سقطت ورقة التوت!.. علمانية فرنسا وعنصرية شرطتها.. القصة الكاملة!

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/07 الساعة 14:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/07 الساعة 14:32 بتوقيت غرينتش

"العلمانية لم تقتل أحداً!".. هكذا غرد إيمانويل ماكرون عام 2020 متباهياً بالعلمانية في فرنسا، ومؤكداً على أن ما يراه البعض عنصرية متجذرة في بلد "النور" تجنٍّ لا سند له!

فمن أين يستمد الرئيس الفرنسي كل تلك الثقة؟ إنه الدستور أيها السادة. نعم، فالدستور الفرنسي الحالي، والمعمول به منذ عام 1958 ينص على أن فرنسا دولة علمانية، وفي التفسير: الفصل التام بين الحياة الشخصية والحياة العامة، فالفرد في حياته الخاصة له مطلق الحرية في أن يعتنق ما يشاء ويؤمن بما يشاء دون تدخل من الدولة أو مؤسساتها في تلك الحرية. أما في الحياة العامة فالجميع، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الخلفية الثقافية، مواطنون فرنسيون متساوون في الحقوق والواجبات!

إذا كانت هذه هي المادة الأولى في الدستور الفرنسي، فلماذا أطلق أحد عناصر شرطة المرور الرصاص على صدر مراهق فرنسي من أصول جزائرية في السابعة عشرة من عمره ليرديه قتيلاً في الحال، لأن الفتى "نائل" لم يطع أمر الشرطي بإيقاف سيارته مباشرة؟

والدة "نائل"، الفتى الفرنسي، اعتبرت أن الشرطي "رأى وجهاً عربياً، طفلاً صغيراً، وأراد أن يقتله"! فالفتى من أصول جزائرية. هل يعني هذا أن فرنسا العلمانية تعاني من مشكلة عنصرية؟

ليس بالضرورة؛ إذ ربما يكون ما حدث تصرفاً فردياً لا يعكس الواقع الفعلي. ما السبب إذاً في أحداث الشغب والاحتجاجات العارمة التي اجتاحت فرنسا كرد فعل على مقتل "نائل" برصاص شرطي؟

هذه الأحداث، التي حملت تغطيتها عنواناً رئيسياً حول العالم هو "فرنسا تحترق"، اندلعت في يونيو/حزيران 2023، ويرى ماكرون وحكومته أن أطرافاً "مغرضة" تستغل الحادث لإشعال الأمور، ألا تبدو هذه "التبريرات" مألوفة بعض الشيء بالنسبة لنا في المنطقة العربية؟ "الطرف الثالث" هو من قتل المتظاهرين، هكذا تقال العبارة!

لكن هذه فرنسا، بلد "النور"، فكيف يحدث هذا هناك؟ الحقيقة هي أن هذه ليست المرة الأولى، إذ كانت فرنسا قد شهدت أحداثاً مماثلة في عام 2005، أما لماذا؟ فالسبب كان تعرّض مراهقين (زياد بينا 17 عاماً، وبونا تراوري 15 عاماً) للصعق بالكهرباء في أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة بعد نهاية مباراة كرة قدم، حيث لجأ المراهقان إلى محطة كهرباء فرعية في ضاحية كليشي سو بوا بباريس.

ولم تكن تلك أيضاً المرة الأولى، إذ شهدت ثمانينيات القرن الماضي حريقاً مماثلاً ولنفس السبب أيضاً: الشرطة تقتل مراهقين فرنسيين، من أصول أجنبية!

لماذا تتكرر تلك الحرائق في فرنسا بنفس الأطراف وبنفس الظروف وربما لنفس الأسباب؟ هذا هو السؤال الأهم في قصة عنوانها "العلمانية نظرياً والعنصرية تطبيقاً والشرطة أداة التطبيق الأولى"، فدعونا نروي القصة منذ بداياتها الأولى.

قصة العلمانية في فرنسا

ترجع جذور العلمانية إلى تاريخ قديم قدم الثورة الفرنسية ذاتها، حيث تعتمد الدولة الفرنسية نظاماً علمانياً تاماً، يعد جزءاً من إرث الثورة وفلاسفتها التنويريين، الذين نظّروا لفصل الكنيسة عن الدولة والمجتمع.

الثورة الفرنسية يعتبرها كثير من المفكرين والباحثين حول العالم واحدة من أهم الأحداث في التاريخ البشري المعاصر، وليس فقط في تاريخ فرنسا وأوروبا، ويرجع ذلك بالأساس إلى الأفكار والشعارات التي رفعها مفكرون وفلاسفة أصبحوا ملء السمع والبصر، من أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهم.

كان فولتير تحديداً، واسمه فرانسوا ماري أرويه، الملهم الأول للثورة الفرنسية، التي اندلعت عام 1789 واستمرت 10 سنوات، وذلك من خلال كتاباته الغزيرة وأفكاره الجريئة للغاية في ذلك الوقت. كانت فرنسا، شأنها شأن الدول الأوروبية في ذلك الوقت، عبارة عن سلطة ملكية وإقطاعية تتمتع فيها الكنيسة الكاثوليكية وطبقة الإقطاعيين بجميع الامتيازات على حساب باقي قطاعات المجتمع.

وهاجمت كتابات فولتير وغيره من المفكرين السلطة القائمة، الملك والحاشية الإقطاعية ورجال الكنيسة، مطالبة بحرية المعتقد وحرية الفرد بشكل عام والتوزيع العادل للثروات والامتيازات والمساواة بين المواطنين جميعاً، بغض النظر عن المعتقد أو العرق أو المكانة الاجتماعية. ومن خلال كتاباته الغزيرة وبكل الألوان الأدبية، من شعر ونثر ومسرحيات وروايات ومقالات وأبحاث في علم الاجتماع، شجع فولتير الناس على محاربة "السلطة" وانتزاع حريتهم وحقوقهم.

