يأمل المتشددون اليمينيون في إسرائيل بمن فيهم الوزراء المتطرفون المشاركون في القضاء على المقاومة في جنين ومخيمها من خلال العملية العسكرية الحالية، ولكن الجيش الإسرائيلي له رأي آخر على ما يبدو.
تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية في تقرير لها، إن ردود الأفعال المتحمسة من الوزراء ونواب الائتلاف الحاكم تُشير إلى أن العملية العسكرية التي بدأت في جنين مساء الأحد، الثاني من يوليو/تموز، على وشك أن تسجل نقطة تحول محورية.
الجيش الإسرائيلي يخيب آمال المتطرفين ولا يخطط للقضاء على المقاومة في جنين
لكن قد يكون من الأفضل لأعضاء الائتلاف أن يخفضوا سقف توقعاتهم قليلاً، لأن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي تتحدث عن عملية مختلفة تماماً. مما يعني أن هذا التحرك سيكون محدوداً من حيث الوقت، والقطاع، والأهداف.
حيث يتمثل الهدف في ضبط الجهود المسلحة الفلسطينية داخل جنين، وهي الجهود التي اكتسبت زخماً في الـ18 شهراً الماضية. وتأمل القيادة تحقيق ذلك بتوجيه ضربةٍ ستزيد صعوبة عمل تلك المنظمات من داخل مخيم جنين للاجئين، وذلك لفترةٍ من الوقت. ويُمكن القول إن خبراء مؤسسة الدفاع الإسرائيلية ليست لديهم أوهام بأن هذه العملية ستحقق تغييراً جوهرياً في الواقع الأمني.
وسيتواصل الوضع الراهن على الجانبين حتى بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنين، كما سيأتي ذلك الخروج في وقت أسرع بكثير مما يتصوره اليمينيون. إذ سيحتفظ المسلحون الفلسطينيون بحماسهم الشديد للمشاركة في مواجهات مسلحة مع القوات الإسرائيلية، في ظل استمرار عزوف -أو ربما عجز- السلطة الفلسطينية عن كبح جماحهم. بينما ستواصل حكومة نتنياهو المتشددة للغاية سياستها الشاملة لتوسيع مناطق المستوطنات والبؤر الاستيطانية اليهودية في الضفة.
ولم يرغب الجيش الإسرائيلي في شن عملية واسعة النطاق شمال الضفة الغربية في البداية، بل كانت هيئة الأركان تفضل الاستمرار في شن المزيد من العمليات نفسها، عن طريق مواصلة الاعتقالات داخل مخيم اللاجئين، وربما داخل مدينتي جنين ونابلس أحياناً كل بضعة أيام. لكن المستوطنين ومبعوثيهم في الكنيست زادوا الضغط المفروض على الجيش الإسرائيلي تدريجياً.
إذ شهدت الأشهر الأخيرة زيادة حادة في عدد الوقائع التي جرت على طرقات الضفة الغربية، بدايةً بإلقاء الزجاجات الحارقة ووصولاً إلى هجمات إطلاق النار.
وفرضت تلك الوقائع ضغطاً قوياً على الحكومة الإسرائيلية من أجل التحرك. ولا شك أن اعتبار الحكومة يمينيةً متطرفة هي حقيقة حاصرتها في مأزق يفرض عليها الوفاء بوعودها -على غير العادة، بعد أن وعد شركاء الحكومة بتغيير الوضع الأمني عندما كانوا في صفوف المعارضة.
بينما يُعَدُّ يوسي داغان، رئيس مجلس شمرون (السامرة) الإقليمي، أحد الشخصيات الرئيسية في هذا المزيج. إذ شن حملةً فعالة داخل الليكود بهدف الحصول على موافقةٍ لتنفيذ العملية. وقد تراكمت المزيد من الأسباب في تلك الأثناء. إذ حذر جهاز الشاباك الأمني من تحسُّن جودة العبوات الناسفة التي يتم إنتاجها في جنين، بينما نشر الفلسطينيون مقطع فيديو لصاروخين تم إطلاقهما من جنين ليجتازا الخط الأخضر نحو إسرائيل. كما ظهرت بعض الشكوك حيال استخدام طائرات مسيرة متفجرة.
ورغم ذلك فإن ما يخطط له الجيش الإسرائيلي لا يرقى إلى مستوى تخيلات داغان وغيره.
حيث قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد دانيال هغاري خلال حديثه إلى الصحفيين صباح الإثنين، الثالث من يوليو/تموز، إن العملية ستشهد مداهمةً لمخيم اللاجئين بلواءٍ عسكري. وأوضح أن الهدف يتمثل في قتل أو اعتقال المسلحين، وتحديد مواقع الأسلحة ومراكز القيادة ومخازن العتاد لتدميرها. وبمجرد أن يتوقف الائتلاف الحاكم عن مدح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على قراره بشن العملية؛ فسيكتشفون أن العملية قد انتهت بالفعل دون إحداث تغيير كبير.
