يبدو أن الأحداث الدامية التي فجرها مقتل الفتى الفرنسي "نائل"، ذي الأصول الجزائرية، برصاص الشرطة الفرنسية، ستكون لها تداعيات على العلاقات المتوترة في الأساس بين فرنسا والجزائر، فما القصة؟
كان "نائل"، الذي يبلغ من العمر 17 عاماً فقط، قد تعرّض للقتل يوم 27 يونيو/حزيران 2023، برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير (بالضاحية الغربية لباريس) على خلفية عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية.
وتسببت الجريمة في اندلاع احتجاجات غاضبة عمّت أنحاء فرنسا، معيدة إلى الأذهان أحداثاً مشابهة وقعت عام 2005، وعقدت الحكومة الفرنسية اجتماعات طارئة لبحث خيارات التعامل مع الأزمة وقطع الرئيس إيمانويل ماكرون زيارته لبروكسل، لحضور قمة الاتحاد الأوروبي وأجل زيارته لألمانيا بسبب الموقف المتفجر.
موقف غير مسبوق اتخذته الجزائر
في سابقة هي الأولى من نوعها، أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بياناً بشأن مقتل "نائل"، عبرت فيه عن "الصدمة"، وجاءت لغة البيان "حادة"، حيث وصف الحادثة بـ"الوحشية"، وأنها تلقت بـ"صدمة واستياء وفاة الشاب نائل بشكل وحشي ومأساوي، والظروف المثيرة للقلق بشكل لافت التي أحاطت بحادثة الوفاة".
وأضاف البيان أن "وزارة الشؤون الخارجية على ثقة بأن الحكومة الفرنسية ستضطلع بواجبها في الحماية بشكل كامل، من منطلق حرصها على الهدوء والأمن اللذين يجب أن يتمتع بهما مواطنونا في بلد الاستقبال الذي يقيمون به".
ولم يسبق أن أصدرت السلطات الجزائرية بياناً بشأن حوادث مماثلة تقع على التراب الفرنسي، ويكون أحد ضحاياها من أفراد جاليتها. كما خلفت حادثة مقتل "نائل" موجة تنديد واسعة في الجزائر، من طرف البرلمان ومختلف الأحزاب الموالية والمعارضة، والتي أجمعت على وصفها بـ"العنصرية"، وأنها تأتي في إطار سياسة تضييق وتهميش تطال الجاليات العربية والمسلمة منذ عقود.
وتوجد في فرنسا إحدى أكبر الجاليات الجزائرية في العالم وتشير أرقام غير رسمية أنها تتجاوز عدد 5 ملايين شخص، كما أن الجزائر تمول وتشرف على إدارة أكبر مساجد فرنسا وهو مسجد باريس الكبير، وترسل سنوياً عشرات الأئمة للإشراف على مساجد تتبعه.
كما أفردت وسائل الإعلام الجزائرية، وكذلك المغربية والتونسية، مساحات واسعة لتغطية الأحداث في فرنسا، موجهة انتقادات لاذعة لما وصفتها بأنها "عنصرية ممنهجة" من جانب الشرطة الفرنسية تجاه المهاجرين عموماً، ومهاجري الدول الثلاث خصوصاً، بحسب تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية. واتهمت وسائل الإعلام الجزائرية فرنسا بالتهميش المتعمد للمهاجرين عموماً حتى أبناء الجيل الرابع.
لكن بيان وزارة خارجية الجزائر المندد بحادثة القتل، والاحتجاجات الرسمية والشعبية في الجزائر، أثارت "جنون" اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، فصوبوا سهامهم نحو الجزائر، معتبرين ذلك "تدخلاً في شؤون فرنسا الداخلية".
وتثير أحداث العنف في فرنسا مخاوف من أن يتسبب الأمر كله في مزيد من التضييق على المهاجرين، ليس في فرنسا وحسب، وإنما في أوروبا ككل، فالمسلمون في فرنسا تحديداً يواجهون تحديات عدة تجعل حياتهم أكثر صعوبة يوماً بعد آخر، حيث يعد التمييز والعنصرية والعنف أبرز العقبات اليومية في حياتهم، وصنف "تقرير الإسلاموفوبيا في أوروبا لعام 2022" فرنسا واحدة من أكثر الدول معاداة للإسلام.
