يتكرر التاريخ بشكل مثير للدهشة أحياناً، إذ نشبت مؤخراً حرب أفيون جديدة بين الصين وأمريكا، تذكر بحرب الأفيون التي شنتها بريطانيا ضد بكين قبل أكثر من قرنين لإجبارها على استيراد الأفيون، ولكن ما هي أسباب حرب الأفيون الحالية بين الصين والولايات المتحدة؟ وما علاقتها بأزمة تايوان؟
أصبح هناك جدل بين البلدين حول من المسؤول عن وباء المواد الأفيونية في الولايات المتحدة؛ فوفقاً لوزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، تقع المسؤولية على عاتق "مؤسسات إجرامية عابرة للحدود" يجب التصدي لها من خلال عمليات إنفاذ القانون الدولية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وتلمّح واشنطن إلى أن الصين لا تتعاون كما ينبغي لوقف هذه المواد المخدرة التي تأتي من أراضيها، في ادعاء يمثل صورة معاكسة لما جرى في حرب الأفيون القديمة بين الصين وبريطانيا في نهاية القرن الثامن عشر عندما كانت الولايات المتحدة حاصلة للتو على الاستقلال من إمبراطوريتها.
لكن وفقاً لوسائل الإعلام الحكومية الصينية، فإنَّ "أزمة الفنتانيل في الولايات المتحدة مدفوعة بالطلب من المستخدمين أنفسهم".
كان بلينكن يتحدث في حفل إطلاق تحالف بقيادة الولايات المتحدة معنيّ بمكافحة تهديدات المخدرات الاصطناعية، الذي انعقد الأسبوع الماضي افتراضياً. وامتنعت الصين عن المشاركة في الاجتماع.
مشرعون أمريكيون يلقون باللوم على الصين في نشوب حرب الأفيون الجديدة
ويلقي العديد من المُشرّعين الأمريكيين باللوم على الصين في الأزمة، ومع زيارة سلسلة من المسؤولين الأمريكيين للصين هذا الصيف، يأمل الأمريكيون أن تفعل بكين المزيد لقمع الشركات والأفراد الذين يبيعون سلائف الفنتانيل لعصابات المخدرات الدولية.
والسلائف هي المواد الكيميائية التي يمكن خلطها مع المواد الأفيونية القاتلة. لكن حتى الآن ردت الصين بغضب على التلميحات التي تُحمِّلها المسؤولية عن مشكلة المخدرات الأمريكية.
أكثر من 100 ألف وفاة جراء المخدرات، ثلثاها بسبب المواد الأفيونية الاصطناعية
وبينما تتدهور العلاقات بين البلدين، يستمر ارتفاع عدد الوفيات المرتبطة بالمخدرات. ففي عام 2022، توفي أكثر من 107 آلاف بسبب تعاطي جرعات زائدة من المخدرات، ارتفاعاً من نحو 71 ألفاً في عام 2019.
وكانت ثلثا حالات الوفاة المُسجَّلة في العام الماضي مرتبطة بالمواد الأفيونية الاصطناعية مثل الفنتانيل، الذي تقول إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية إنَّ الجزء الأكبر منه يأتي من الصين، عبر كارتلات في المكسيك.
وفي الشهر الماضي، ألقت السلطات الأمريكية القبض على مواطنين صينيين في جزر فيجي، للاشتباه في تهريبهما الفنتانيل.
المخدرات على رأس جدول أعمال زيارات المسؤولين الأمريكيين لبكين
وخيّم اعتقال هذين المواطنيْن الصينيين، تشين ييي ووانغ تشينغتشو، على زيارة بلينكن إلى بكين، التي طال انتظارها، والتي جاءت بعد واقعة الاعتقال بأقل من أسبوعين.
وجاء على رأس جدول أعمال اجتماعات بلينكن مع المسؤولين الصينيين؛ بمن فيهم الرئيس الصيني شي جين بينغ، الحصول على مساعدة بكين في الحد من تدفق الفنتانيل والمنتجات ذات الصلة إلى الولايات المتحدة. ويُعتقَد أيضاً أنَّ جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، أثارت هذه القضية خلال زيارتها الأسبوع الماضي.
لكن بعد أيام من مغادرة بلينكن العاصمة الصينية، قدمت وزارة العدل الأمريكية اتهامات جنائية ضد تشين ووانغ، إلى جانب 6 مواطنين صينيين آخرين و4 شركات تصنيع كيماويات صينية.
ووصفت الصين الاعتقالات بأنها غير قانونية، وطالبت بالإفراج الفوري عن مواطنيها.
