فيما تحاول فرنسا التصدي لأعنف احتجاجات ضد العنصرية شهدتها البلاد، نقل عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سعيه إيجاد حل نهائي لمسألة العنف وأزمة الضواحي وسط جدل في فرنسا حول مسألة معالجة أوضاع المهاجرين وأحيائهم بين من يطالب بمزيد من التشدد الأمني ومن يدعو بإيجاد حل للمشاكل من جذورها.
الاحتجاجات نشبت رداً على ما يعتبره الكثيرون عنصرية من الشرطة الفرنسية، تمثلت في حادثة الشاب ذي الأصول الجزائرية نائل مرزوق، الذي رفض الامتثال لطلب الشرطة بالتوقف، فأطلق شرطي الرصاص على صدره؛ ما أدى إلى وفاته، ثم ادَّعت الشرطة أن نائل كان سيدهس شرطياً، وهو ما تبين عدم صحته عندما نشر فيديو للحادث.
مقتل نائل من أعراض نزعة مقلقة للشرطة في فرنسا، والتي حذر منها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مايو/أيار الماضي من "الاستخدام المفرط للقوة".
وتتهم الشرطة الفرنسية بأنها تواصل ممارسة العنف بشكل غير متناسب وفقاً للعرق.
بعد تعديل القانون الذي ينص على استخدام الأسلحة النارية في عام 2017، يمكن للضباط الآن إطلاق النار في مجموعة من الظروف الواسعة (وغالباً ما تكون غامضة). تم ربط هذا القانون بـ 13 حالة وفاة بعد توقف حركة المرور في عام 2022 وحده.
وفقاً لأرقام الحكومة الفرنسية، من المرجح أن يتم توقيف الرجال السود والعرب من قِبل الشرطة بنسبة 20 مرة أكثر من غيرهم.
في مواجهة الاحتجاجات الواسعة، استخدمت الشرطة الفرنسية بانتظام الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية – وهي ممارسة نادرة أو محظورة تماماً في أماكن أخرى من أوروبا.
وبلغت حدة العنف لدرجة أن مثيري شغب في فرنسا صدموا منزل رئيس بلدية بجنوب باريس بسيارة، ما أدى إلى إصابة زوجته وأحد أطفاله، حسبما قال رئيس البلدية، وذلك في هجوم شخصي غير عادي قالت السلطات إنه سيحاكم كمحاولة قتل.
انقسام كبير حول طريقة معالجة أزمة الضواحي
عندما التقى ماكرون أمس الثلاثاء مع أكثر من 250 رئيس بلدية واجهوا أعمال عنف في البلدات والعقارات، سلطت نداءاتهم للمساعدة الضوء على الانقسامات السياسية العميقة.
وقال رؤساء البلديات المنتمون لليمين إن هناك حاجة إلى مزيد من "السلطة" والشرطة والحزم. انضم البعض إلى ماكرون في دعواته للآباء للسيطرة بشكل أفضل على المراهقين. لكن أولئك الذين على اليسار قالوا إنه كان هناك فشل في معالجة الفصل العنصري و"الغيتوازية" في المناطق الفقيرة، حيث كان هناك تمييز وعدم مساواة في التعليم وسياسة إسكان ركزت الفقر في "ضياع الأراضي"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
وقالوا إن السنوات القليلة الماضية من برامج التجديد الحضري عندما تم إنفاق الملايين على هدم وإعادة بناء بعض الأبراج في العقارات – فشلت في معالجة القضايا الاجتماعية الأعمق.
وفي مؤشر على انقسام كبير بالمجتمع الفرنسي، بحلول صباح يوم الإثنين الماضي، اجتذبت صفحة GoFundMe لدعم ضابط الشرطة المتهم بقتل ناهل أكثر من 800 ألف يورو (690 ألف جنيه إسترليني) من التبرعات. جاء في الصفحة أن الضابط "كان يؤدي وظيفته ويدفع الآن ثمناً باهظاً مقابل ذلك".
