انقطاع الكهرباء في العراق.. ما قصة الأزمة المتكررة في بلد غني بالنفط والغاز؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/25 الساعة 10:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/25 الساعة 10:50 بتوقيت غرينتش
أزمة انقطاع الكهرباء في العراق/ رويترز

في ظل صيف 2023 الملتهب، يواجه العراق انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، فلماذا يحدث هذا في بلد نفطي؟ وما علاقة الصراع بين إيران وأمريكا بالقصة المؤلمة؟

فمع موجة الحر الشديد التي تشهدها الدول العربية في يوليو/تموز الجاري، وارتفاع درجات الحرارة حتى 50 درجة مئوية في بعض المناطق، يزداد الضغط على شبكات الكهرباء، مع اشتداد الطلب عليها، ما يؤدي إلى انقطاعات في التيار الكهربائي لساعات، ويضاعف ذلك من معاناة الناس.

لكن العراق لا يجب أن يكون من بين الدول التي تعاني في هذه النقطة، فالوضع الأمني مستقر نسبياً هذا الصيف ويوجد إنتاج ضخم من النفط واحتياطيات لا بأس بها من الغاز الطبيعي، فلماذا تتواصل انقطاعات الكهرباء، بل وتصل إلى مستويات مثيرة للغرابة؟

أزمة الكهرباء في العراق.. الأسباب

رصد تقرير لمعهد واشنطن للدراسات أسباب أزمة الكهرباء المزمنة والممتدة في العراق منذ ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003 وحتى اليوم، ويمكن تلخيص تلك الأسباب في الفساد المزمن والصراع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والذي يدفع العراقيون ثمناً باهظاً له.

إذ تكبّد قطاع الكهرباء العراقي أضراراً جسيمة خلال العقود القليلة الماضية بسبب الغزو الأمريكي ثم الحروب التالية وعوامل أخرى، لذلك تستمر الفجوة بين العرض والطلب في قطاع الكهرباء في الاتساع مع استمرار الخسائر الفنية والتجارية، والتي تفاقمت بسبب التحديات المالية والفساد على مستوى عالٍ.

ففي كانون الأول/ديسمبر 2021، أفاد وزير المالية آنذاك، علي علاوي، في معرض حديثه عن الكهرباء بما يلي: "إذا لم يصلح هذا القطاع نفسه خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، فهناك احتمال بأن يؤدي ذلك إلى تدمير ميزانية الحكومة"، مشيراً بذلك إلى اختلال التوازن المالي في وزارة الكهرباء، الأمر الذي يتطلب نفقات بمليارات الدولارات بينما تبقى إيرادات الوزارة ضئيلة.

ووفقاً لصندوق النقد الدولي، بلغ إجمالي التكاليف التشغيلية المعلنة لوزارة الكهرباء العراقية عام 2019، 9.3 مليار دولار (11.0 تريليون دينار عراقي، أو 4 في المئة من "الناتج المحلي الإجمالي")، بينما كانت الإيرادات أقل من مليار دولار.

وربما يرجع انخفاض الإيرادات إلى تفشي السرقة، وعدم توفر نظام مناسب لتحصيل الفواتير أو غيرها من تدابير استرداد التكلفة، وتداعي شبكة النقل والتوزيع. بشكل عام، تراوحت الخسائر الفنية والتجارية بين 50 و60 في المئة تقريباً منذ عام 2019، وهي "من بين أعلى المستويات في العالم".

كما تشير مصادر عراقية إلى أن وزارة الكهرباء تعتمد بشكل كبير على الحكومة في عدة نواحٍ: لتسديد ثمن الوقود الذي توفره وزارة النفط، وتمويل الكهرباء التي تشتريها من مشاريع الاستلام والدفع التي يديرها منتجو الطاقة المستقلون، وشراء إمدادات الطاقة الإيرانية المتقلبة.

العراق
رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني – رويترز

على سبيل المثال، أنفقت الوزارة 2.78 مليار دولار لشراء الغاز الطبيعي الإيراني في عام 2021 وضعف هذا المبلغ في العام التالي، بينما بلغت تكلفة استيراد الكهرباء الإيرانية حوالي مليار دولار في عام 2021.

وحتى يزداد الطين بلة، يهدر العراق كميات هائلة من الغاز عن طريق الحرق خلال إنتاج النفط الخام. ووفقاً لـ "البنك الدولي"، يُعد العراق ثاني أكبر دولة في العالم بعد روسيا من ناحية حرق الغاز.

