منذ مايو/أيار الماضي، يشهد شمال كوسوفو توترات متصاعدة بين المسلمين والصرب بعدما قامت حكومة الإقليم بالسيطرة على 4 مبانٍ تابعة لمدن ذات أغلبية صربية، مما يعني المزيد من التوترات في المنطقة التي تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لأوروبا وتركيا ودول البلقان.
هذا الأجراء أدى إلى أعمال عنف بين الصرب من جهة وشرطة كوسوفو وقوات حفظ السلام التابعة للناتو "كفور" (KFOR) من جهة أخرى، أسفرت عن إصابة أكثر من 30 من قوات "كفور"، و52 من المتظاهرين الصرب.
عقب هذه الأحداث وضع الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، جيش بلاده في حالة تأهب قتالي قصوى، وأمر وحداته بالاقتراب من الحدود مع كوسوفو، فيما أرسل الناتو 700 جندي إضافي إلى كوسوفو لمواجهة الاضطرابات المتزايدة.
وفي منتصف يونيو/حزيران تجدد تدهور الوضع الأمني في شمال كوسوفو، عقب اعتقال 3 من الصرب المتهمين بالمشاركة في اشتباكات عنيفة ضد قوات "كفور"، وفي المقابل اختطفت قوات الأمن الصربية 3 من ضباط شرطة كوسوفو.
هذه الأحداث فتحت باب التكهنات عن مستقبل المنطقة المشحونة بالفعل منذ سنوات، والتي يُطلق عليها دوماً "برميل بارود أوروبا".
منصة أسباب المعنية بالتحليل السياسي رصدت هذه الأحداث وسلطت الضوء عليها في تقرير يتابع هذه التطورات، ويتنبأ بمستقبل المنطقة خلال الفترة المقبلة.
جوهر الخلاف
وبحسب أسباب، تمثل الأحداث الأخيرة امتداداً لسلسلة من التوترات بين صربيا وكوسوفو خلال السنوات الماضية حول المناطق ذات الأغلبية الصربية شمال كوسوفو، ويعود جوهر الخلاف بين بلغراد وبريشتينا إلى رغبة السكان ذوي الأصول الصربية في شمال كوسوفو – بدعم من صربيا – في الحصول على الحكم الذاتي للبلديات، التي يشكلون فيها أغلبية، حيث تبلغ أعدادهم 15 ألفاً ويمثلون الأغلبية في 4 بلديات في أقصى شمال كوسوفو.
وفي المقابل؛ تعمل بريشتينا على تأكيد سلطتها وتعزيز سيادتها في شمال كوسوفو من خلال بعض الإجراءات. على سبيل المثال؛ قرر رئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، في يوليو/تموز من العام الماضي، إلزام الأقلية الصربية في البلاد للمرة الأولى بالتخلي عن لوحات ترخيص السيارات القديمة الصادرة عن صربيا واستبدالها باللوحات الجديدة التي أصدرتها كوسوفو، وكذلك أصرّت حكومة كوسوفو على إجراء انتخابات محلية في أبريل/نيسان الماضي، بالرغم من مقاطعة الأغلبية الصربية.
توصلت كل من صربيا وكوسوفو عام 2013 إلى صيغة تحقق الحكم الذاتي لمناطق شمال كوسوفو، من خلال مقترح قانون يسمح بإنشاء رابطة مستقلة للبلديات الصربية في شمال كوسوفو تتمتع بسلطات واسعة للحكم الذاتي، بما في ذلك تلقي أموال التنمية من بلغراد.
ومع ذلك؛ قضت المحكمة الدستورية في كوسوفو بأن بعض الأحكام في القانون المقترح تتعارض مع دستور البلاد، ويبدو أن قرار المحكمة الدستورية يتوافق مع رغبات القادة السياسيين في كوسوفو، الذين يرون أن الشروع في تنفيذ المقترح تماشياً مع ضغوط واشنطن والاتحاد الأوروبي سيقضي عملياً على سيطرة الدولة على جزء كبير من البلاد، وسيكون بمثابة خطوة نحو تقسيم كوسوفو.