وتبين إحصائيات وزارة الداخلية أن الأمن وضع يده على 3500 شخص منذ أسبوع، وأن 6 آلاف سيارة أحرقت و1110 مبانٍ عامة خاصة أضرمت فيها النيران أو تضررت منها 60 مدرسة إلى جانب 1000 متجر تعرض للنهب، وأن 808 رجال شرطة وأمن أصيبوا بجراح. وهذه المحصلة تتخطى ما عرفته فرنسا خلال 3 أسابيع من أعمال الشغب في عام 2005 أو ما عانت منه إبان حراك السترات الصفراء بدءاً من أواخر عام 2018. وأخيراً، حسب صحيفة الشرق الأوسط السعودية.
يراهن ماكرون على القضاء، وقد طلب من وزير العدل أن يدعو القضاة إلى التشدد وأن تكون يد العدالة "ثقيلة"، حتى تشكل الأحكام المنطوق بها "رادعاً" للمستقبل.
وفي هذا الإطار، وأكثر من ذلك، يريد ماكرون معاقبة مالية لأهالي القاصرين أو المراهقين الذين يشاركون في أعمال الشغب. وقال خلال زيارة إلى ثكنة للشرطة في العاصمة مساء الإثنين: "يجب عند حدوث أول مخالفة التمكن من معاقبة العائلات مالياً وبسهولة، وهو نوع من رسم بالحد الأدنى فور ارتكاب أول هفوة".
ماكرون هو الذي أشعل أزمات مسلمي فرنسا أو بالأحرى أزمات فرنسا مع الإسلام
عندما كان ماكرون مرشحاً للرئاسة لأول مرة عام 2017، كانت الأزمة بين فرنسا ومسلميها قد شهدت تراجعاً كبيراً بعد عهد الرئيس الاشتراكي الهادئ فرانسوا هولاند.
وقدم ماكرون نفسه في هذه الانتخابات كليبرالي وسطي منفتح يطالب بتفهم وضع الإسلام في فرنسا والكف عن مطاردة مظاهره العلنية في الحياة العامة، والذي سيقطع فرنسا عن ماضيها الإشكالي مع العرب والمسلمينن في الداخل والخارج.
فماكرون المرشح في 2017، كان يحمل "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، الذين يمثلون نحو 6% من الناخبين، والتي كان من المتوقع أن يتقاسمها كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون، ولكن خطابه المتسامح جعل أصوات المسلمين تتجه إليه، بعد أن غازل الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية".
فأصوات المسلمين كانت حاسمة في وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، بعد أن كانت المنافسة في الدور الأول جد حادة والنتائج متقاربة، ولكن خطة ماكرون جاءت من خلال سحب أصوات المسلمين من مرشحي اليسار، بجناحيه المعتدل والراديكالي ثم سحق اليمينية مارين لوبان في المرحلة الثانية.
ولكن بعد وصوله للسلطة انقلب على المسلمين الذين أوصلوه إلى الحكم في 2017، وأطلق حربه الضروس ضد معتقداتهم، من الدفاع عن الإساءة إلى النبي (ص)، والادعاء أن "الإسلام في أزمة"، وحديثه عن "الانعزالية الإسلامية"، في إشارة لقضايا حساسة بالنسبة للمسلمين مثل: الحجاب في المدارس، والنقاب في الأماكن العامة، وفرض قيود على بيع الطعام الحلال.
كما شن ماكرون حرباً على المنظمات الإسلامية والتي كثيراً منها أيدته في انتخابات 2017، وتعاونت معه في التصدي للإسلام المتطرف.
كما خاض ماكرون معارك ضد ظواهر نادرة الوجود بين مسلمي فرنسا مثل تعليم الأبناء خارج نظام التعليم الرسمي، تاركاً ظواهر التهميش والعنصرية تتفاقم في أحياء المهاجرين.
واختلق معارك خارجية وداخلية مع المسلمين بعد أن كان حامل لواء الإسلام، ويبدو أن كل ذلك لأسباب انتخابية، لأنه استفاد من أصواتهم ليصبح رئيس جمهورية، وهو يعلم أنه في ظل ضعف مرشحي اليسار فإن المسلمين والمعتدلين الفرنسيين سيكونون مضطرين لانتخابه أمام مارين لوبان في الجولة الثانية، وهو ما حدث في انتخابات 2022.