وفي يوليو/تموز 2021، تبنت الجمعية الوطنية في فرنسا (البرلمان) مشروع قانون "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية"، الذي يرى خبراء أنه "يعيق بشكل منهجي الحرية الدينية والممارسات الإسلامية".
تأجيل زيارة تبون إلى فرنسا
وفي هذا السياق، رصد تقرير لوكالة الأناضول المخاوف من احتمال اتخاذ تدابير تضييق على الجالية الجزائرية، التي تعد الأكبر في فرنسا، حيث يتجاوز عددها 5 ملايين شخص.
فقد تزامنت هذه الأحداث مع "أزمة صامتة" أخرى بين الجانبين الجزائري والفرنسي دامت أشهراً، وكانت وراء تأجيل زيارة كانت مرتقبة للرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس، لمرتين، الأولى في مايو/أيار، والثانية في يونيو/حزيران 2023.
وكان سبب هذا التوتر بين الجانبين عدة قضايا، أولها احتجاج الجزائر على تهريب الناشطة أميرة بوراوي نحو فرنسا خلال شهر فبراير/شباط الماضي، عبر تونس، وبعدها ظهر غضب فرنسي من مرسوم رئاسي جزائري يتعلق بظروف وشروط أداء النشيد الوطني الجزائري، في المناسبات الرسمية، يتضمن مقطعاً يتحدث عن فرنسا وضرورة محاسبتها.
كما تصاعد نقاش في فرنسا قبل أسابيع لإلغاء اتفاقية تعود إلى عام 1968، تمنح الجزائريين امتيازات في الهجرة والإقامة بفرنسا. ورد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف قبل أيام على هذه الحملة، في مقابلة مع وكالة الأنباء الإيطالية "نوفا" بالقول "يبدو أن بعض الأحزاب أو السياسيين الفرنسيين يرون أن اسم الجزائر أصبح سهل الاستخدام في الأغراض السياسية"، وأضاف: "يتحدثون الآن عن اتفاقات بشأن إقامة الجزائريين في فرنسا، حقاً لا نفهم لماذا يجب أن تثار كل هذه الضجة؟".
وخلال اجتماع لمجلس الوزراء الجزائري، يوم 2 يوليو/تموز الجاري، برئاسة تبون، قدم وزير الخارجية أحمد عطاف عرضاً حول وضع الجالية الجزائرية في الخارج، ونقل بيان للرئاسة أن تبون أكد بعد العرض "إيلاء الدولة الأهمية القصوى للاستماع الدائم لانشغالات جاليتنا والتكفل بها من خلال القنوات الدبلوماسية، في إطار التزام الرئيس بالعمل على تحسين ظروف الجالية الجزائرية في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية، وتسهيل عودة الكفاءات والكوادر الجزائرية".
ما التأثير المحتمل على الجالية الجزائرية؟
في هذا السياق، يرى عبد الله زكري، وهو جزائري يرأس مرصد مناهضة الإسلاموفوبيا بفرنسا، أن المظاهرات الأخيرة التي تشهدها عدة مدن فرنسية ستكون لها انعكاسات مباشرة على الجالية الجزائرية التي تعد الأكبر في البلاد. وأوضح عبد الله زكري في حديث لـ"الأناضول" أن هذه الأحداث ستؤدي حتماً إلى ترحيل الجزائريين الذين لا يتمتعون بالجنسية الفرنسية من الجانحين في مختلف القضايا.
وأضاف زكري أن من الإجراءات المتوقعة أيضاً تجاه الجزائريين تقليص مزايا الدعم الاجتماعي للذين يتمتعون بالجنسية الفرنسية، مشيراً إلى أنه من غير المستبعد أن تلجأ السلطات الفرنسية لتقليص عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين على خليفة هذه المظاهرات.