لماذا لا يريد جيش الاحتلال التوغل والبقاء طويلاً في جنين؟ يخشى حرب أزقة
وتتمثل أوجه الاختلاف الرئيسية لهذه العملية في حجم القوة المشاركة، التي تُعَدُّ أكبر من المعتاد بالنسبة للضفة الغربية، ناهيك عن قرار افتتاح العملية بقصف جوي على غرفة عمليات تديرها الميليشيات الفلسطينية في مخيم اللاجئين.
لكن الصحيفة الإسرائيلية تقول إنه يجب "وضع الأمور في نصابها. إذ نتحدث هنا عن شقة واحدة لقي ثلاثة مقاومين مصرعهم داخلها، وليس هجوماً واسع النطاق على مراكز القيادة كما يحدث في عمليات قطاع غزة أحياناً".
وقد شدّد هغاري على أن القوات ستستولي على المنازل الموجودة على أطراف المخيم، لكنها لا تخطط لاحتلالها. يُذكر أن العمل داخل المناطق الحضرية المزدحمة وتبادل إطلاق النار على مسافات قصيرة نسبياً مع أفراد المقاومة في جنين يقللان الأفضلية التكتيكية التي يتمتع بها جيش الاحتلال، ويزيدان في الوقت ذاته مخاطر وقوع خسائر في صفوفه.
وتكمن إحدى المشكلات التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في خبرة العمليات المحدودة نسبياً لدى الجنود في هذا النوع من القتال.
ولا يريد دخول غزة في المعركة
كما أن الحاجة إلى إنهاء العملية بسرعةٍ نسبية تنبع جزئياً من مخاوف اشتعال الأحداث على جبهات أخرى. إذ تتحدث مؤسسة الدفاع باستمرار منذ مطلع العام عن خطر الجبهة المشتركة، التي قد تتشكل عندما تؤدي الوقائع في القدس أو الضفة الغربية إلى إطلاق الصواريخ من غزة أو سوريا أو لبنان.
وبرغم التصعيد في جنين خلال الوقت الراهن، لم تتوقف إسرائيل عن السماح للفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة بدخول أراضيها للعمل. لكن استمرار ارتفاع أعداد الضحايا الفلسطينيين نتيجة القتال في جنين يزيد خطر شن هجمات انتقامية، سواء عبر نيران الصواريخ أو هجمات الذئاب المنفردة داخل إسرائيل.
أما بالنسبة للبنان، فيمكن القول إن الأوضاع هناك متوترة بالفعل، وقد كانت كذلك منذ نصب حزب الله خيمتين جنوب الحدود في منطقة مزارع شبعا الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وتمت إزالة واحدة من الخيام في يوم الأحد، لكن تظل هناك بعض العناصر المسلحة المتمركزة جنوب خط الحدود.
ولا تزال الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة جارية، لكن اندلاع جولة قتال مطولة في الضفة الغربية قد يؤدي لنتائج سلبية على الأحداث الجارية في الشمال.
ويتمثّل الأمر الغريب في أن الجيش الإسرائيلي رفض تسمية العملية، أو حتى وصفها بأنها عملية من الأساس.
لكن جهود الجيش للتقليل من أهمية العملية ليست مقنعة رغم ذلك. إذ تقول الحقائق إن هناك قوةً بحجم لواء تحاصر جنين. ويعمل جزء من تلك القوة داخل المنطقة الحضرية. بينما يتفاعل مسؤولون دفاعيون وحكوميون مع العملية بدرجة مكثفة منذ عقد اجتماعات يوم الأحد التي سبقتها.
العملية جاءت قبل احتجاج ضد تعديلات نتنياهو القضائية
ولا شك أن الكثيرين شعروا بالارتياب إزاء حقيقة إطلاق العملية قبل أقل من يومٍ واحد على تنظيم احتجاج كبير، يستهدف الاعتراض على الإصلاح القضائي الذي تخطط له الحكومة.
تقول صحيفة هاآرتس: "من المفترض أن توقيت العملية جاء مصادفة. لكن نتنياهو لن يعترض بكل تأكيد في حال تحول تركيز الرأي العام ووسائل الإعلام إلى جنين، بدلاً من التركيز على تكتيكات المحتجين العدائية".
وفي الوقت الراهن، لا يهدد جنود الاحتياط من المحتجين بعدم المشاركة في العملية. لكن استمرار الائتلاف الحاكم في سن قوانين الإصلاح القضائي سيدفع بالجميع إلى لحظة اختبار حقيقي بمرور الوقت -ونتحدث هنا عن تصعيد مُطوّل في الضفة الغربية أو غزة أو على حدول لبنان؛ مما سيجعل جنود الاحتياط أقل حماساً لتأدية الخدمة بسبب الأزمة السياسية.
من جانبها، تقول صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية إنه لا تزال نتيجة عملية جنين مجهولة. لكن بعض نقاط البيانات المبكرة التي تم جمعها حتى الآن قارنت بين هذه العملية وبين عملية الدرع الواقي عام 2002، وكذلك عملية كسر الموجة التي انطلقت في مارس/آذار الماضي ولم تنتهِ حتى الآن.