رجال الدين المسلمون وقفوا وسطاء بين المحتجين والشرطة في عام 2005
في أكتوبر/تشرين الأول 2005، وقعت اضطربات مشابهة بعد مقتل اثنين من المراهقين ذوي الأصول المهاجرة صعقاً بالكهرباء بعد أن اختبآ في محطة كهرباء فرعية هرباً من الشرطة.
أوليفييه كلاين وزير الإسكان الحالي كان في ذلك الوقت النائب الأول لرئيس بلدية كليشي، وهي البلدية التي لجأت لرجال الدين المتدينين للحد من العنف، فوقف حوالي 60 متطوعاً، ملتحين يرتدون الزي الأبيض التقليدي بتنظيم من قبل المسجد المحلي، بين الشباب المحتج وسلطات إنفاذ القانون، وقاموا باحتواء من رشق الحجارة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Le Monde الفرنسية.
وأوضح كلاين في نهاية أمسية مليئة بالتوتر الشديد: "في حالة الطوارئ، كل النوايا الحسنة أمر مهم". "وجودهم ساعد على تهدئة الأمور".
في الاضطرابات الأخيرة، قال وزير الإسكان: "إن الآباء وحتى الشباب الذين رأيتهم بالأمس يريدون فقط أن يتوقف الأمر. "حتى أكثر الوسطاء تكريساً، كما روى، شعروا بالعجز في مواجهة صغار السن الذين نشأوا على أنهم لا يمكن السيطرة عليهم".
كانت السلطات الفرنسية على مدار سنوات ماكرون هي التي تهاجم رجال الدين وتطردهم وتقلل من احترامهم، حتى لو أراد رجال الدين المحليين في الأحياء التدخل، فإنهم لن يلقوا آذاناَ صاغية مثلما حدث في عام 2005.
فرنسا التي نحبها ولا تحبنا
يقول كثير من الباحثين إن المشكلة ليست في مسلمي فرنسا، بل في السياسة الفرنسية التي أعاد ماكرون تأجيجها.
وتقول الباحثة أميرة أبو الفتوح إن حملة ماكرون ضد المسلمين كانت "نتاج عنصرية متجذرة في أعماق النفس الفرنسية". وهكذا، فإن الأزمة الحالية لم تكن تتعلق بالإسلام بل "بالقيم الفرنسية". وقال رمزي بارود إن المشكلة الحقيقية هي أن ماكرون يعاني من الاستياء الشعبي من حكمه. ومن هنا كان تحوله إلى استهداف "الجاليات الفرنسية العربية والإفريقية الأكثر تهميشاً وفقراً في فرنسا باسم النضال من أجل" قيم "الجمهورية ضد "الإرهاب الإسلامي".
ما فعلته فرنسا أنها حاولت إبعاد مسلميها خاصة من الشباب عن هويتهم التقليدية، بدعوى إدماجهم في التيار السائد للمجتمع الفرنسي، فأضعفت علاقة هؤلاء الشباب بجذورهم وهوياتهم الدينية والوطنية، وفي المقابل، لم تستوعبهم فرنسا العلمانية، فظلوا يتعرضون للتمييز والاضطهاد حتى ولو خلعوا الحجاب والتزموا بالقيود المفروضة على حرياتهم الدينية، وحتى لو مات آباؤهم من أجل تحرير فرنسا من النازية، أو كما قال سياسي فرنسي من أصول عربية إنها "فرنسا التي نحبها ولا تحبنا".
تسلط الأزمة الحالية الضوء على محنة العديد من الشباب الفرنسي البائس والمنسي والمهموم. "المساواة" هي الدعامة الثالثة للدولة الفرنسية، لكن البلاد أصبحت أكثر انعداماً للمساواة. مثل هذه التفاوتات هي ذاتية الاستمرارية في نظام حيث يأتي 30 في المئة من إنفاق الأسرة من منح البطالة وإعانات الأسرة.
