كيف تطورت إمبراطورية الدروس الخصوصية في مصر وأصبحت المدارس الحكومية خاوية على عروشها؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 11:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/08 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
أحد مراكز الدروس الخصوصية في مصر / الشبكات الاجتماعية

أصبحت صناعة الدروس الخصوصية رائجة للغاية في مصر، ولذلك أسباب متعددة، فهل هذا مؤشر على ارتفاع جودة التعليم أم العكس؟ ومن المسؤول عن ذلك الرواج المطرد؟

كانت المدارس الحكومية في مصر، حتى مطلع القرن الحالي تقريباً، هي حجر الأساس في التعليم، لكن زيادة أعداد الطلاب وانخفاض الميزانية المخصصة للتعليم من جانب الحكومة وأسباب أخرى أدت إلى تحول مراكز الدروس الخصوصية إلى صناعة رائجة للغاية.

وتناول تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية قصة خلو الصفوف الدراسية في المدارس الحكومية المصرية مقابل امتلاء جيوب المدرسين الخصوصيين بالأموال، وسط معاناة أولياء الأمور من الطبقة المتوسطة.

فصول الحكومة خالية من الطلاب

صارت صناعة الدروس الخصوصية في مصر من الأعمال الرائجة عبر ملء الفراغ الذي خلّفته المدارس الحكومية، التي كانت في سابق الأيام حجر الأساس لتقدم الطبقة المتوسطة.

ويقول المحللون إن سوء إدارة الاقتصاد من جانب الحكومة، أوهن الطبقة المتوسطة المصرية التي كانت قوية في يوم من الأيام، وجرّ العائلات نحو الفقر، ليس فقط من خلال الأزمات الاقتصادية المتكررة وتخفيض الدعم، بل وأيضاً وبصورة متزايدة، عن طريق دفع تكاليف الخدمات التي يُفترض أن تكون مجانية، مثل الرعاية الصحية والتعليم.

ففي تعاملها مع تعداد سكاني متزايد، واقتصاد متباطئ ومشروعات عمرانية باهظة التكاليف، أنفقت مصر على التعليم أقل بكثير من  الحد الأدنى المنصوص عليه في الدستور، البالغ 4% من الناتج المحلي الإجمالي، حتى بينما يتخلف طلابها عن التصنيفات العالمية للتعليم.

وفي هذا الإطار، عندما سُئلت عما تبدو عليه الصفوف الدراسية في عامها الأخير من المرحلة الثانوية، وهي السنة المصيرية التي يحتشد فيها الطلاب من جميع أنحاء البلاد في مصر لخوض امتحانات الثانوية العامة الحاسمة، نظرت نرمين أبو زيد نظرة خالية من أي تعبير. أوضحت أمها منال أبو زيد (47 عاماً)، للصحيفة الأمريكية: "لا نعرف في واقع الأمر؛ لأنها لم تذهب قط إلى المدرسة".

ليست نرمين البالغة من العمر 19 عاماً من نوعية الفتيات التي تتغيب عن الصف الدراسي. كانت الفتاة التي تربت في الأزقة الترابية لأحد أحياء الطبقة الوسطى الدنيا في العاصمة المصرية القاهرة، عازمةً منذ أن كانت في المرحلة الإعدادية على أن تصير طبيبة قلب. لكن كليات الطب لا تقبل إلا بالدرجات الأعلى في امتحانات الثانوية العامة المصرية.

تخلت الفتاة عن الذهاب إلى مدارس مصر المكتظة بصورة مزمنة والمفتقرة إلى التمويلات، وذلك خلال المرحلة الإعدادية، لتنضم إلى ملايين الطلاب الذين يلجأون إلى الدروس الخصوصية، حيث يمكن لنفس المعلمين الذين يحصلون على رواتب متدنية للغاية لتكبد عناء التدريس، أن يجنوا أضعاف ما يحصلون عليه من الوظيفة عن طريق الدروس الخصوصية التي تجهز الطلاب لخوض الامتحانات.

