يؤثر مرض الزهايمر، وهو أكثر أشكال "الخرف" شيوعاً، على الأشخاص بطرق مختلفة، لكنه لم يقلل من حس الدعابة لدى البريطانية آن واربورتون، التي أتمت عامها الـ60 قبل وقت قصير، حيث يقول زوجها إنها بدأت تطرح نفس الأسئلة التي طرحتها بالفعل قبل فترة وجيزة، حيث لم يكن دماغها قادراً على الاحتفاظ بالمعلومات لفترة طويلة.
وكانت هذه أول علامة على إصابة آن واربورتون بمرض الزهايمر، وهو حالة صحية مدمّرة تصيب حوالي 600 ألف شخص في المملكة المتحدة، وملايين آخرين حول العالم.
لكن آن تمتلك أسباباً تجعلها أكثر تفاؤلاً من معظم المصابين بالخرف، فهي واحدة من 20 شخصاً فقط على مستوى العالم -4 منهم في بريطانيا- سَيشاركون في تجربة علاج ثوري جديد قائم على آلية استهداف الجينات التي تزيد احتمالية الإصابة بمرض الزهايمر، كما يقول تقرير لمجلة The Times البريطانية.
كيف يعمل العلاج الجديد لمرض الزهايمر؟
يعمل العلاج الجديد مثل أجهزة تقليل سطوع ضوء مصباح كهربائي (المخفتات)، إذ يؤدي إلى تثبيط نشاط الجين الذي ينتج البروتينات المسببة للإصابة بمرض الزهايمر.
وتقول صحيفة "التايمز" إن النتائج المؤقتة للمرحلة الأولى من التجارب السريرية للعقار، والتي نُشرت في مؤتمر طبي عُقد في أمستردام الشهر الماضي، تشير إلى أنَّ جرعة واحدة من العقار الجديد -المعروف حالياً باسم "ALN-APP"– تقلل من مستويات البروتين المنتج للمادة النشوانية (amyloid precursor protein) بنسبة تصل إلى 90%.
وأظهرت نتائج الاختبارات أيضاً أنَّ مستويات البروتين لا تزال أقل بنسبة 65% في المتوسط حتى بعد 6 أشهر. تتراكم الأجزاء المُكوّنة لهذا البروتين على شكل لويحات سامة لزجة تسد خلايا الدماغ وتسبب فقدان الذاكرة المرتبط بمرض الزهايمر.
إنجاز طبي ثوري
يعتقد العلماء أنَّ إعطاء العلاج في وقتٍ مبكر بما فيه الكفاية قد يساعد في وقف تطور أعراض الزهايمر. لذا، يضيف هذا الانجاز الطبي مزيداً من الحماس والإثارة حول مجال "الخرف" بعد سنوات من الجمود.
خلال الـ 10 أشهر الماضية، أظهرت لأول مرة تجربتان مهمتان مع أنَّ السبب الجذري للإصابة الزهايمر يمكن إبطاؤه، وهو ما يقلل حالة التدهور المعرفي المرتبطة بالمرض بنسبة تتراوح ما بين الربع إلى الثلث.
يعمل عقار "ليكانمب" و"دونانيماب" على إزالة تكتلات بروتين "الأميولويد" من الدماغ. لكن النهج الجديد المعتمد على ما يسمى بآلية "إسكات الجينات" يعمل بطريقة مختلفة جذرياً. قالت الدكتورة كاثرين مومري، استشارية طب الأعصاب في مستشفيات "كلية لندن الجامعية" والتي تقود التجربة في المملكة المتحدة: "بدلاً من إزالة البروتينات، يستهدف هذا النهج الذهاب إلى المصدر ووقف نشاطه في المقام الأول".
وأضافت: "إذا اعتمدنا على إزالة البروتينات الموجودة بالفعل، فسيتعيّن علينا فعل ذلك باستمرار ما دام المصدر لا يزال نشطاً ومُنتجاً. لكن إذا أوقفنا نشاط المصدر، فستكون لدينا فرصة أفضل بكثير لمنع حدوث المزيد من الضرر".