وفي مايو/أيار الماضي، صرح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بأن العراق يحرق 1200 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز بينما يستورد 1000 مليون قدم مكعب قياسي في اليوم من إيران، مما يكلف الحكومة ما لا يقل عن 4 مليارات دولار سنوياً.

وبالإضافة إلى التكلفة المالية الضخمة، تشكل الانبعاثات الناتجة من حرق الغاز خطراً على العراقيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط العملاقة، وتساهم أيضاً في تغير المناخ من خلال إطلاق ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي. والتغير المناخي هو السبب المباشر في درجات الحرارة غير المسبوقة التي يعاني منها العراقيون والعالم أجمع هذا الصيف.

الصراع بين إيران وأمريكا

في الرابع من الشهر الجاري، وفي ظل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة صيفاً، أعلنت وزارة الكهرباء العراقية أن شبكة الكهرباء 500 ميغاواط من قدرتها على التوليد، مما أدى إلى زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي، مرجعة هذه الخسارة بسبب انخفاض إمدادات الغاز الطبيعي من إيران. لكن حتى قبل هذه الخسارة، كان العراق يولد حوالي 24000 ميغاواط، أي أقل بكثير من 34000 ميغاواط اللازمة، وفقاً للتقديرات لتلبية الطلب المحلي.

وفقاً للمتحدث باسم وزارة الكهرباء، أحمد موسى، يحتاج العراق إلى 55-60 مليون متر مكعب يومياً من الغاز الإيراني صيفاً، غير أنه لا يتلقى هذه الكمية. وعندما انخفضت الإمدادات بشكل حاد في 4 يوليو/تموز، عزت الحكومة هذا الانخفاض إلى العقوبات الأمريكية التي تمنع المعاملات المالية مع إيران، بينما أرجعته طهران إلى مشاكل فنية ناجمة عن موجة الحر.

ووفقاً لمصدر أمريكي، تُمنح هذه الإعفاءات بشكل أساسي لحماية "المصرف التجاري العراقي"، "بما أن الحكومة تسدد ثمن إمدادات الطاقة الإيرانية من خلال تحويل الأموال إلى حسابات إيرانية في "المصرف التجاري العراقي"، وغالباً ما يُلقى اللوم على واشنطن للتخفيضات المتكررة في إمدادات الغاز الإيراني؛ لأنها جمّدت الأموال الإيرانية في "المصرف التجاري العراقي"، على الرغم من أن المشاكل الفنية والطلب المحلي الإيراني تسبَّبا في بعض الأحيان في انخفاض الإمدادات أيضاً.

إيران العراق
الرئيس العراقي خلال زيارته إلى إيران (أرشيف)/ رويترز

وفي 9 يوليو/تموز، دعا "الإطار التنسيقي"، وهو التحالف السياسي الرئيسي الموالي لإيران في العراق، بغداد إلى مطالبة الولايات المتحدة بتحرير المدفوعات. وفي السابق، طلب العراق أحياناً، في إطار جهوده الرامية إلى تسديد ثمن إمدادات الطاقة لإيران، إذناً منفصلاً من الولايات المتحدة لتسديد مدفوعات معينة نيابة عن طهران، فيما يتعلق بالأموال التي تدين بها إيران لدول أخرى أو لأغراض مثل الحج والتعاملات للأنشطة الإنسانية.

لكن في نهاية المطاف، لم تعد بغداد قلقة بشأن مسألة الإعفاءات الأمريكية؛ لأنها تعتقد أن واشنطن ستواصل منحها مشتريات الطاقة. وكما قال موسى لمعهد واشنطن: "حالما تنتهي صلاحية الإعفاءات، يتم تمديدها لأنه لا تزال هناك حاجة لاستيراد الغاز. بالإضافة إلى ذلك، أصبح الجانب الأمريكي اليوم مقتنعاً بـ [جهود] العراق لتنويع مصادر طاقته". وفي الواقع، سيستمر العراق في الاعتماد على واردات الطاقة الإيرانية لسنوات.

وبالتالي تأمل بغداد في تجنب انقطاع التيار الكهربائي، وحدوث اضطرابات سياسية، وفرض عقوبات أمريكية من خلال التوصل إلى اتفاق مقايضة مع طهران، لكن الاتفاق يثير العديد من الأسئلة.

