ثمان وأربعون ساعة استغرقها العدوان العسكري الإسرائيلي في مخيم جنين، بزعم القضاء على المقاومة المتصاعدة فيه على مدار عشرين شهراً، منذ بداية اندلاع الموجة الحالية من العمليات، في فبراير/شباط 2022، وأوقعت خسائر إسرائيلية بعشرات القتلى.
بعيداً عن الأسباب التي دفعت الاحتلال لتنفيذ عمليته "بيت وحديقة"، لكن انسحابه من جنين دون تحقيق الأهداف التي خرج من أجلها تضع الكثير من علامات الاستفهام حول من حقق الإنجاز الحقيقي في هذه المواجهة، أو ما يمكن تسميته صموداً وانتصاراً.
العدوان على جنين فشل الأهداف
فيما أعلن جيش الاحتلال أنه ينوي القضاء على خلايا المقاومة، و"تطهير" المخيم منها، ويستعيد سيطرته عليه، ويفرض وجود السلطة الفلسطينية فيه، فإن رصداً لهذه الأهداف يؤكد أن أيّاً منها لم يتحقق، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، الذين وصلوا لقناعة مفادها أن تحقيقها يعني اجتياح عمق المخيم، وهذا يعني جباية أثمان بشرية باهظة من الجيش، الذي سعى حثيثاً لاستهداف المقاومين عن بعد من خلال الطائرات، وعدم الاشتباك معهم وجهاً لوجه.
خاضت المقاومة مواجهة ضارية مع الاحتلال باعترافه، بمختلف وحداته الغازية من المشاة والاستطلاع والنخبة، وأظهرت أنّها تمتلك أوراق قوّة ميدانيّة، خصوصاً بعد خوض معارك على مشارف المخيم، رغم أنّ قوّات الجيش لم تتوغّل أعماقاً كبيرة فيه، بل دخلت بضع مئات من الأمتار، أوقعت حسب الاعتراف الإسرائيلي قتيلاً وعدداً من الإصابات.
وبداً واضحاً منذ البداية وجود شكوك كبيرة أن يغامر الجيش بإلقاء جنوده في "عش الدبابير"، كما يطلق على مخيم جنين، ما جعله يتريث قبيل الذهاب لهذه الخطوة "الانتحارية"، غير المفضلة له، ودفعه لاتباع سياسة "الأرض المحروقة" ضد المخيم، وتهجير الآلاف من أهله.
طوى جيش الاحتلال صفحة عدوانه الأخير على جنين، ولو بشكل مؤقت، دون أن يحقق ما أعلن عنه قبل بدئه، لأسباب عديدة، أهمها خشيته "المشروعة" من مفاجآت كثيرة أعدتها المقاومة، ودخول جنوده لعالم مجهول لا يعرفون عنه شيئاً من القدرات والوقائع والتكتيكات التي ستواجههم.
أكثر ما يخشاه الجيش مشاهد الدبابات المدمّرة، والآليات المحترقة، والجثث المشوهة، والجنود القتلى أو المأسورين، رغم صدور دعوات إسرائيلية لإعادة احتلال المخيم، كما جاء على لسان مافيد مارعي أحد كبار ضباط الجيش في انتفاضة الحجارة.
سبب آخر يتمثل في أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي بادر لتنفيذ العدوان على جنين بدا عليه التردد، وفقاً لما ذكره الجنرال عاموس غلعاد، الرئيس السابق للدائرة السياسية والأمنية بوزارة الأمن، لأنه علم أن الوصفة السحرية لمزيد من سقوطه في الرأي العام، بجانب الاحتجاجات ضده، تتمثل بأن يعود جنوده من أرض المعركة في جنين محمولين بتوابيت سوداء جثثاً مقتولة.
مع وجود سبب ثالث يتمثل في عدم إحاطة الجيش بطبيعة جنين من الداخل، بعد سنوات من مغادرتها، في ضوء تقديراته القائلة بأن المقاومة فيها تجيد قتال الشوارع، وفنون الاختفاء والتمويه، وسرعة توجيه الضربات للخصم، وأفادت معلوماته الاستخبارية بأن الفلسطينيين يقاتلون على أرض جهّزوها جيداً، وتدربوا عليها منذ أشهر.