الدور الأمريكي والأوروبي في الصراع
اعتمدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا على سياسة داعمة للاستقرار في منطقة غرب البلقان، تقوم على تجنب أي نزاعات يمكن أن يتسلل منها النفوذ الروسي إلى عمق أوروبا، حيث يمكن لاضطراب الأوضاع في غرب البلقان أن يمنح روسيا القدرة على مواصلة جهودها لزعزعة الاستقرار في أوروبا، وربما قطع الطريق على اندماج منطقة البلقان في المؤسسات الأوروبية والأطلسية، الأمر الذي يبدو واضحاً من خلال الدعم الذي تقدمه موسكو لدعوات انفصال إقليم "صربسكا" عن البوسنة والهرسك، وكذلك دعمها لجميع حقوق الصرب في شمال كوسوفو.
لذلك؛ مارس الغرب ضغوطاً على كوسوفو لمواصلة مسار تطبيع العلاقات مع صربيا، ووقف أي إجراءات من شأنها أن تؤدي للتصعيد، فقد ألقت واشنطن وبروكسل باللوم على حكومة كوسوفو لتصعيد التوتر، كما فرضا عقوبات على كوسوفو شملت إلغاء مشاركة الأخيرة في تدريبات الناتو العسكرية Defender 23، وتخفيض الزيارات رفيعة المستوى والاتصالات والتعاون المالي.
بينما تجنبت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون فرض عقوبات أو ممارسة ضغوط على بلغراد؛ تخوفاً من انزلاق الأخيرة في دائرة النفوذ الروسي، خاصة أن البلدين تجمعهما علاقات وثيقة.
ماذا بعد؟
ويمثل الاستقرار في منطقة البلقان إحدى ضرورات الأمن القومي التركي. لذلك؛ اتخذت أنقرة خطوات في السنوات الأخيرة لتقوية علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع دول البلقان.
كما تمتلك أنقرة علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع صربيا، ولديها علاقات قوية مع كوسوفو، استناداً إلى الروابط التاريخية والعرقية والدينية. لذلك؛ فإن ثمة فرصة لتركيا كي تمارس دوراً في الوساطة بين الجانبين.
من المحتمَل أن تعطل البيئة الحالية التي تتسم بعدم الثقة جهود التطبيع بين البلدين بنفس الوتيرة التي شهدتها الفترة السابقة، وقد تدفع بلغراد وبريتشينا إلى تجنب تنفيذ بعض الخطوات الصعبة اللازمة لتطبيع العلاقات، والاكتفاء باحتواء التوتر عبر حلول سريعة غير مؤثرة من الناحية الاستراتيجية في مسار التطبيع.
كما أن الأوضاع الداخلية المضطربة في صربيا والاحتجاجات التي شهدتها البلاد في الشهور الماضية – بسبب تزايد حوادث العنف المسلح في بلغراد – قد تدفع الرئيس ألكسندر فوتشيتش إلى الهروب من أزماته الداخلية عبر تصعيد الأزمة الخارجية في شمال كوسوفو.
يؤكد تجدد التوترات بين كوسوفو وصربيا أن الوضع في مناطق شمال كوسوفو سيبقى ذا حساسية شديدة؛ إذ إن العديد من جوانب الحياة اليومية في المنطقة، مهما بدت بسيطة، لا تزال تحمل دلالات عرقية، مما يعني أن تجدد التوترات العرقية يظل احتمالاً قائماً في أي وقت.
ومع ذلك فإن تحول التوترات إلى صراع عرقي واسع النطاق في المنطقة ما زال غير مرجّح؛ بسبب الضغوط التي يمارسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على كوسوفو وصربيا، وكذلك إحجام بلغراد عن إطلاق مواجهة عسكرية مباشرة تضطرها إلى مواجهة قوات الناتو، الأمر الذي سينهي جهود صربيا لتعزيز علاقتها مع الغرب ومحاولاتها الانضمام للاتحاد الأوروبي.