هل يكون الاتفاق مع إيران حلاً لمشكلة الكهرباء؟

في 11 تموز/يوليو، وقّعت بغداد وطهران اتفاقاً يسمح للعراق بدفع ثمن الغاز الطبيعي الذي يستورده من إيران من خلال نقل النفط، ويهدف الاتفاق على ما يبدو إلى منع بغداد من انتهاك العقوبات الأمريكية في إطار سعيها لحماية قطاع الكهرباء العراقي الذي لا يزال هشاً للغاية ويعتمد على إيران، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان الطرفان قد توصلا إلى حلول للعديد من التعقيدات التجارية واللوجستية التي تترافق مع تنفيذ مثل هذه الخطة، بحسب الجزء الثاني من الدراسة التي أعدها معهد واشنطن.

يعتمد العراق بنسبة 40% من احتياجاته من الكهرباء على إيران، ما بين نحو 70 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني في اليوم لتغذية محطات توليد الكهرباء في البلاد، وعمليات الشراء المباشرة للكهرباء من طهران. ولكن غالباً ما تخفض إيران إمدادات الغاز للعراق، ويساهم ذلك في بعض الانقطاع في التيار الكهربائي والاستياء العام والمشاكل السياسية. وتعزى بعض هذه التخفيضات إلى الطلب المحلي الإيراني، ولكنها تعود في حالات أخرى إلى رغبة طهران في ممارسة النفوذ وإلى تأخر بغداد في السداد.

ويدين العراق حالياً لإيران بـ 12 مليار دولار مقابل واردات الغاز والطاقة، وقد تم إيداع مدفوعات هذا الرصيد في حساب في "المصرف العراقي للتجارة". ولكن لا يمكن لطهران الوصول إلى هذه الأموال دون إعفاءات من العقوبات الأمريكية المختلفة ضد الكيانات الحكومية الإيرانية. ويسمح اتفاق المقايضة الجديد لبغداد بتجنب هذه الصعوبة والدفع بواسطة النفط.

العراقيون يتظاهرون بسبب انقطاع الكهرباء/ رويترز

وتشمل أسباب السعي وراء هذا الاتفاق الصعوبة التي واجهها العراق في تلبية متطلبات واشنطن بهدف الإعفاء من العقوبات. لكن الإعفاءات الأمريكية المتعلقة بواردات الغاز مشروطة جزئياً بإحراز بغداد تقدم في تحقيق هدفين رئيسيين هما الاستقلالية عن إيران في مجال الطاقة وتقليل كمية الغاز المهدور عن طريق الحرق خلال إنتاج النفط. وشددت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الهدف الأول، بينما ركزت إدارة بايدن بصورة أكثر على الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز.

وتتخذ بغداد بعض الخطوات لتلبية هذه الشروط، مثل التوقيع مؤخراً على اتفاق لاحتجاز الغاز والطاقة الشمسية مع شركة "توتال إنرجيز"، وتطوير "شركة غاز البصرة" مع شركتَي "شل" و"ميتسوبيشي"، وتوسيع حقل "خور مور" للغاز في "إقليم كردستان العراق" في إطار مشروع يتضمن تمويلاً أمريكياً بقيمة 250 مليون دولار وتعاوناً مع كونسورتيوم "بيرل بتروليوم" بقيادة الإمارات العربية المتحدة.

كما أطلق العراق جولة سادسة من منح التراخيص لحقول الغاز، وغيّر نموذج عقوده مع شركات النفط، وشرع في خطط لربط شبكة الكهرباء العراقية مع الأردن و"مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، واستعان بشركة "سيمنز" لاستخراج المزيد من القوة الكهربائية من توربيناته الحالية عندما خفضت إيران إمدادات الغاز في وقت سابق من هذا الشهر.

بين مطرقة إيران وسندان أمريكا

لكن على الرغم من هذه الخطوات، أكد السوداني يوم 11 يوليو/تموز أنه على العراق بذل جهود إضافية على هذه الجبهات، وأنه سيظل بحاجة إلى ثلاث سنوات أخرى على الأقل لتحقيق الاستقلالية عن الغاز الإيراني. وفي الواقع، لم تستثمر بغداد بشكل كبير في استغلال احتياطياتها الهائلة من الغاز، أو احتجاز الغاز المهدور خلال إنتاج النفط، أو تطوير خطوط أنابيب الغاز، أو تطوير التسييل. وهناك أسباب متنوعة وراء هذا الفشل: من البنية التحتية غير الكافية وسوء الإدارة والفساد المزمن، مما أدى إلى عقد اتفاق مقايضة جديد مع إيران يحمل بدوره علامات استفهام كثيرة.