الرصد والاستطلاع
بات واضحاً منذ الإعلان في اللحظات الأولى لبدء العدوان على مخيم جنين، أن مقاومته شكلت العديد من الوحدات القتالية التي تتركز مهامها في حراسة المناطق المعرضة للاجتياح، والمرابطة للرصد والاستطلاع، ويتركز معظم عملها في ساعات الليل، وفي أماكن متقدمة مع خطوط التماس مع الاحتلال، وفي مداخل المخيم.
تضم هذه الوحدات أفراداً ينتظرون دورهم لتنفيذ مهام قتالية عندما تحين الفرصة، وبدا أن تسليحها وتجهيزها متشابه، فكل مجموعة لديها عبوات جانبية وعبوات أرضية، بعضها يتم زرعه بشكل ثابت، وآخر يتم استخدامه، ونقله حسب الحاجة، ويحمل أفراد كل مجموعة أسلحة مختلفة ومتنوعة.
كما حرص المقاتلون على تغطية برنامجهم القتالي كل ساعات العدوان، من خلال التناوب الدوري لكل خلية، وهو بالتأكيد عمل منظم وصعب. وتعتبر المهمة الأساسية المناطة بهم هي الإنذار المبكر والتصدي لأي قرار بالاجتياح، وفي حالة وصول بلاغ عن حشود إسرائيلية، يتم تعميم البلاغ على كافة المجموعات، ثم يتم استنفار الأخرى خارج المناوبة.
لم يُخف الجيش الإسرائيلي أن قوّاته واجهت مقاومة عنيفة من مقاتلي المقاومة المتحصّنين في مواقع حدّدوها سلفاً على مشارف المخيم، وفق خطّة ترمي لمباغتتها في عمليّات دفاعيّة وهجوميّة لإنزال الخسائر فيهم، في حرب استنزاف يصعب على الرأي العام الإسرائيليّ تحمّلها، ما دفع المستويين السياسي والعسكري للإسراع بإنهاء العملية قبل وقوع ما لا تحمد عقباه.
خرج الضباط والجنود الإسرائيليون بانطباعات متشابهة عقب سلسلة الاشتباكات المسلحة في الثماني والأربعين ساعة التي شهدها العدوان على جنين، مفادها أن المقاومة بنت خلايا قوية منظمة تحتوي على تشكيلات عسكرية، لا يمكن الاستهانة بها، مع ملاحظة تطور أداء مقاتليها بشكل مفاجئ وغير محسوب، لأنهم خاضوا مع الجيش اشتباكات مدروسة، وليست انتحارية، وأثبتوا قدرة عالية على الصمود والتحدي والجرأة، وكأنهم تلقوا تدريبات صعبة ومتقدمة.
روايات ميدانية
مع انتهاء العدوان على جنين، ولو مؤقتاً، بدأت الصحافة ووسائل الإعلام الإسرائيلية تتهم قيادة الجيش والحكومة بأنها تخفي ما حصل لها في المخيم، لأنّ المعلومات تقول إنّ الجنود لم يتحملوا ما واجهوه من اشتباكات.
فيما نشرت المقاومة طوال ساعات العدوان على جنين بعضاً من روايات مقاتليها الذي شاركوا بعمليات الالتحام المباشر مع الجنود، ورووا شهاداتهم عما شاهدوه طوال فترة القتال على الخطوط الأمامية أمام جيش مدجج، مع أن جيش الاحتلال أدار العدوان على جنين عبر لجوئه لوسائل اتخذها لتقليل الإصابات في صفوفه، لأن مخاوف جنوده كثيرة، والهاجس الذي تملّك قواته التي اقتحمت مشارف المخيم تركز في الخشية من عمليات القنص، والعبوات الناسفة، والمنازل المفخخة، وأكثر ما يخشونه وقوع أحد الجنود بالأسر.
في المقابل، انتهجت المقاومة تكتيكات جديدة قائمة على خطوات مدروسة بعناية بعيداً عن حالة ردود الفعل المتسرعة، ما وفر لها هامش تحرك منحها فرصة حماية رجالاتها، وتفعيل أدواتها بفاعلية وكفاءة كبيرة، ومن خلال تتبع التطورات الميدانية فقد نجحت بالمحافظة على قدراتها، واستمرار وتيرة اشتباكاتها بانتظام وفاعلية، دون أن تتمكن طائرات الاحتلال المنتشرة بكثافة في سماء جنين من النيل منها.
