في أول محاولة جدية للثأر من حرب أمريكا التجارية ضدها، قيدت الصين تصدير معدنَي الغاليوم والجرمانيوم النادرين، والتي تكاد تحتكر إنتاجهما، ويدخلان في عدد من الصناعات المتقدمة من الإلكترونيات والفضاء مروراً بالأسلحة وصولاً إلى ألواح الطاقة الشمسية.
والجرمانيوم والغاليوم هما مفتاحان في عمليات تصنيع الإلكترونيات وأشباه الموصلات، وقررت بكين أن الشركات التي تتطلع إلى تصديرهما من الصين تحتاج الآن إلى ترخيص للقيام بذلك، وتنتج الصين 60% من الجرمانيوم في العالم، و80% من الغاليوم.
وقالت الصين، الإثنين الماضي، إنها ستفرض قيوداً على تصدير بعض منتجات الغاليوم والجرمانيوم، اعتباراً من الأول من أغسطس/آب، لحماية مصالح الأمن القومي، حسبما ورد في وكالة Reuters.
ويعد هذا أول قرار صيني قوي ضد القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على شركات التكنولوجيا الصينية، وآخرها القيود على وصول الشركات الصينية لمعدات تصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة التي تصنعها هولندا.
أمريكا كانت أكثر عدوانية في الحرب التجارية، ولكن هكذا ردّت الصين لأول مرة عليها
في حرب التكنولوجيا بين أمريكا والصين (التي تعد الفصل الأهم في الحرب التجارية بين العملاقين)، كانت واشنطن أكثر عدوانية في الآونة الأخيرة، حسب وصف مجلة Economist البريطانية.
في العام الماضي، وضعت إدارة الرئيس جو بايدن قيوداً صارمة تحد من وصول شركات الذكاء الاصطناعي الصينية إلى التكنولوجيا الأمريكية. كما تعمل واشنطن على إقناع الحلفاء بأن يحذوا حذوها.
في 30 يونيو/حزيران الماضي، قالت هولندا، تحت ضغط من البيت الأبيض، إنها ستقيد مبيعات بعض أدوات صناعة الرقائق إلى الصين من ASML، الصانع الهولندي الذي يقوم بإنتاج أكثر آلات الطباعة الحجرية تقدماً في العالم، وستبيع للعملاء الصينيين من الآن فصاعداً معدات ذات مستوى منخفض من أجهزة حفر الرقائق المتطورة.
في الرابع من يوليو/تموز 2023، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن الحكومة الأمريكية ربما تستعد للحد من استخدام الصين لخدمات الحوسبة السحابية الأمريكية، والتي تسمح للشركات الصينية بالالتفاف على عمليات الحظر الأمريكية السابقة، من خلال الاستفادة من معالجات مزود الخدمات السحابية المتطورة دون امتلاك شرائح خاصة بهم.
وردّت السلطات الصينية حتى الآن على هذا الوابل من العقوبات بإشارة واحدة هزيلة نسبياً، على حد تعبير مجلة Economist.
في مايو/أيار 2023 مُنعت بعض الشركات الصينية من استخدام رقائق الذاكرة التي تصنعها شركة ميكرون، وهي شركة من ولاية أيداهو الأمريكية، لكن في الثالث من يوليو/تموز 2023، أخرجت الصين مدفعاً أكبر في الحرب التجارية مع أمريكا، قائلة إنها ستفرض قيوداً على تصدير الغاليوم والجرمانيوم للخارج، دون أن تسمي الدول المستهدفة.
على عكس حظر شركة Micron الأمريكية، الذي له تأثير، فإن القيود المفروضة على بيع المعادن التي تدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية يمكن أن يتردد صداها عبر صناعة الرقائق العالمية.
وتحصل أمريكا على ما يصل إلى 50% من إمداداتها من الجرمانيوم من الصين، وفقاً لجيفريز، وهو بنك استثماري.
ما هو الغاليوم والجرمانيوم؟
الجرمانيوم والغاليوم من المعادن التي لا توجد بشكل طبيعي، يتم تشكيلها بدلاً من ذلك، عادةً كمنتج ثانوي لمصافي المعادن الأخرى.
سمح حجم الصين لها بإنتاج هذين المعدنين بتكلفة أقل من أي مكان آخر.
الجرمانيوم وهو معدن أبيض فضي خاماته نادرة، ويتم إنتاج معظم الجرمانيوم كمنتج ثانوي لإنتاج الزنك ومن رماد الفحم المتطاير.
تنتج الصين حوالي 60% من الجرمانيوم في العالم، وفقاً للجمعية الأوروبية لتحالف المواد الخام الحرجة (CRMA)، ويأتي الباقي من كندا وفنلندا وروسيا والولايات المتحدة.
صدّرت الصين 43.7 طن من الجرمانيوم الخام والمشغول العام الماضي، وفقاً للجمارك الصينية.
ويعتبر الغاليوم المعدني الفضي الناعم منتجاً ثانوياً لمعالجة خامات البوكسيت والزنك.
يوجد الغاليوم بكميات ضئيلة في خامات الزنك والبوكسيت، وينتج معدن الغاليوم عند معالجة البوكسيت لصنع الألومنيوم. ويتم إنتاج حوالي 80% منه في الصين، وفقاً لـCRMA.
يستخدم الغاليوم لصنع زرنيخيد الغاليوم لاستخدامه في الإلكترونيات، وهي عملية معقدة، وتقول CRMA إن عدداً قليلاً فقط من الشركات، واحدة في أوروبا والباقي في اليابان والصين، يمكنها أن تصنعها بالنقاء المطلوب.