كما ستحاول سلطات باريس على الأرجح إنهاء العمل باتفاقية الهجرة الثنائية بين الجزائر وفرنسا لسنة 1968، مثلما يطالب به حالياً سياسيون وحتى وزراء في فرنسا، بحسب ما يعتقده زكري، مضيفاً أن الجالية الجزائرية صارت اليوم وكأنها رهينة لدى أولئك الذين ينهبون ويسرقون المحلات ويحرقون المدارس والحافلات وغيرها.
وقال رئيس مرصد مكافحة الإسلاموفوبيا: "بالتأكيد هؤلاء أقلية، لكن للأسف أبناء الجالية يدفعون ثمن البلطجية، ليست الجالية الجزائرية فقط من يطالها الاستهداف، بل كل المسلمين في فرنسا"، معتبراً أن ما يؤسف له هو أن شباباً يقومون حالياً بحرق مدن فرنسية، رغم نداءات ومناشدات تدعو إلى التعقل والهدوء.
"ما يثير المخاوف هو قيام مجهولين بإطلاق نداءات لوضع قنابل في مساجد، ما يعيد إلى الذاكرة حرب التحرير الجزائرية، عندما قامت منظمة الجيش السري الفرنسية باستهداف البيوت ودور العبادة وغيرها"، بحسب زكري. "عند أحداث 2005 المأساوية (مظاهرات الضواحي)، أطلق الرئيس جاك شيراك حينها نداء للتعقل والتهدئة، واعتبر أن الشباب هم مواطنون فرنسيون، وهو الأمر الذي لم نلحظه هذه المرة، حيث نسمع فقط نداءات للقمع وهذا غير منطقي".
عبد المجيد توهامي، رئيس تجمع المقاولين الجزائريين بفرنسا، يعتقد أن الأوضاع في أوساط الجالية كانت بمثابة قدر تغلي، وانفجرت المشاكل في وقت واحد ضد التمييز وكراهية المسلمين، وصعوبة أو استحالة الوصول لوظائف تضمن العيش الكريم والدراسة، خصوصاً من هم بأسماء أجنبية وجزائرية.
ولفت توهاني الذي يقيم بالعاصمة باريس للأناضول أن كل هذه الأسباب أدت إلى انفجار العنف، واللافت فيه أنه كان ضد البلديات ومقرات الشرطة وغيرها، أي أنه ليس ضد أشخاص، بل ضد مؤسسات بعينها، وعلق بالقول "المؤسسات لا تساعد الشباب الذي يعاني من البطالة، والذي تُرك يواجه مصيره مهمشاً في الأحياء المنغلقة وكأنها سجون".
إذ إن الحديث الذي يتداول الآن في الأوساط الفرنسية يركز على إلغاء الجنسية المزدوجة للجزائريين، وتعليق اتفاقية الهجرة (1968)، ومنع لم الشمل العائلي وتجميد المساعدات الموجهة للسكن الاجتماعي.
وقال توهاني في هذا الصدد "هذه إجراءات ستكون لا محالة ضد المهاجرين الجزائريين"، مضيفاً: "هذا يرجع لكون السياسيين والمسؤولين الفرنسيين تفاجأوا من دعم الرئيس تبون لأبناء الجالية الجزائرية بفرنسا. هذا الأمر لم يستسغه الفرنسيون، سيعملون كل شيء لإغلاق الأبواب أمام الجزائريين بفرنسا".
"نحن أصلاً كنا نواجه وضعية صعبة للوصول إلى الوظائف والحصول على صفقات المشاريع، ونلجأ عادة لطرق ماكرة لتحقيق ذلك"، بحسب توهاني، الذي أوضح أن كثيراً من الجزائريين يضطرون لتغيير أسمائهم العربية في عديد من الحالات، للحصول على وظائف أو صفقات، أو إدخال شريك يحمل اسماً فرنسياً للحصول على الصفقات فيما يتعلق بالشركات. وقال في هذا الإطار "كانوا يغلقون النوافذ أمامنا، والآن هم بصدد إغلاق حتى الأبواب في وجوهنا". وختم توهامي بالتأكيد على أن تصريح تبون الداعم للجالية تم استقباله بإيجابية من طرف المهاجرين في فرنسا، وشدد على أن الكثير منهم يفكر جدياً في العودة إلى الجزائر وإقامة مشاريع بها.