ولذلك ظهر التقدم البري الإسرائيلي باتجاه المخيم بطيئاً جداً، فالآليات العسكرية تقدمت بضعة أمتار في كل ساعة، خشية من العبوات الناسفة التي زرعها المقاومون.
وتداول الجيش تقديرات مفادها أن المقاومة استلهمت أفكار أشقائهم في غزة حين دأبوا على مواجهة جنود الاحتلال وجهاً لوجه، واتباع تكتيك محترف في مواجهة عمليات التوغل، تركز في ابتكار اقتحام مضاد بغرض نصب الكمائن للاحتلال، بفتح ثغرات في البيوت وعبرها، والتنقل من خلالها، وإعداد كمائن للجيش داخلها كي تفاجئه.
غياب الاستراتيجية
دخل حكومة وجيش الاحتلال عملية "بيت وحديقة" ضد مخيم جنين دون استراتيجية للخروج منها، ولا بنك أهداف سياسية، ولا قرار مسبق بشأن الحد الأدنى المطلوب من المعركة. واستكمالاً لذلك انتهت الجولة الأخيرة دون إنجاز مهمّ، وسط جدل داخلي وإحباط سيستمران حتى الجولة المقبلة، وبهذه الطريقة حظيت المقاومة بفترة تهدئة تستغلها لإعادة تنظيم صفوفها، وملء مخزونها من السلاح والعتاد والتحصين.
اعترف الإسرائيليون بعد الساعات الأولى من انتهاء العدوان على جنين أن أهدافه "المحدودة" يمكن لها أن تتعقد، وتتورط أكثر، لأن معالجة التهديدات التكتيكية الآنية قد تؤدي لخسائر بشرية عديدة، وتدهور الوضع في المنطقة بغير ما يريد الاحتلال، خاصةً بعد أن نجحت المقاومة في "بلورة تكتيكات جديدة" لم تستخدمها في المواجهات السابقة، من خلال الرد على توغل الاحتلال وفقاً لأساليب محسوبة، وتقديرات واحتياطات جديدة حافظت بها على رجالها بعيداً عن مرماه، ما أسهم في توجيه ضربات مؤلمة لقواته.
كما زادت الاعترافات الإسرائيلية في الحديث عن تمكن المقاومة منذ بداية العدوان بإدارة الميدان بحنكة عالية، بعيداً عن الاندفاع العاطفي في تعاطيها مع القوات المتوغلة، مستفيدة من تجاربها السابقة، وباتت أكثر قدرة على المناورة، ووعياً في استخدام وسائلها القتالية وحنكة، وتأنّياً في ردودها، بخلاف حملات العدوان السابقة التي عملت أثناءها تحت وطأة العواطف الجماهيرية.
في المقابل، بدا جيش الاحتلال، وقيادته السياسية والعسكرية، أكثر تردداً بسبب عدم قدرتها على الرؤية الجيدة، وعدم امتلاكها معلومات كافية عن تطور أدوات المواجهة داخل المخيم، ودون معرفتها بدقة للأسلحة المتوفرة بأيدي المقاومة، ومثلما فوجئ بالعبوات الناسفة التي استهدفت آلياته، فقد كان لديه تقدير يصل حدّ اليقين أنه سيصاب بذات المفاجأة بأسلحة ووسائل قتالية تتجهز لاعتراضها إن قررت الوصول لعمق المخيم.
لقد عبّرت التصريحات الإسرائيلية المعترفة بالفشل عن تململ في أوساط النخبة السياسية والعسكرية، لأنها حملت تساؤلات جدية ومصيرية عن عدم قدرة الجيش على تحقيق الأمن لهم، وحفلت وسائل الإعلام بالعديد من التشكيكات في جدوى العدوان، وحذرت من عواقبه، بالتزامن مع التحذير من مفاجآت قد تواجه الجيش إن فكر في إعادة احتلال المخيم، مع احتمال نصب الكمائن له، والتخطيط لعمليات نوعية.