صدرت الصين 94 طناً من الغاليوم في عام 2022، بزيادة 25% عن العام السابق، وفقاً للجمارك الصينية.
ما هي استخدامات الجرمانيوم؟
يستخدم الجرمانيوم عدة استخدامات، بما في ذلك منتجات الطاقة الشمسية والألياف الضوئية. والمعدن شفاف للأشعة تحت الحمراء.
ويستخدم الجرمانيوم وأكاسيده في التطبيقات العسكرية، مثل أجهزة الرؤية الليلية وأجهزة استشعار صور الأقمار الصناعية.
كما أن الألواح الشمسية التي تحتوي على الجرمانيوم لها تطبيقات في الفضاء.
وماذا عن فوائد الغاليوم؟
بينما يستخدم الغاليوم لتصنيع المركب الكيميائي لزرنيخيد الغاليوم، والذي يمكن أن يصنع رقائق تردد الراديو للهواتف المحمولة واتصالات الأقمار الصناعية، وهو مركب أساسي في أشباه الموصلات.
ووفقاً لشركة Wafer World الأمريكية، يمكن أن تعمل رقائق أشباه الموصلات المصنوعة من زرنيخيد الغاليوم بدلاً من السيليكون، بترددات أعلى ومقاومة للحرارة.
كما أنها تنتج ضوضاء أقل من أجهزة السيليكون، خاصةً عند ترددات التشغيل العالية، ما يجعلها مفيدة في الرادارات وأجهزة الاتصال اللاسلكي والأقمار الصناعية ومصابيح LED.
أدى القرار الصيني لارتفاع ثمن الغاليوم بنسبة 5.97% يوم الإثنين عن الجلسة السابقة، وهو الأعلى منذ 16 مايو/أيار الماضي.
ما هي تأثيرات القيود الصينية على أمريكا والدول الغربية؟
ومع ذلك، قال محللون إن تأثير القيود الصينية سيكون محدوداً، حيث توجد مصادر أخرى للمعادن، ويمكن استخدام المواد البديلة، حسبما ورد في شبكة CNBC الأمريكية.
وقالت مجموعة أوراسيا في مذكرة يوم الإثنين إنها "طلقة تحذيرية من الصين وليست ضربة قاتلة".
"هذه الإجراءات الأخيرة محدودة في نطاقها، وبينما تتطلب القواعد الجديدة من المصدرين الصينيين الحصول أولاً على ترخيص، لا توجد في القرارات لغة تمنع التصدير تلقائياً إلى بلدان معينة أو مستخدمين نهائيين".
ولا تستورد الولايات المتحدة وأوروبا كميات ضخمة من هذه المواد. وتلقت الولايات المتحدة 5 ملايين دولار من معدن الغاليوم، و220 مليون دولار من زرنيخيد الغاليوم في عام 2022، وفقاً للأرقام الحكومية.
كانت تجارة الجرمانيوم أكبر قليلاً، حيث اشترت أمريكا ما قيمته 60 مليون دولار منه، بينما استورد الاتحاد الأوروبي 130 مليون دولار من الجرمانيوم في عام 2022، وفقاً لبيانات من S&P Global Market Intelligence.
هناك عدة دول قادرة على إنتاج هذه المعادن، إذ يمكن لبلجيكا وكندا وألمانيا واليابان وأوكرانيا تصنيع الجرمانيوم. وتنتج اليابان وكوريا الجنوبية وأوكرانيا وروسيا وألمانيا الغاليوم بالفعل.
هناك أيضاً بدائل محتملة لهذه المعادن.
وتشير مجموعة أوراسيا إلى أن تحركات بكين سيكون لها "تأثير محدود على العرض العالمي للمعدنين".
إنها خطوة تهدف إلى تذكير البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان وهولندا، بأن الصين لديها خيارات انتقامية، وبالتالي ردعها عن فرض مزيد من القيود على وصول الصين إلى الرقائق والأدوات المتطورة، حسبما قالت مجموعة أوراسيا.
ولكن إذا فرضت الصين حظراً شاملاً على تصدير هذه المعادن فإن الأمر مختلف، حسب مجلة Economist البريطانية.
قد يؤدي الحظر الشامل إلى تعطيل إنتاج مجموعة واسعة من المنتجات الحالية، بما في ذلك الرقائق والشاشات ومعدات الألياف الضوئية والألواح الشمسية.
قد يؤدي أيضاً إلى إعاقة تطوير تقنيات الجيل التالي. يأمل صانعو الرقائق أن يُحلوا تدريجياً، محلَّ السيليكون المستخدم حالياً في معظم المعالجات، بنايتريد الغاليوم أو كربيد السيليكون، وكلاهما يمكن أن يتعامل مع فرق الجهد الكهربائي العالي.
قد يكون الغاليوم والجرمانيوم مفيداً أيضاً في المركبات الكهربائية والطاقة النووية والأجهزة الأخرى، بما في ذلك الأسلحة.
تقول المجلة البريطانية "قد يجادل صقور الصين في واشنطن بأن فرض بكين لحظر شامل يؤدي إلى الإضرار بالمصدرين الصينيين، الذين يبيعون الكثير من الجرمانيوم والغاليوم، للعملاء الأمريكيين، لكن يجب ألا يخطئ بايدن التقدير. تُظهر الصين أنها بإمكانها الرد على أمريكا، وأنها تتوقع علاقة متبادلة متوازنة بشكل أكبر.
رسالة الصين في الأغلب لا تتعلق بهذين المعدنين النادرين فقط، بل بسلسلة من المنتجات والخامات الضرورية للصناعة الحديثة تنتجها بكين، بما في ذلك صناعة الأسلحة الأمريكية، رسالة مفادها "أسلحتكم ستتحول إلى خردة بدوننا".