وقالت فاندا فيلباب-براون، الباحثة البارزة في معهد بروكينغز والخبيرة في سياسات المخدرات العالمية: "من المحتمل جداً أن ترد الصين بغضب شديد، وتعتبر هذه الخطوة خدعة قذرة وخيانة لكل ما اتفقت عليه في رحلة بلينكن".
أمريكا تريد إخراج هذه القضية من خلافات البلدين، ولكن الصين ترفض بسبب تايوان
وكان البعض يأمل في أن تكون السيطرة على الفنتانيل أحد المجالات التي قد تجد فيها بكين وواشنطن أرضية مشتركة، خارج المناطق الأشد خصومة مثل التجارة والتكنولوجيا.
لكن من وجهة نظر بكين، فإنَّ جميع سبل التعاون تخضع للمفاوضات الجيوسياسية. ففي أغسطس/آب 2022، علّقت الصين رسمياً الحوار مع واشنطن، رداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي لتايوان.
وهذا يعني أنَّ واشنطن وبكين غير قادرتين على تبادل المعلومات الاستخبارية حول سلاسل التوريد المرتبطة بالعصابات الإجرامية، أو تحقيقات غسيل الأموال.
سلائف المخدرات لها استخدامات طبية مشروعة والصين تعتبر نفسها أكثر حزماً من أمريكا
وعلى الرغم من أنَّ سلائف المخدرات التي تبيعها الشركات الكيميائية في الصين لها مجموعة من الاستخدامات الطبية المشروعة، تشير الباحثة فاندا فيلباب-براون إلى أنَّ علامات التورط الإجرامي غالباً ما تكون واضحة؛ مثل الطرود التي تُشحَن ومعها تعليمات حول كيفية التهرُّب من عمليات التفتيش الجمركية المكسيكية. ولم تتخذ الصين أي إجراء بشأن المعلومات الاستخبارية الأمريكية، ولا لوائح الاتهام منذ عام 2018.
ويكمن جزءٌ من المشكلة في أنَّ الحكومة الصينية تعتبر نفسها قد بذلت جهوداً أكثر من معظم الدول الأخرى في مكافحة المخدرات. ففي عام 2019، بناءً على طلب من الولايات المتحدة، أصدرت الصين جدول مخدرات بجميع أشكال الفنتانيل، وهي الدولة الكبرى الوحيدة التي تفعل ذلك باستمرار. في حين أنَّ الولايات المتحدة تسيطر على تداول نظائر الفنتانيل بجدول تصنيف مؤقت تنتهي صلاحيته في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وسبق أن تعاونت مع أمريكا في التصدي لها، ولكن المهربين غيروا أساليبهم
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أدين 9 أشخاص في محكمة في مقاطعة هيبي الصينية بتهمة تهريب الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، في ختام عملية كانت قد بدأت قبل عامين في مدينة نيو أورلينز الأمريكية. لكن مثل هذا التعاون سيكون مستحيلاً في ظل المناخ الذي يخيم على علاقات البلدين اليوم.
ومنذ ذلك الحين، ازداد تدفق الفنتانيل ونظائره عبر الحدود تعقيداً. وأشار راهول جوبتا، مدير مكتب الولايات المتحدة للسياسة الوطنية لمكافحة المخدرات، في فبراير/شباط، إلى أنَّ إدراج الصين المواد المرتبطة بالفنتانيل على جدول المخدرات كان له تأثير في وجهة التهريب.
وأوضح جوبتا: "تحوّل المهربون من إرسال شحنات من الفنتانيل غير المشروع الجاهز مباشرة للولايات المتحدة إلى إرسال المواد الكيميائية الأولية إلى المكسيك، حيث انتشر إنتاج الفنتانيل غير المشروع".
وتعهدت المكسيك بالمشاركة في التحالف الأمريكي الجديد المعني بمكافحة تهديدات المخدرات الاصطناعية. لكن على الرغم من حقيقة تكثيف وتيرة الاجتماعات بين الولايات المتحدة والصين في الأسابيع الأخيرة، لا تُظهِر بكين أية بوادر على استعدادها للمشاركة في هذه الجهود.
وفي تصريحات أدلى بها المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبين، في اليوم التالي للاجتماع الأول للتحالف، اتهم الولايات المتحدة بالتشهير بالصين، وقال إنَّ الكرة في ملعب الولايات المتحدة "للتراجع عن تحركاتها الخطأ" وإصلاح العلاقات.
وتود واشنطن وضع جهود مكافحة المخدرات فوق أية اعتبارات سياسية، لكن بكين تختلف معها في الرأي