أكثر من ذلك، فإن بعض الأقلام الإسرائيلية لم تتردد في الاعتراف بأن المقاومة تفوقت على الجيش في "التفكير العسكري الإبداعي"، وأنه فشل فشلاً ذريعاً في تطوير قدراته، و"التفكير خارج الصندوق"، واستهجنت أن تتفوق المقاومة الصغيرة ومحدودة الإمكانيات في مخيم جنين المحاصر على الجيش ذي القدرات الهائلة، ما يدلل على إخفاقه في فهم قدرات المقاومين، ومدى جاهزيتهم للتصدي للعدوان.
لم يحلم قادة جيش الاحتلال في أشد كوابيسهم حلكة أن يصاب بهذه الانتكاسة العسكرية أمام عشرات من المقاتلين الفلسطينيين في مخيم جنين، هذه البقعة الجغرافية التي لا تكاد ترى بالعين المجردة، في ضوء الخشية مما قد تسببه المواجهة من استنزاف داخلي، كفيل بمنع أي حكومة من الانزلاق لمواجهة غير محسوبة العواقب مع المقاومة، التي ستعدّ العدة جيداً لضرب الخاصرة الإسرائيلية الضعيفة في أي مواجهة قادمة.
كما تجلت النتائج السلبية المبكرة للعدوان على جنين على الداخل الإسرائيلي من عدة جوانب، أخطرها أن تحقيق أهداف العدوان جاء محفوفاً بالمخاطر، وفقاً لما ذكره الجنرال تامير هايمان الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية- أمان.
ففي اللحظة التي ستقع فيها عملية فدائية ضد الاحتلال مصدرها المخيم، فلن يكون هناك "انتصار" إسرائيلي، ورغم مسارعة نتنياهو للحديث بعبارات ملؤها الغطرسة عن الانتصار "المتوهم" في المعركة، لكن اتضح بعد ساعات أن هذه "عبارة كُتبت على الجليد"، ولهذا فإن الإحساس بالعجز الذي بدأ يصيب الإسرائيليين أنشأ لديهم خيبة الأمل.
صحيح أن جيش الاحتلال ربما وضع يده على مقدرات عسكرية للمقاومة في المخيم، قابلة للتعويض في الفترة القادمة، لكنّه لم يتمكّن من حسم المعركة، ما يعني أنها سجلت عليه انتصارا مهماً في الوعي الجمعي للفلسطينيين بضرورة المُقاومة، ولذلك توالت في الساعات الأخيرة هجمات العديد من الخبراء والمحلّلين العسكريين الإسرائيليين على قادة الدولة، بزعم أنهم "أهدَوا" المقاومة نصراً بسبب فشلهم في إدارة العدوان على جنين.
مصير السلطة
فيما تواصل العدوان العسكري الإسرائيلي على جنين، فقد تركزت الأنظار السياسية على السلطة الفلسطينية، على اعتبار "أن ما يحدث في جنين لن يبقى في جنين"، بل قد يمتد لمراكز أخرى بالضفة الغربية، وتحوّلها بأكملها إلى ساحة معركة، ويؤدي لنهاية وجود السلطة، خاصة بعد المشاهد القاسية التي واجهها قادتها حين زاروا المخيم بعد انتهاء العدوان، وطرد سكان المخيم لهم، واتهامهم بالتواطؤ في العدوان عليهم.
تزايدت التقديرات الإسرائيلية بأن العدوان على جنين شحذ اتجاهاً مستمراً منذ عدة سنوات، مفاده أنها تعتبر بؤرة تهديد لوجود السلطة برمّتها، وتحولت تدريجياً لمنطقة تسيطر عليها خلايا المقاومة التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع تلاشي نفوذ السلطة ووجودها في المخيم، ما تطلّب مزيداً من اهتمام صناع القرار الإسرائيلي لعدة أسباب.
أول هذه الأسباب التي طرحها مايكل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية بجامعة تل أبيب، والباحث بمعهد السياسة والاستراتيجية بجامعة رايخمان، أن حالة النشوة التي تعيشها المقاومة في جنين شكلت مزيداً من الضعف للسلطة، التي ازدادت صورتها رداءة، وصاحبتها علامات استفهام حول مستقبلها.
وثانيها تقوية حماس التي قد تستغل الفراغ السلطوي في شمال الضفة لترسيخ قوتها، مع إثبات قدرتها على تعزيز المقاومة المسلحة في الساحات التي تناسبها. وثالثها المحنة العميقة للشباب الفلسطيني، الذين يواصلون الانضمام للخلايا المسلحة، وكل ذلك من شأنه تقويض وجود السلطة وبقائها، ويخلق واقعاً مشبعاً بالتهديدات لإسرائيل في وقت قصير نسبياً، ما يعد تحدّياً استراتيجياً.