هل هذا العقار آمن؟
تظهر النتائج الأولية أنَّ العقار الجديد آمن وجرعة واحدة منه تقلل من إنتاج البروتين المستهدف. سيبدأ الفريق البحثي توسيع نطاق التجربة من خلال إعطاء جرعات متكررة لمعرفة ما إذا كان يمكن خفض مستويات إنتاج البروتين بشكل أكبر من ذلك. تتوقع الدكتورة كاثرين مومري أنَّ المريض سيتناول في نهاية المطاف جرعة العلاج مرة واحدة كل 6 أشهر إلى 12 شهراً، وهي فترة أقل كثيراً من الفترة المحددة لتناول جرعات عقاري "ليكانمب" و"دونانيماب" اللذين يتناولهما المريض كل أسبوعين إلى 4 أسابيع.
يُعطى العلاج عن طريق الحقن في أسفل الظهر، مباشرةً في السائل الدماغي الشوكي المحيط بالنخاع الشوكي، حتى يتسنى للعقار الوصول إلى الدماغ مع تجنّب الحاجز الدموي الدماغي.
في الوقت نفسه، شدّدت كاثرين على أنَّه لا يزال أمام الباحثين طريق طويل ليقطعوه حتى يُثبت أنَّ العلاج جاهز للاستخدام في مرافق هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS). ولم يبدأ فريق البحث بعد تتبع ما إذا كان العقار يبطئ التدهور المعرفي المرتبط بالزهايمر. قالت كاثرين: "ثمة حاجة إلى بدء المرحلة الثانية من الدراسة لإظهار ما إذا كانت هناك فائدة طبية أم لا". من المقرر الإعلان عن تفاصيل ذلك في وقتٍ لاحق من هذا العام.
لكنها أوضحت أنَّه بالنظر إلى النتائج المشجّعة التي نُشرت بالفعل هذا العام فيما يخص عقاري "ليكانمب" و"دونانيماب"، فإنَّ العقار الجديد "ALN-APP" ينبغي أن ينجز مهمته من الناحية النظرية، مشيرة إلى أنَّها تتوقع تأثيراً أكثر فعالية.
تناول العلاج في مراحل مبكرة يعطي نتائج أكثر فاعلية
قالت كاثرين: "أعتقد أنَّ عقاقير "إسكات الجينات"ستحقق أقصى استفادة إذا أُعطيت في مرحلة مبكرة جداً من المرض -قبل ظهور الأعراض. سيكون لديك حينها فرصة كبيرة لمنع ظهور الأعراض عند المرضى في المقام الأول، ناهيك عن علاجهم بمجرد ظهور الأعراض".
قد يتمثّل الشيء الصعب في معرفة هؤلاء المرضى، لذا أولئك المصابين بالزهايمر لأسباب وراثية أو داء الزهايمر المبكر سيكونون الأكثر استفادة.
قالت كاثرين مومري إنَّ النتائج المبكرة للعقار، التي أظهرت قلة آثاره الجانبية، تشير أيضاً إلى أنَّ المرضى قد يستطيعون تجنّب خطر حدوث نزيف الدماغ الذي شوهد مع العلاجات الجديدة الأخرى.
تعمل آلية "إسكات الجينات" باستخدام تقنية ثورية جديدة تسمى "تداخل الحمض النووي الريبوزي" (RNA)، التي تؤدي إلى حجب الحمض النووي الريبوزي المرسال -وهو الشفرة الجينية التي تحمل التعليمات من الحمض النووي إلى مراكز إنتاج البروتين في خلايانا.
أصبحت تقنية "الحمض النووي الريبوزي المرسال" مشهورة خلال جائحة كوفيد-19 عندما اُستخدمت في إنتاج لقاحي "فايزر-بيونتيك" و "موديرنا" من خلال حقن الذراع بجزء صغير من الحمض النووي الريبوزي المرسال الخاص بالفيروس لتحفيز الجسم على صنع آلاف النسخ من نفس البروتين الشوكي لفيروس كورونا حتى يستطيع الجهاز المناعي التعرّف عليه.