ويتمحور أحد الأسئلة الأكثر إلحاحاً بشأن اتفاق النفط مقابل الغاز حول كيفية تحديد الأسعار. وأشار مسؤول عراقي لمعهد واشنطن أن النفط سيُمنح لإيران بالأسعار الدولية، لكن إيران تبيع الغاز للعراق بسعر أعلى من أسعار السوق وتبيع النفط للصين بسعر أقل من أسعار السوق. وفي الحالة الأخيرة، إيران مستعدة لدفع هذه التكاليف الباهظة للمعاملات من أجل تسهيل صادراتها النفطية غير المشروعة. ولكنها قد تخسر المزيد من الأموال إذا حاولت إعادة تصدير النفط العراقي أو استخدامه محلياً. ويشمل الاتفاق أيضاً زيت الوقود، وبالتالي يمكن لطهران تعويض بعض الخسائر المحتملة باستخدام هذه الإمدادات لأغراض صناعية محلية.

ويثير الاتفاق أسئلة أخرى ملحَّة أيضاً: من أين سيحصل العراق على النفط وكيف سيتم نقله؟ ينطوي أحد الخيارات على نقله بالشاحنات من "إقليم كردستان العراق"، حيث توقف منذ أشهر تصدير الجزء الأكبر من إنتاج المنطقة البالغ 450 ألف برميل يومياً.

ففي شهر مارس/آذار، دفع نزاع قانوني تركيا إلى إغلاق خط الأنابيب الذي ينقل نفط "إقليم كردستان العراق" إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط، مما دفع "إقليم كردستان العراق" إلى تخفيف بعض مشاكله الداخلية، وتوطيد علاقاته مع بغداد، وتهدئة مخاوف أربيل من توغل عسكري إيراني.

وإذا افترضنا أن الأطراف يمكن أن تعمل على حل هذه القضايا، فهل سيحافظ اتفاق المقايضة على استقراره؟ إذا تبيّن لطهران أن العراق يحاول حقاً وقف اعتماده على الغاز والكهرباء الإيرانيَين، فقد يحاول النظام الإيراني تخريب هذه الخطة من خلال تكتيك استخدمه سابقاً، وهو التأثير على مجلس النواب العراقي لتحويل مسار مخصصات الميزانية بعيداً عن مشاريع الطاقة.

وفي نفس الإطار، تمكنت إيران، من خلال مهاجمة أصول شركات النفط الأجنبية بانتظام، من ردع الاستثمار وإبطاء التقدم عندما رأت ذلك مناسباً – وهو تهديد ستأخذه بغداد على محمل الجد نظراً لأن سوء إدارتها قد أعاق أساساً استثمارات شركات النفط الكبرى مثل "شل" و"إكسون موبيل"، ويمكن أيضاً أن يعاود الفساد العراقي البروز مجدداً، بما أن نقل النفط إلى إيران سيشمل على الأرجح أفراداً وشركات مرتبطة بميليشيات الحشد الشعبي وجماعات الجريمة المنظمة.

باختصار، لا بد من أن تعالج بغداد الكثير من المشاكل لإنجاح هذه الخطة، وحتى لو نجحت، ليست هناك ضمانة على أن إدارة بايدن ستقبل ببساطة بالترتيب وتصدر إعفاءات من العقوبات. وقد تكون الحكومة العراقية قادرة على تجنب العقوبات المباشرة، لكن شركات النفط الأجنبية لن تكون محصنة بشكل تلقائي – وهو احتمال مقلق بشكل خاص إذا كان العراق يهدف إلى مقايضة النفط من "إقليم كردستان العراق"، حيث تعمل العديد من الشركات الأجنبية. وربما قد يرمي الاتفاق إلى أن يكون تكتيكاً عراقياً إيرانياً مشتركاً للضغط على واشنطن من أجل السماح لطهران بالوصول إلى أموالها المجمَّدة.

ماذا عن موقف أمريكا؟

يبدو أن اتفاق النفط مقابل الغاز قد أخذ واشنطن على حين غرة، وبالتالي، حتى لو مالت إدارة بايدن أساساً إلى دعمه، فقد ترغب مع ذلك في الحصول على أجوبة من رئيس الوزراء محمد السوداني قبل الموافقة بالكامل عليه. وقد يفترض ذلك تحقيق توازن مألوف بين أهداف متضاربة أحياناً.