من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن مصلحتها تكمن في الحفاظ على وجود السلطة، رغم عيوبها العديدة، لكنها لا تزال الأقل خطراً بالنظر لبدائل أخرى أهمها استيلاء حماس على الواقع الفلسطيني في الضفة.
ورغم أن تقوية السلطة بات مصطلحاً سائداً في الخطاب الإسرائيلي قبل وخلال وبعد العدوان على جنين، لكن ترجمته العملية معقدة، لأن استقرارها يستدعي من إسرائيل عدة خطوات، أولها تجنب فرض العقوبات المالية عليها، وثانيها استمرار التحركات الاقتصادية لإنعاش الجمهور الفلسطيني، وصولاً لدمج الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي.
وثالثها تجميد البناء الاستيطاني لأنه يؤدي لصدور ردود فعل حادة من السلطة، ورابعها تكثيف الجهود ضد حماس للحدّ من نشاطها، بناء على ما ذكره الجنرال آيال بن رؤوفين مساعد قائد المنطقة الشمالية الأسبق في جيش الاحتلال.
مستقبل الضفة
صحيح أن خلايا المقاومة تتركز هذه الأيام في شمال الضفة الغربية، حيث مدينتي نابلس وجنين ومخيماتهما، لكن التخوف الإسرائيلي يكمن بأن يتسبب صمود المقاومة في جنين، وإنهاء جيش الاحتلال لعدوانه دون تحقيق أهدافه، لتعميم فكرة المقاومة على كامل أرجاء الضفة، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وهنا يكمن الخطر الاستراتيجي الحقيقي، لأن أقرب نقطة بين حدود الضفة نزولاً باتجاه الغرب إلى عمق إسرائيل ووصولاً إلى البحر تتراوح بين 12-15 كلم.
كما تطل جبال الضفة على العمق الإسرائيلي، وتشرف على 45% من مساحة الشريط الغربي، ولذلك ستكون خطة إسرائيل للمرحلة القادمة في الضفة منع المقاومة من التقاط أنفاسها، كي لا تمتلك أسلحة نوعية، لأن التخوف الإسرائيلي وصل بقادة الجيش لإطلاق تسميات جديدة على الضفة الغربية، ومنها: "الجبهة الشرقية الجديدة، قوس الشرّ".
يبرز السؤال أكثر إلحاحاً عن ساحة المقاومة في الضفة، خاصة بعد معركة جنين، من عدة اعتبارات، أهمها أن ساحتها الميدانية ما زالت متمثلة في مهاجمة دوريات الجيش ومركبات المستوطنين، مع ملاحظة أن حجم الضغط الأمني والعسكري قد زاد كثيراً خلال الشهور الماضية على قوى المقاومة من خلال عملية "كاسر الأمواج" التي انطلقت في مارس/آذار 2022، لاسيما من خلال حملات الاعتقالات، والقيام بسلسلة اغتيالات لعدد من الكوادر العسكرية.
ما يزيد من خطورة النظرة الإسرائيلية لواقع المقاومة في الضفة، خاصة بعد العدوان الأخير على جنين، أنه تحول لـ"أسطورة" فعلية، وأوشك أن يقدم نموذجاً ينسف نظرية الردع الإسرائيلية من أساسها، ويعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم مثل بيروت وستاليننغراد، لأن مقاتليه قدموا أقصى ما لديهم في منطقة مغلقة.
صحيح أن مخيم جنين نموذج مصغر، لكنه محبط لنظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة، ما دفع العديد من الكتابات الإسرائيلية للحديث عن ضرورة الاستعداد لبدء ما سموه "الانتفاضة الثالثة" في الضفة الغربية، التي تتركز أشكالها في إطلاق النار على المستوطنين ودوريات الاحتلال، والتفجير عن بعد للعبوات الناسفة، واقتحام المستوطنات، وإن كانت أصبحت أكثر صعوبة، فضلاً عن استهداف العمق الإسرائيلي كما حصل في عملية تل أبيب بالتزامن مع العدوان على جنين.