تعيق تقنية "تداخل الحمض النووي الريبوزي" بدلاً من ذلك الحمض النووي الريبوزي المرسال المُنتج طبيعياً في الجسم لمنع الخلايا من إنتاج بروتينات سامة أو زائدة عن الحاجة، ومن ثمَّ وقف تطور المرض.
تقنية ثورية للعلاج تم التطوير عليها
اُكتشف آلية "تداخل الحمض النووي الريبوزي" في تسعينيات القرن الماضي بفضل عالمي الوراثة الأمريكيين، أندرو فاير وكريغ ميلو، اللذين حصلا على جائزة نوبل في عام 2006. طوَّرت شركة المستحضرات الدوائية الحيوية الأمريكية "Alnylam Pharmaceuticals" علاجات للعديد من الأمراض باستخدام هذه الآلية منذ عام 2019. تشمل هذه الأمراض "الداء النشواني"، وهي حالة نادرة يهاجم فيها بروتين سام غير طبيعي أعضاء مختلفة في الجسم.
قال أكشاي فايشناو، مدير شركة " Alnylam Pharmaceuticals" إنَّ "هذه الآلية الواعدة قد تدخل في مجال علاج أمراض أخرى، ليس فقط الزهايمر. وأضاف: "هناك العشرات إن لم يكن المئات من الجينات البشرية المسببة لأمراض جراء إنتاج بروتينات زائدة أو غير طبيعية ويمكننا استهدافها جميعاً".
في السياق ذاته، قال ريتشارد أوكلي، المدير المساعد للأبحاث في جمعية رعاية مرضى الزهايمر بالمملكة المتحدة (the Alzheimer's Society): "على الرغم من أنَّه لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه مع علاج 20 مريضاً فقط في المرحلة الأولى، يفتح هذا العلم الرائع مساراً جديداً تماماً للعلاج".
هل يساهم هذا العقار في إيجاد علاج لمرض الخرف؟
يمكن استخدام آلية "إسكات الجينات" لإيقاف إنتاج بروتينات أخرى متورطة في الإصابة بـ "الخرف". استخدم فريق كاثرين موموري هذا العام علاجاً مختلفاً قائم على "إسكات الجينات" يُطلق عليه اسم " antisense oligonucleotide" لخفض مستويات بروتين "تاو" -وهو بروتين يؤدي دوراً أيضاً في الإصابة بالزهايمر.
قال ريتشارد أوكلي: "نحن واثقون أنَّ الخرف ليس حالة غير قابلة للعلاج، لأنَّ الأبحاث نجحت في علاج معظم الأمراض مع الوقت ومواصلة بذل الجهد".
لكن حينها سيكون قد فات الأوان بالنسبة لآن واربورتون -البالغة من العمر الآن 68 عاماً. بدأت أعراض المرض في التأثير عليها بالفعل على الرغم من أنَّها لا تزال تتمتع بحالة معنوية جيدة. تعاني آن -وفقاً لتشخيص الأطباء- من مرض الزهايمر "الخفيف إلى المتوسط". على الرغم من أنَّها لا تزال قادرة على الاستمتاع بالبستنة والتواصل الاجتماعي وقضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء، تزداد الأعراض سوءاً تدريجياً.
قال بيتر (69 عاماً): "هذا يعني نسيانها المواعيد والمهام التي وعدت بفعلها ووضع الأشياء في غير مكانها يومياً".
لا يعرف الزوجان ما إذا كانت آن قد تناولت الدواء الحقيقي أم الوهمي. تلقى 6 من المشاركين الـ20 في المرحلة الأولى من التجارب السريرية علاجاً وهمياً بينما تلقى الـ 14 الآخرون العلاج الحقيقي. لكن في مرحلة الجرعات المتعددة، التي على وشك البدء، لن يكون هناك دواء وهمي وسيتناول جميع المشاركين الدواء الحقيقي.
قال بيتر: "عندما قررنا المشاركة، كنا ندرك جيداً أنَّنا نقدم هدية للمجتمع الطبي والعلمي. لا ينبغي أن نتوقع الحصول على شيء شخصي. نحن مجرد بشر ونأمل أن يمنح هذا الدواء آن أداءً أفضل في الوظائف المعرفية".