إن مشكلة الفقر في فرنسا لا يساعدها نظام التعليم العالي الطبقي الصارم ومعدل البطالة المرتفع بعناد، والذي ينتج عن ضعف المهارات، وصعوبة سوق العمل، وتشريعات حماية العمالة، وارتفاع تكاليف صاحب العمل. في مثل هذا النظام، الاشتباكات بين سكان الضواحي الفرنسية والشرطة ليست نادرة.
في عام 2020، أظهر استطلاع للرأي بين مسلمي فرنسا أن 90 في المئة قالوا إنهم يحبون فرنسا، بينما قال 82 في المئة إنهم فخورون بكونهم فرنسيين. ومع ذلك، قال 44 في المئة إنهم لم يحظوا بتقدير جيد من قِبل بقية المجتمع. ارتفع هذا الرقم إلى 61 في المئة بين المجتمع الأفقر. تظهر هذه الأرقام أنه بدلاً من "الانفصالية" التي أكدها ماكرون في خطابه، فإن مشكلة المسلمين في فرنسا هي مشكلة الاغتراب.
أخبر أوليفييه روي، المسؤول عن الإسلام السياسي، لجنة برلمانية قبل أعوام أن معظم المسلمين يبذلون جهداً للاندماج في الثقافة الفرنسية، لكنهم غالباً "لا يحصلون على مردود في المقابل، ولا يتمتعون بميزة الاعتراف".
ليست هناك أرقام حتى لرصد مشكلات الأقليات
إحدى الإشكاليات الكبيرة في الثقافة الفرنسية، أنها لا تعترف رسمياً بوجود أقليات بدعوى أن ذلك يمثل نوعاً من التمييز؛ بل إن فرنسا كان لديها التبجح الكافي لتحظر أكبر منظمة إسلامية في البلاد مناهضة للإسلاموفوبيا.
يعني ذلك أنه بينما تمارس العنصرية ضد العرب والأفارقة والمسلمين، بشكل غير رسمي ولكن مستمر، فإنه لا توجد وسيلة غالباً لقياس هذا التمييز ورصده، لأنه نادراً ما يكون هناك إحصاءات أو بيانات عن أساس عرقي أو ديني.
وعلى جانب آخر، بينما تواصل فرنسا تحطيم وإضعاف المنظمات والقيادات الرسمية والتقليدية بما في ذلك التضييق على منظمات كانت حليفة للسلطة وطرد رجال دين متعاونين معها، وأن تتيح الفرصة لتعزيز دور الروابط غير الرسمية بما في ذلك الإجرامية في الأحياء الفقيرة، بل إن سكان الأحياء الفقيرة المكتظة بالمهاجرين يقولون إن الشرطة الفرنسية تتعمد ترك مناطقهم لعصابات الجريمة المنظمة؛ لأن يفضلون أن يترك العرب بعضهم بعضاً.
فطرُد إمام مسجد ذو شعبية؛ لأنه تلا آية من آيات القرآن الكريم لا تعجب ماكرون، يعني أن بديله على الأرجح سيكون زعيم عصابة محلي.
علماء يرون أن المشكلة في نظام فرنسا
المشكلة في النظام المركزي المتشدد الذي تتبعه فرنسا بهدف دمج المهاجرين في الثقافة الفرنسية قسراً، وقطع علاقاتهم بهويتاهم الأصلية، بعكس ما هو سائد مثلاً في بريطانيا. وهذا الاندماج ليس سهل المنال، ما يُفضي مباشرة إلى التهميش، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط.
وهذه القراءة يتبناها عالم الاجتماع أوليفيه غالان، الذي له مؤلفات كثيرة في هذا الخصوص، وقال في مقابلات كثيرة أجريت معه، في الأيام الأخيرة، حول علاقة شبان الضواحي والأحياء الشعبية، إن هؤلاء "يكنّون كراهية" لرجال الشرطة، لأنهم يرون أنهم "مستهدفون إما للون بشرتهم، وإما بسبب ديانتهم"، وأنهم يتعرضون للمساءلة عشرين مرة أكثر مما يتعرض له مواطن أو مهاجر ولاجئ أبيض البشرة.