ليست كالدرع الواقي
ومع ذلك، يُمكن القول إن العملية الجارية في الضفة هي أبعد ما يكون عن عملية الدرع الواقي.
انسحب الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية بعد نحو شهر في عام 2002. لكنه استمر في تطويق بعض القرى، وواصل الدخول والخروج منها بأعداد وتكرارية أعلى بكثير من أي شيء رأيناه طوال العام الماضي.
ولم يقدم الإسرائيليون أو الفلسطينيون حتى الآن شيئاً يُقارب حجم وأعداد تلك العملية. لكن العملية تُعَدُّ مختلفة نوعياً عن المداهمات والاعتقالات الروتينية التي يشنها الجيش، والشاباك، وشرطة الحدود تحت مظلة عملية كسر الموجة منذ أكثر من عام.
إذ شهدت العملية شن نحو 10 ضربات جوية، رغم أن الجيش الإسرائيلي لم يستخدم القوة الجوية في الضفة الغربية منذ عام 2006. ناهيك عن تعبئة لواءٍ كامل من الجنود، بعكس الأعداد الصغيرة التي تشارك من الفصائل أو الكتائب في المعتاد.
عملية الجيش الإسرائيلي تُشير إلى تحول استراتيجي بمكاسب مؤقتة
هناك نقطة اختلاف أخرى تتمثل في أن نتنياهو ورئيس الأركان هرتسي هاليفي يتابعان ويديران العملية شخصياً، ولحظةً بلحظة، بدلاً من ترك المهمة لحاملي رتبة المقدم في الإدارة الوسطى.
ولن تستمر العملية لأجل غير مسمى، على حد تصريح هغاري في يوم الإثنين. وأضاف هغاري أنه من المحتمل إنهاء العملية في غضون عدة أيام.
علاوةً على أن قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية دخلت الآن في حالة استنفار قصوى على الجبهتين الشمالية والجنوبية، خوفاً من أن تؤدي العملية لإطلاق صواريخ المقاومة. ومع وضع كل هذه الزوايا بعين الاعتبار، فسنجد أن نطاق العملية الحالية ليس قريباً حتى مما كان يحدث في العام الماضي، بل تمثل العملية محاولة واضحة لتعديل المشهد الاستراتيجي باستعراضٍ كبير للقوى.
أما على صعيد النتيجة النهائية، فمن المرجح أن تتمخَّض العملية عن إنجازات تكتيكية مؤقتة للغاية بالنسبة لإسرائيل.
وسيخرج الوضع بهذه الصورة لأن كلا الجانبين ليس مستعداً لعملية درعٍ واقٍ أخرى، وخاصةً مع تكاليفها البشرية الباهظة. وليس كلا الجانبين مستعداً كذلك لانفراجة دبلوماسية جديدة، وهي الخطوة التي قد تمنح الأمل للجانب الفلسطيني وتقلل شعبية الجماعات المسلحة.
لماذا لم يسقط أي ضحايا بين صفوف جيش الاحتلال؟ الأمر ليس مهارة بل نتيجة حذره الشديد
لم تُسجّل أي وفيات إسرائيلية نتيجة العملية حتى وقت كتابة التقرير. ولا يرتبط ذلك بالمهارة أو التوفيق، بل يرجع السبب إلى أن الجيش الإسرائيلي يتحرك ببطء شديد وتخطيط استراتيجي محكم في معارك الأسلحة.
ولن يستمر ذلك الوضع طويلاً إذا دخل الجيش الإسرائيلي في مواجهة مباشرة مع الجماعات المسلحة لفترةٍ طويلة من الوقت.
ويستطيع جيش الاحتلال مصادرة مئات القنابل والبنادق، لكن سيظل بالإمكان تصنيع وشراء المزيد منها خلال أشهر. ويستطيع الجيش كذلك قتل قادة إحدى الجماعات المسلحة أو اعتقالهم، لكن ستظهر جماعات أخرى لتحل محلها بكل سهولة، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
وقد تحدث مسؤولون بارزون في الجيش الإسرائيلي لصحيفة The Jerusalem Post عن الأسباب الرئيسية لفشل الجيش في قمع موجة المسلحين العام الماضي. وذكروا مراراً أن أحد تلك الأسباب يتمثل في أن المراهقين واليافعين الفلسطينيين اليوم لا يتذكرون عملية الدرع الواقي من الأساس. إذ ولدوا في واقع الوضع الراهن اللاحق لتلك العملية، ولهذا لا يردعهم شيء عن قتال الجيش الإسرائيلي.
ويُمكن القول إن العملية الجارية لن تغير تلك الحقيقة الجوهرية للغاية، إلا في حال حصولها على قدرٍ أكبر من القوة والدبلوماسية بالطبع، أو بمعني آخر لا تريد الصحيفة الإسرائيلية قوله مزيداً من الوحشية مثل تلك التي حدثت في عام 2002، عندما هدم جيش الاحتلال مخيم جنين على رؤوس ساكنيه بعد مقاومته البطولية.