صور لطلاب الثانوية العامة في مصر/ مواقع التواصل
صور لطلاب الثانوية العامة في مصر/ مواقع التواصل

وهنا يأتي دور مراكز الدروس الخصوصية التي تستهدف تحقيق الربح، فهي الأماكن التي تتجاوز فيها العائلات المصرية انحدار بلادهم، إذ يعتقد كثيرون أن الدروس هي الطريقة الوحيدة لضمان مستقبل أفضل لأبنائهم، حتى إذا كان ذلك يعني التضحية بشراء اللحوم والفاكهة والخضراوات، وسط تضخم بلغ أكثر من 36%، بحسب الإحصائيات الرسمية.

ضربت الأزمة الاقتصادية الحالية صناعة الاستيراد في مصر، التي يعمل فيها والد نرمين. قالت أمها، وهي ربة منزل: "نحن في وضع سيئ للغاية"، وذلك في حديثها عن تكاليف الدروس الخصوصية التي قد يضطرون لدفعها من أجل ابنتهم نرمين، التي رسبت في الامتحانات العام الماضي، إذا احتاجت نرمين لمحاولة ثالثة. وأوضحت: "أدعو الله ألا نكرر ذلك مرة أخرى أبداً".

قبل عامين، حاولت الحكومة إصلاح الامتحانات عن طريق التركيز على الاستيعاب بدلاً من التعلم بالاستظهار، وهو تحول استهدف القضاء على الدروس الخصوصية، حيث يكون الحفظ هو الأساس. لكن المدارس ظلت مفتقرة إلى التمويل بصورة شديدة، ولم ينخفض قط الطلب على الدروس الخصوصية، بل ارتفع بصورة لافتة.

التعليم في مصر دون تمويل كافٍ

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في العام الماضي إن مصر لا تملك القدرة المالية لتوفير تعليم جيد للطلاب، رغم إصرار حكومته على أنها تستوفي الحد الأدنى الدستوري. وصرح الرئيس قائلاً: "الطالب عشان تديله تعليم في الدول المحترمة محتاج 10 آلاف دولار، يعني محتاج 250 مليار دولار، أجيبه منين ومصر تجيب منين؟".

من الآباء! فوفقاً لتقديرات الخبراء، ينفق المصريون بصورة جماعية أكثر مما تنفقه الحكومة على التعليم ما قبل الجامعي بمرة ونصف، أي أكثر من أي بلد آخر. قالت هانية صبحي، الباحثة التي ألفت كتاباً عن التعليم في مصر، إنها كمية "مذهلة".

ويقول الخبراء إن انخفاض الإنفاق على التعليم نتج عنه حلقة مفرغة. إذ إن الدروس الخصوصية تفترس التعليم الحكومي، وتسحب الطلاب في الصفوف الدراسية الأعلى، وتكافئ المعلمين على توفير طاقاتهم من أجل بذلها في الدروس الخصوصية بدلاً من الصفوف الدراسية العامة.

والآباء هم من يدفعون مقابل ذلك، وليس الحكومة! قالت الدكتور هانية لـ"نيويورك تايمز": "إنها ذاتية الاستمرار. إذا لم يأتِ أحد إلى المدرسة، فلن يكون لدى المعلمين حقاً أي حافز للتدريس".

قبل عقود زمنية كان ذلك استثماراً حكيماً. بالنسبة للأجيال الأكبر، يعني الحصول على درجات جيدة في الامتحانات ضمان الحصول على شهادة جيدة، ثم وظيفة جيدة، وعادة تكون مع الحكومة، ما يضمن راتباً ثابتاً مدى الحياة ومعاشاً تقاعدياً.

بداية من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي جعل التعليم متاحاً على نطاق واسع، كانت الامتحانات هي "الوسائل الرئيسية للتنقل الاجتماعي"، وذلك حسبما قال الدكتور راجي أسعد، الأستاذ بجامعة مينيسوتا، الذي يدرس التعليم المصري وسياسات العمل.

صارت الوظائف الحكومية أقل وفرة هذه الأيام، لكن هيبة الامتحانات لا تزال باقية. على مدى أسابيع قبل امتحانات هذا العام، استذكرت نرمين أبو زيد دروسها بداية من اللحظة التي تستيقظ فيها، حتى اللحظة التي تنهار فيها من التعب على سريرها: وهو جدول أخفّ من العام الماضي، عندما ظلت مستيقظة طوال الليل لعدة أيام قبل أول امتحان.