قال مسؤول حكومي إن ماكرون يريد الآن "الاستماع باهتمام" للسياسيين على الأرض، ومحاولة فهم الأسباب العديدة المعقدة للاضطرابات قبل طرح اقتراحات، حسبما ورد في صحيفة the Guardian البريطانية.
أولويته العاجلة في الأيام المقبلة هي استعادة ما سمّاه المصدر الحكومي "النظام الدائم"، أكثر من 45 ألف شرطي في الليل واصلوا دورياتهم في المناطق التي لم تهدأ تماماً. لم يعلن ماكرون عن عمد حالة الطوارئ مثل تلك التي حدثت في 2005، عندما تسببت وفاة صبيان مختبئين من الشرطة في محطة كهرباء فرعية في كليشي سو بوا، خارج باريس، في أسابيع من الاضطرابات في العقارات.
ونقل عن أوساط الرئاسة أن ماكرون "يريد وقتاً للتفكير والتشاور"، وأنه يسعى إلى "بدء عمل دقيق وطويل الأمد" لفهم الأسباب العميقة التي أدت إلى هذه الأحداث، حسبما ورد في الصحيفة.
وتشير مصادر سياسية إلى أن ماكرون طلب من الوزير السابق جان لوي بورلو، المعروف بتخصصه في المسائل الاجتماعية، تقريراً عن الضواحي وعما يتوجب القيام به لتجنب اندلاع أحداث كالتي تعرفها فرنسا منذ أسبوع. وقدم بورلو تقريراً مفصلاً لرئيس الجمهورية في عام 2018، إلا أن التقرير بقي في الأدراج.
وكان الوزير السابق ذائع الصيت، جان لويس بورلو، قد قام في عام 2018 بجولة في البلاد، بناء على طلب ماكرون، حيث قام بزيارة مشاريع الإسكان المتعثرة، واجتمع مع رؤساء البلديات مثل عمدة غريني (قرب باريس) الشيوعي فيليب ريو.
التقرير الضخم المكون من 60 صفحة يحتوي على 19 اقتراحاً رئيسياً لإعادة إصلاح الضواحي ومحاربة البطالة بها، أصر عمدة ريو في ذلك الوقت على أنه يجب على ماكرون قبول جميع المقترحات.
لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي جنب التقرير بسبب التكلفة الهائلة للخطة التي اقترحها.
في المقابل انتقد البعض التقرير، وقالوا إن خطة بورلو لا تعالج المزيد من المشاكل المترسخة، مثل التغلب على التحيزات الفطرية من قِبل أرباب العمل والمجتمع الفرنسي على نطاق أوسع.
سافر ماكرون الشهر الماضي إلى مرسيليا، حيث كان ينوي استخدام مختبر لتحسين الحياة والتعليم في المناطق الصعبة، وأمر بتقليص عدد التلاميذ في الفصول الدراسية في المدارس الابتدائية في المناطق المحرومة، لكن رؤساء البلديات قالوا إن نظام التعليم في فرنسا لا يزال أحد أكثر الأنظمة التعليمية تفاوتاً في العالم.
وقال فيليب ريو، العمدة الشيوعي لمدينة غريني، والتي تشتهر بالمباني الشاهقة ومعدلات الفقر المرتفعة، هذا الأسبوع، إن نصف الأطفال المحليين تركوا المدرسة دون أية مؤهلات.
يشير ريو إلى ندرة الرعاية الصحية الأساسية، مثل اللقاحات الأساسية وفحوصات سرطان الثدي، التي لا يمكن تصورها في أجزاء أخرى من فرنسا.
في غضون ذلك، تريد الجماعات الحقوقية من السلطة التنفيذية أن تنتبه لما قالته المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، التي قالت عن إطلاق النار على الشرطة: "هذه لحظة للبلاد للتصدي بجدية للقضايا العميقة للعنصرية والتمييز في إنفاذ القانون. لكن الحكومة أصرت على أنها قضية ضابط واحد لم يحترم القواعد، ولا توجد مشكلة منهجية أو مؤسسية في القوة"، بحسب زعمها.
