطة دفاعية تقليدية على الجزيرة- لتعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي لموسكو.
وتحتفظ روسيا بأنشطة كثيرة في مجال التعدين في سفالبارد، وأصرّت على أنَّ أوسلو لا يمكنها فرض عقوبات دولية على شحناتها إلى المستوطنات الروسية هناك. سمح تفسير النرويج لالتزاماتها التعاهدية بتنامي الوجود الروسي والصيني على جزيرة حيوية استراتيجياً تمتلك موارد طبيعية هائلة، من بينها الفحم والزنك والنحاس والفوسفات.
على الرغم من المعاهدة التي تؤكد "السيادة المطلقة" للنرويج على الجزيرة، ترى أوسلو أنَّ حظر المعاهدة استخدام جزر سفالبارد "لأغراض حربية" يُقيّد بشدةٍ تلك السيادة. ومع ذلك، يمكن القول إنَّ أوسلو يقع على عاتقها ضمان الامتثال للقانون الدولي في سفالبارد، وضمن ذلك إنفاذ العقوبات؛ حتى تحافظ على سيادتها والتزاماتها مع حلف الناتو.
ظلت جزر فارو، التي تقع مسؤولية الدفاع عنها على عاتق الدنمارك، تستضيف العديد من سفن الصيد الروسية طوال فترة الصراع في أوكرانيا، وذلك بموجب معاهدة بين روسيا وجزر فارو منذ سبعينيات القرن الماضي. اتُّهمت سفن روسية بالتجسس وحتى تنفيذ أعمال تخريب، من بينها استهداف الكابلات البحرية في بحر الشمال. أدى عدم قدرة كوبنهاغن على التدخّل الفعال في هذه المسألة إلى جعل شركائها في حلف الناتو عرضة لمختلف التكتيكات الروسية على طول الجناح الشمالي للحلف.
فشلت الجهود الأخيرة لجزر فارو لتقييد عبور سفن الصيد الروسية في سد ثغرات كبيرة تسمح للروس بالاحتفاظ بإمكانية الوصول إلى مياه جزر فارو. بينما يسمح قانون السياسة الخارجية عام 2005 لجزر فارو باستقلالية كبيرة في إدارة الشؤون الخارجية المتعلقة بالقضايا الواقعة ضمن اختصاص حكومتها المحلية، فإنَّ مسألة بهذه الحساسية تستلزم التنسيق مع أولويات السياسة الخارجية الدنماركية الأوسع نطاقاً.
غرينلاند نحو مزيد من الاستقلالية
في السياق، كانت غرينلاند منذ فترة طويلة، منطقة نزاع بين الدنمارك وكلٍّ من موسكو وبكين، اللتين تدركان قيمة ثروتها المحتملة من الموارد الطبيعية وموقعها الاستراتيجي المنفتح على فجوة غرينلاند-آيسلندا-المملكة المتحدة "GIUK gap"، وهي ممر مائي استراتيجي يفصل شمال المحيط الأطلسي عن بحر الشمال وبحر النرويج.
زاد انفتاح غرينلاند على التأثيرات الخارجية مع تنامي استقلاليتها المحلية. أتاح أيضاً تراجع سلطة كوبنهاغن على الجزيرة فرصة كبيرة لتنافس القوى العظمى في أكبر جزيرة في العالم.
بينما يبدو تقدّم غرينلاند نحو مزيد من الاستقلالية أمراً حتمياً، تمتلك كوبنهاغن فرصة لتحديد معالم علاقة السياسة الخارجية للعقود المقبلة والإصرار على مزيد من التنسيق في القضايا المؤثرة بشكل مباشر في حقوقها الدفاعية والتزاماتها مع حلف الناتو. يتعيّن على كوبنهاغن أيضاً رسم خطوط واضحة في علاقاتها الدولية في وقت تتعرض فيه مصالحها الحيوية ومصالح حلفائها في الناتو للخطر.
عسكرة المنطقة القطبية الشمالية
يعاني أيضاً الجناح الشمالي للحلف من الإهمال الاستراتيجي من جانب كندا في ظل حكومة رئيس الوزراء جاستن ترودو، التي تنفق حالياً ما يقرب من 1.3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهي نسبة أقل كثيراً من نسبة الـ2% المتفق على تخصيصها لحلف الناتو.
كان من المقرر منذ فترة طويلة، تحديث أسطول كاسحات الجليد الخاص بأوتاوا، لكن الحكومة فشلت مراراً في تحديد موعد لتنفيذ ذلك. على الرغم من التحذيرات المتكررة من داخل الجيش بأنَّ كندا تفتقر إلى القدرات اللازمة للتصدي لجهود موسكو الرامية إلى إعادة عسكرة المنطقة القطبية الشمالية، انخرطت أوتاوا في مناقشات تخص استراتيجية منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من شأنها أن تترك الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عرضة للخطر في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
قيادة موحدة للناتو في المنطقة القطبية الشمالية؟
تقول "فورين بوليسي"، إن التحديات السالفة الذكر تتطلب حلولاً جادة من جميع أعضاء الحلف، بدءاً من بناء استراتيجية متكاملة للمنطقة القطبية الشمالية تعتمد على ما أنجزه أعضاء في الحلف بشكل فردي؛ لتعزيز قدرات الدفاع في أقصى الشمال (كما هو الحال في استراتيجية الولايات المتحدة لمنطقة القطب الشمالي)، وتخصيص موارد كافية لتحقيق ذلك.
قد يتضمن ذلك تشكيل قيادة موحدة للناتو في المنطقة القطبية الشمالية؛ لتوجيه الموارد بصورة مناسبة وتعزيز الإمكانات في مختلف مجالات الحرب، مثل تنسيق التدريب المشترك على الحرب في المنطقة القطبية الشمالية، والاستفادة من القدرات الجديدة التي اكتسبها الحلف بانضمام فنلندا وقريباً السويد، وضمن ذلك مهارات كسح الجليد وتكتيكات الحرب في المنطقة القطبية الشمالية.
إضافة إلى ذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة العمل مع شركائها في كوبنهاغن وأوسلو وأوتاوا لتشجيع اتخاذ تدابير أكثر حسماً في أقصى الشمال. وتقول المجلة الأمريكية إنه لا يمكن السماح لروسيا بالعمل في جزر فارو أو تهديد الاتصالات الاستراتيجية لحلف الناتو من خلال نفوذها في غرينلاند أو سفالبارد.
فيما تبدي الصين اهتماماً متزايداً بتعزيز وجودها في المنطقة القطبية الشمالية من خلال مبادرة بناء "طريق الحرير القطبي". يجب على الولايات المتحدة العمل في إطار متعدد الأطراف مع أعضاء حلف الناتو، وفي إطار ثنائي مع الدنماركيين والنرويجيين والكنديين، لتوفير الدعم الاستخباراتي الضروري لمنع النصوص القانونية الملتبسة من تهديد الجناح الشمالي للحلف.
يحتفل كثيرون على جانبي المحيط الأطلسي بنجاح حلف الناتو في ضم فنلندا وفي الحشد لمقاومة اعتداء موسكو على أوكرانيا. ومع ذلك، لا يزال هناك كثير من العمل يتعين إنجازه، لتأمين الجناح الشمالي للحلف وتوفير المظلة الأمنية التي يتعهّد بها الحلف لأعضائه. ومع اقتراب حلول الذكرى الـ75 لتأسيس حلف الناتو في العام المقبل، فإنَّ الآن هو الوقت المناسب لإعادة تنظيم صفوفه؛ لمواجهة ما يتعرّض له اليوم من تهديدات، كما تقول "فورين بوليسي".