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أرشيفية/ GettyImages
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/ GettyImages

ولم يوقفها عن المذاكرة إلا خوض الامتحانات، التي استمرت من منتصف يونيو/حزيران حتى منتصف يوليو/تموز. وكانت النتيجة ستحدد ما إذا كانت ستذهب إلى الكلية وأي الكليات سترتادها، وليس هذا فقط، بل سيتحدد أيضاً تخصصها في هذه الكلية (سواء كانت كلية الطب بالنسبة لأصحاب الدرجات الأعلى، أو الهندسة لأصحاب الدرجات الأقل قليلاً، أو الحقوق وإدارة الأعمال والآداب بالنسبة لأصحاب الدرجات الأدنى)، وأيضاً سيتحدد مدى فخر أبويها بها. إذ إن الأرجح ألا يسمح كثير من الآباء المنتمين إلى الطبقة المتوسطة، لأبنائهم بالزواج من شخص لا يحمل شهادة جامعية.

ومع ذلك، تصير غالبية المجهود المبذول والمال المنفق على هذه الامتحانات في نهاية المطاف وفي معظم الوقت، غير ذات صلة بالنسبة للسواد الأعظم من المصريين. ففي هذه الأيام، قليل من خريجي الجامعات يعملون في التخصصات التي درسوها، وينتهي الحال بكثير منهم بدون وظيفة رسمية من الأساس.

تُعيّن كثير من الشركات استناداً إلى العلاقات والمكانة الاجتماعية، فيسألون المتقدمون عن عضويات الأندية التي يشتركون فيها، بدلاً من سؤالهم عن درجاتهم بوصفها طريقة لتحديد أصحاب الدرجات المنخفضة المتطابقة، وذلك وفقاً للدكتور أسعد. إذ إن الدرجات الجامعية، بدون هذه المؤهلات غير ذات الصلة بالدراسة، تؤهل أصحابها للعمل سائقي أوبر، أو عمال بناء، أو عمال نظافة.

المجهول في انتظار الخريجين

قال عاصم أشرف، البالغ من العمر 17 عاماً: "يعتقد الناس أن مستقبلك يعتمد عليها"، وذلك في ظهيرة أحد الأيام قبل بضعة أسابيع عندما كان يقف خارج مركز أكسفورد للدروس الخصوصية في منطقة التجمع الخامس الراقية بالقاهرة قبيل انطلاق امتحانات هذا العام. أضاف أشرف: "لكن دعني أخبرك بشيء، 90% من الطلبة لن يجدوا وظائف".

قبل أن تصير الدروس الخصوصية شائعة في تسعينيات القرن الماضي، كان غالبية الطلبة الذين يلجأون إلى الدروس الخصوصية يحضرونها بعد انتهاء اليوم الدراسي، وكانوا يلجأون إليها في المواد التي تحتاج إلى مساعدة إضافية. ولكن مع زيادة التعداد السكاني، وتراجع الإنفاق، صارت المدارس الحكومية مكتظة بالطلبة لدرجة أنها صارت تستقبل الطلبة على فترتين: صباحية ومسائية. وانهارت المباني بسبب غياب أعمال الصيانة، وقلص التضخم رواتب المعلمين المتدنية من الأساس لتصير فتاتاً. ونتيجة لذلك، زاد عدد الطلبة الذين يلجأون إلى الدروس الخصوصية، من أجل تحقيق درجات أعلى في الامتحانات.

ترسخت صناعة الدروس الخصوصية للغاية، لدرجة أن حتى الطلاب في المدارس الخاصة ذات المصروفات المرتفعة، يلجأون هم الآخرون إلى الدروس الخصوصية.

تزداد شهرة المدرسين الخصوصيين كلما كانت توقعاتهم لأسئلة الامتحانات صحيحة، سواء كان ذلك بسبب خبراتهم أو عن طريق دفع الرشاوى. في هذه الأيام، يستطيع المدرس الخصوصي الشهير جذب نحو 400 طالب أو أكثر في الحصة الواحدة، وأكثرهم رواجاً يكسب أموالاً كافية لشراء سيارة بورشه.