وقال عالم الاجتماع أوليفييه غالاند: "المشاكل عميقة للغاية، فهي بحاجة إلى استجابة هيكلية لن تُظهر آثاراً إلا على المدى الطويل.
تبدو أزمة فرنسا نابعة من كون هذا البلد الأوروبي المتقدم يجمع بين أسوأ ما في اليمين واليسار، إضافة لعلمانية متطرفة، ودولة مركزية اعتادت على محو الفوارق بين المجتمعات بالقوة عبر تاريخها.
النزعات اليسارية في الثقافة الشعبية الفرنسية تُشجع على الاحتجاج الدائم على السلطة (وإن كان هذا الحق يكاد يكون محتكراً للبيض) ورفض الإصلاحات الاقتصادية، الأمر الذي يُبقي تنافسية الاقتصاد الفرنسي ضعيفة.
على الجانب الآخر، فإن النزعة اليمينية تؤدي لمنح الشرطة سلطات لا مثيل لها في أوروبا، وهي تطبَّق في الأغلب فقط على ذوي الأصول المهاجرة.
كما أن النظام الاجتماعي الطبقي يُفضي فعلياً إلى فوائد جمة للفرنسيين البيض، الذين يستفيدون من الأجور المنخفضة لسكان الضواحي المهمشين.
المركزية العلمانية الفرنسية ترفض منح المسلمين حق أن يحتفظوا بهوياتهم، وقياداتهم الدينية، رغم أن هذه القيادات هي التي أسهمت في وقف احتجاجات 2005، ولكن سرعان ما حاربتهم باريس بعد انتفاء الحاجة إليهم، تاركةً المجتمع المسلم، الذي أخفقت في احتوائه، بلا قيادة.
المركزية والهوس بالوطنية الفرنسية التي لا تؤمن بحق الاختلاف الديني والإثني توفر غطاء أيديولوجيا لإنكار وجود مشكلات عنصرية، وهذه المشاكل العنصرية يعلمها الجميع، ولكن الحديث عنها ممنوع، ما يؤدي لتراكم الشعور بالمظالم، وتفاقم سوء أوضاع المهاجرين، والأخطر انفجارات كل فترة قد تأتي في شكل عمل إرهابي، أو احتجاجات ضواحٍ عنيفة.
تريد فرنسا كل شيء، تريد مسلمين علمانيين يعملون بجد على أن ينسوا جذورهم، ومنقادين للثقافة الفرنسية بلا قيادات ذاتية، دون أن تحترمهم كمسلمين ولا فرنسيين.
ولكن هل يستطيع ماكرون إيجاد حل لهذه المشكلة بعدما أسهم في تفاقمها؟
المفارقة أن الرجل جاء في وقت كانت فيه مشكلات الأقليات المسلمة في فرنسا في أدنى مستوياتها، ولكنه أشعلها لأسباب انتخابية بحتة، واليوم تسيل اضطرابات الضواحي لعاب السياسية اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، التي تتبنّى خطاباً متحفظاً يليق بأمراة تريد أن تتبوأ عرش فرنسا.
قد يكون ماكرون، الذي لا يُسمح له بالترشح في الانتخابات القادمة، أمام فرصة ذهبية ليعيد النظر في سياسته التي وصمته بين كثير من المسلمين كعدو للإسلام والعرب، وذلك بعد أن تخلص من ضغط المزايدات الانتخابية الرخيصة.
ولكن يحتاج ماكرون إلى العودة لخطابه في رئاسيات 2017، وأن يعرف أن أزمة الأقليات في فرنسا ليست فقط في نقص التمويل، ولكن في الاعتراف بالعنصرية الكامنة في فرنسا، والمختفية خلف شعارات الحرية والمساواة، والبديل يجب أن يكون احترام المسلمين، والسماح لهم كبقية الدول المتحضرة بممارسة حرياتهم الدينية، وتفهّم أنهم يمكن أن يكونوا فرنسيّين مخلصين ومسلمين متدينين في الوقت ذاته.