فعلى سبيل المثال، تركز واشنطن على أهدافها الطويلة الأمد المتمثلة في تحقيق الاستقرار في العراق، وتأمين أكبر قدر من الاستقلالية لبغداد عن إيران، وسد الثغرات لجعل التهرب من العقوبات أكثر صعوبة على طهران. ولكن في السياق المباشر لأزمة الكهرباء في الصيف، قد يتطلب الاستقرار التقرب أكثر من إيران، وليس الابتعاد عنها.

ويواجه السوداني توازناً مماثلاً بين الوقائع المتضاربة والضغوط. وعلى الرغم من أنه يريد على ما يبدو توسيع مجال مناورته السياسية لاتخاذ إجراءات باستقلالية عن إيران، فهو يدرك أنه إذا تجاوز حدوده بكثير، فبإمكان طهران استخدام وكلائها في صفوف القوات المسلحة العراقية والحكومة العراقية لتقويضه. وهو بصورة أدق بحاجة ماسة فعلياً إلى المزيد من الغاز الإيراني، ولا يمكنه الحصول عليه مجاناً.

بايدن
الرئيس الأمريكي جو بايدن – رويترز

وفي هذا الإطار، يمكن التوقف عند تجربة رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، الذي حاول نزع سلاح ميليشيات الحشد الشعبي، الموالية لإيران، ودمجها في الجيش العراقي، وفي الوقت نفسه السعي إلى أن تسحب أمريكا ما تبقى من قوات لها في العراق، لكن الأمور تحولت إلى حرب تكسير عظام بينه وبين الحشد الشعبي انتهت بفقدان الكاظمي منصبه.

لهذا السبب ربما تصرف السوداني على ما يبدو دون أن يسأل واشنطن، إما لأنه كان يخشى أن تكون إجابتها بـ "كلا" أو اعتقد أن الإدارة الأمريكية ستكون بطيئة للغاية في التصرف. وفي المرحلة القادمة، قد يحاول رئيس الوزراء استخدام اتفاق "توتال إنرجيز" لإظهار أنه يبذل جهداً حقيقياً لوقف اعتماد العراق على الغاز الإيراني، وفي الوقت نفسه، قد يوضح لواشنطن أن وقف هذا الاعتماد فجأة ليس خياراً مطروحاً إلا إذا أرادت إدارة بايدن أن تشهد على انهيار البلاد.

وقد يشير السوداني أيضاً إلى أنه يتعرض لضغوط من إيران لدفع فاتورة الغاز التي تأخر سدادها. وبما أن واشنطن لن تسمح لطهران بسحب هذه المدفوعات من "المصرف العراقي للتجارة"، فلم يكن أمامه خيار سوى السعي إلى اتفاق مقايضة. وتُعتبر هذه الحجج ذات مصداقية نظراً لسلوك إيران السابق – بعد أن سمحت إدارة بايدن لبغداد بتحرير 2.7 مليار دولار من الأموال الإيرانية للتجارة الإنسانية، ورغم ذلك عمدت طهران إلى قطع إمدادات الغاز عن بغداد.

وعلى الرغم من هذا النفوذ الإيراني المؤكد، لا يزال مسؤولو الإدارة الأمريكية مترددين في منح المزيد من الإعفاءات لعمليات السحب من "المصرف العراقي للتجارة" – لكن في الثامن عشر من يوليو/تموز الجاري، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إعفاء جديد مدته 120 يوماً يسمح لبغداد بدفع ثمن الكهرباء لطهران عبر البنوك غير العراقية، على الرغم من وجود قيود مختلفة قد تحد من هذا المسار أيضاً، ومن ثم، فمن المرجح أن يوافق البيت الأبيض على اتفاق المقايضة في النهاية، حتى لو كان ذلك فقط لتجنب زيادة عدم الاستقرار في العراق خلال انقطاع الكهرباء في الصيف.

فمع وصول ساعات القطع الكهربائي في العراق إلى 16 ساعة يومياً، ثار غضب العراقيين خاصة بعد ارتفاع درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية في بعض محافظات الجنوب، وهو ما دفع الناس للخروج في مظاهرات حاشدة وقطع للطرقات، في مشهد ينذر بتكرار احتجاجات الصيف الماضي.

تحميل المزيد