قبل أن تتسبب جائحة فيروس كورونا في رواج الدروس عبر الإنترنت، كان هؤلاء المدرسون الخصوصيون يستأجرون قاعات المسارح أو المساجد، كي تستوعب آلاف الطلاب خلال حصص المراجعات النهائية قبل الامتحان، وذلك وفقاً لماجد حسني، أحد المخضرمين في صناعة الدروس الخصوصية، الذي افتتح واحداً من أوائل مراكز الدروس الخصوصية في مصر.

يستخدم أشهر المدرسين النكات وأغاني الاستذكار التي يؤلفونها بأنفسهم، لشرح الحقائق العلمية والأرقام كي يتذكرها طلابهم بسهولة. بينما يبني آخرون شهرتهم استناداً إلى الكتب والمراجع التي ينشرونها بأنفسهم مع طبع أسمائهم وصورهم في كل صفحة. وعلى موقع فيسبوك، يجادل جمهور هؤلاء المدرسين حول من يكون أفضل المدرسين.

قالت هاجر جمال (18 عاماً)، التي تحضر في مركز أوكسفورد بالإضافة إلى مركزي دروس خصوصية آخرين، كي تضمن الجمع بين أفضل توليفة لأفضل المدرسين الخصوصيين: "أريد أن أكون معلمة. ثمة الكثير من المال في هذه المهنة".

فلا عجب إذن في أن مراكز الدروس الخصوصية تتنافس لجلب أفضل المدرسين الخصوصيين. بل إن بعض الأطباء قيل إنهم غيروا مسيرتهم المهنية وانتقلوا إلى مجال الدروس الخصوصية لكسب المزيد من المال.

إذ إن المؤهل الوحيد المهم بالنسبة للمدرس الخصوصي، هو عدد الطلاب القادر على جذبهم. محمد جلال، مدرس خصوصي في مادة الرياضيات بمركز أكسفورد يبلغ من العمر 35 عاماً ويعمل أيضاً في مدرسة خاصة في مكان قريب، قال لـ"نيويورك تايمز": "ما أجنيه في شهر بمدرستي، أستطيع أن أجنيه في يوم واحد هنا. وليس المال فقط، بل إنك تحصل أيضاً على المكانة والاحترام".

المجلس الوطني للتعليم
هل يتمكن المجلس الوطني للتعليم من تطوير المنظومة التعليمية في مصر؟

في إحدى حصص جلال في ربيع العام الحالي، كان اثنان من مساعديه يطوفون في قاعة المحاضرات الكائنة بطابق سفلي، حيث جلس نحو 100 طالب على كراسي خشبية منقوشة، وكانوا يطرقعون أصابعهم في وجه الطلاب الذين يثرثرون أثناء الحصة.

قال جلال موجهاً خطابه إلى الطلاب عبر مكبر صوت، بينما كان يكتب المعادلات على سبورة بيضاء: "الرياضيات تتطلب التركيز والنوم. الاستيقاظ حتى وقت متأخر شيء غبي، لن ينقذكم قبل أيام قليلة من الامتحانات".

وفي ظل التضخم الذي أثر على ميزانيات عديد من العائلات هذا العام، سمح المركز لعديد من الطلاب بالحضور مجاناً. ومع ذلك، يستمر الآباء في دفع أي شيء يقدرون على دفعه.

قالت زينب معوض (18 عاماً)، وهي طالبة بإحدى المدارس الحكومية وتحضر الدروس في مركز أكسفورد: "أحياناً يعتمد ما سنأكله اليوم على ما إذا كان لدي درس خصوصي غداً. على سبيل المثال، إذا كان لدي درسان غداً، فسوف نأكل الكشري اليوم"، وذلك في إشارة إلى إحدى أرخص الوجبات المصرية.

وأوضحت أن الأمر يستحق العناء بالنسبة لأبويها: "لا يريدون أن يشعروا بأن الخطأ خطؤهم في عدم حصولي على درجات جيدة".

في الليلة السابقة لظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة هذا العام (قبل أسبوع)، لم تستطع عائلة أبو زيد النوم. هرعت نرمين من غرفتها في نحو الخامسة فجراً، وصاحت: "ماما، نجحت". صحيحٌ أن درجاتها لم تكن حتى قريبة من الدرجات اللازمة لدخول كلية الطب، لكن أمها زغردت من الفرحة.

تحميل المزيد