وبرز نجم ساطع للغاية في تلك الفترة من التاريخ الفرنسي هو نابليون بونابرت، الذي أصبح رمزاً للثورة الفرنسية، وخاض حروباً طاحنة في أنحاء أوروبا وحول العالم، وانتهى به المطاف مهزوماً ومنفياً. لكن الثورة الفرنسية نجحت في القضاء على الحكم الملكي والحد من سلطة الكنيسة، لتصبح فرنسا جمهورية وتتعدد تلك الجمهوريات وصولاً إلى الجمهورية الخامسة، التي بدأها شارل ديغول في أعقاب الحرب العالمية الثانية ولا تزال مستمرة.

ربما لا تعنينا كثيراً، في سياق الحديث عن علمانية فرنسا، تفاصيل تلك الفترة من التاريخ الفرنسي على غزارتها وتنوعها وكثرة محطاتها، بقدر ما يعنينا تشكل ذلك المفهوم نفسه، والذي تم تصديره إلى باقي أوروبا وحول العالم، حيث صدر عنه ميثاق يعتبره الكثيرون علامة فاصلة بل وناصعة البياض في التاريخ البشري الحديث، وهو ميثاق "الإنسان المواطن" الذي صدر عن الجمعية العامة في فرنسا في أغسطس/آب 1789، أي بعد 3 أشهر فقط من اندلاع الثورة واقتحام سجن الباستيل، أحد أبرز رموز العصر الملكي/الكنسي المظلم.

ألهمت الثورة الفرنسية كثيراً من الشعوب الأوروبية ووضعت ضربة البداية في إنهاء عصر الإقطاع والملكية وسيطرة الكنيسة، ليبدأ عصر جديد، قال عنه المؤرخ الفرنسي فرانسوا ألارد: "تألفت الثورة لقمع ما يعرف بالنظام الإقطاعي وتحرير الفرد وتوزيع عادل لملكية الأرض، وإلغاء امتيازات النبلاء وإنشاء المساواة وتبسيط الحياة… تختلف الثورة الفرنسية عن الثورات الأخرى في كونها ليست فرنسية فقط، بل تهدف إلى إفادة البشرية جمعاء".

وعلى الصعيد العالمي، ساهمت الثورة الفرنسية في تسريع صعود الجمهوريات والديمقراطيات، وأصبحت نقطة محورية لتطوير الأيديولوجيات السياسية الحديثة، كالليبرالية والاشتراكية وتمكين المرأة والعلمانية بطبيعة الحال، لتصبح "اللائكية" أو العلمانية باللغة الفرنسية رمزاً لحقوق الإنسان وتمكين المرأة والمساواة بين المواطنين وتحرير العبيد، وهي الأفكار الكبرى التي ألهمت حركات التحرر من العبودية والانتخابات وغيرها من أشكال العمل السياسي التي بدأت تتبلور في القرون التالية.

لكن هذه الصورة ناصعة البياض ربما تغفل كثيراً من الأمور الأخرى، التي يراها كثيرون "حالكة السواد" خلال نفس الفترة من التاريخ الفرنسي، وعلى أيدي نفس الأشخاص أيضاً.

الاستعمار الفرنسي وعنصرية الثورة

من الناحية النظرية البحتة، تمثل أفكار ومبادئ العلمانية الفرنسية بالفعل حلماً يتمناه البشر جميعاً داخل فرنسا وخارجها، فالمساواة وحرية المعتقد والتعبير قيم سامية يستحيل أن يشكك أحد في جدواها ومنفعتها، لكن ماذا عن التطبيق؟ كانت الثورة الفرنسية بداية لحشد موارد فرنسا وتنظيم حياة مواطنيها لتحقيق مفهوم الحرب الشاملة، حيث شن الفرنسيون حروباً متتالية داخل القارة الأوروبية وخارجها لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التوسع الاستعماري واستباحة موارد وحياة الشعوب الأخرى في إفريقيا وآسيا والعالم الجديد.

ويعتبر إرث الاستعمار الفرنسي هو الأكثر بشاعة على الإطلاق، بحسب أغلب المراقبين والمؤرخين الفرنسيين أنفسهم، لكن ما قد يمثل مفاجأة حقيقية للكثيرين في هذا الصدد هو إرث فيلسوف الثورة الفرنسية الأشهر نفسه. نعم، فولتير! فقد كان لافتاً للغاية أن يقوم متظاهرون ضد العنصرية، خلال صيف 2020، بتخريب وتلطيخ تمثال فولتير، وقيام جماعات مناهضة للعنصرية بكتابة عبارات مسيئة على صوره!

فقد كشف هذا الجدل، الذي تجدد بعد أكثر من قرنين ونصف من وفاة فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية، عن وجه آخر تماماً للرجل صاحب الأفكار التنويرية وصاحب فكرة العلمانية. إذ كان فولتير أحد المستثمرين في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي تأسست عام 1664 بهدف استغلال ثروات العالم الجديد (الأمريكتين)، وكان أحد أهم مجالات عمل الشركة هو تجارة العبيد الأفارقة الذين كان يتم اصطيادهم وبيعهم كسلع من أجل تحقيق الربح، وذلك بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "فولتير نشر الظلام وليس النور، وعلى فرنسا التوقف عن عبادته".

تحميل المزيد